لبنانكم ولبناننا والمصير القومي
سليم العقل
نعود لنذكر بقول شاعرنا عن لبنان: أردناك للفكر الصحيح ضمانهْ …………. وأرادوك سترا ً لكل خيانهْ .
لقد مر على هذا القول نصف قرن، ولا يزال يصح في حال هذا الكيان منذ قرن ونصف من الزمن، عندما كان ولا يزال مشروع فتنة لبيئته الطبيعيًة ومحيطه القومي، في أذهان من لهم مصلحة في قتل الشاهد على همجيتهم وسرقتهم لتراث وحضارة هذه المنطقة، وإلى أن يصبح أبناء هذا الكيان جزءا ً لا يتجزأ من الفتنة والمؤامرة المستمرّة، وما زالوا لا يستحون.
وقبل أن نبدأ في عرض بانوراما الفتنة والمؤامرة لا بد من أن نذ ّكر الذين يدّعون منذ عقود تمثيلهم للبنان وللموارنة في لبنان على وجه التخصيص بالحقائق التالية:
إن الراهب مارون الحمصيّ الصريح، قد بنى دعوته على أن المسيحيّين في سورية ليسوا تابعين ولا يجوز أن يتبعوا لا لروما ولا لبيزنطة في خضم تزاحم القوتين واقتتالهما على مرجعية المسيحيين في العالم. ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن هذه المرجعية كانت الغطاء والقناع لتشكيل أميرالية انترناسيونية. ورأى مارون أن المسيحيين في سورية، وهم أهل المسيحية وأهل صاحب المسيحية وأهل صاحب رسالتها وورثته الحقيقيون، مرجعهم مسيحهم ابن شعبهم وأمتهم، ومركز كرسيهم الديني هو انطاكية، ولا يزال بطريرك الموارنة هو بطريرك انطاكية وسائر المشرق.
وإن دعوة مارون هي التي أسّست لهذا الموقف القوميّ الذي رفض التبعية لأجنبي أيّا كان، فكانت الطائفة المارونية المستقلة وكانت بطريركيتها الانطاكيّة منذ أوائل القرن الخامس الميلادي. وقد عانى الموارنة من عدائية القوتين الدوليتين الكثير. وهذا هو الأساس الذي يجب أن يبقى ماثلا ً أمام أبناء الطائفة المارونية الكرام، وأمام جميع المواطنين في لبنان وسائر كياناتنا وفي العالم العربي أجمع.
أما الاعتراف بمرجعية روما فقد كان بعد حوالي ثلاثة قرون على تأسيس كرسي انطاكية في زمن البطريرك يوحنا مارون، كقابل الاعتراف به شخصيا ً وبالمؤسس قديسا ً من قبل روما (حديد بقضامة).
وفي عهد الدولة الأموية كان جيش الموارنة، الذين سموا أنفسهم بالمردة، من أشرس جيوش معاوية السورّية العربيّة في مقارعة الروم، وفي عمليّات الفتح، وفي الدفاع عن ثغور الدولة. وهذا ما يذكره بأريحية وحماس الباحث المؤرّخ الأب هنري لامنس اليسوعي البلجيكي في محاضراته بالتاريخ في جامعة القديس يوسف في بيروت في بدايات القرن العشرين.
ولا ننسى أن جبل لبنان كان منطلق الأمير فخر الدين المعني الثاني لتحرير سورية من ربقة الاستعمار العثماني، وأنه أعلن الوحدة الوطنية بعد معركة عنجر التاريخية في حين كان نوابه يقيمون الأمن والنظام في منطقة بلاد بشارة ومرج بن عامر والسلط شرقي الأردن وحلب وغيرها من البقاع السوريّة، وأنه طارد جيوش الولاة العثمانيين حتى البوابات الكيليكية، وأن أساطيل الدول الأوروبية جاءت تقصف بيروت لتجبره على التراجع قبل أن يتمكن من قذف تلك الجيوش إلى خارج الحدود السورية. فعاد ليدافع عن مدينته واندفعت الجيوش التركية وراءه عائدة إلى دمشق وغيرها من مدننا. ..
ولا ننسى كذلك لا بل نؤكد أن الرهبان الموارنة هم أول من استقدم مطبعة باللغة العربية إلى العالم العربي، إلى دير القديس انطونيوس الكبير في شمال لبنان. وهم الذين كانوا سيف لغة الضاد وترسها في وجه حملة التتريك التي قادها العثمانيون لإلغاء لغة القرآن من العالم العربي وإحلال اللغة التركية البدائية مكانها. فليخرس المتقولون ومزوّرو التاريخ والجغرافيا وعبيد الأجنبي والإمبريالية المتهودة، من هنا وهناك، إلى الأبد. وبدءا ً من هذا الزمن العصيب، ومن الحروب الشرسة المتضامنة على شعبنا ومنطقتنا، لن يكون مكان في الصراع، في سورية كلها وفي أرجاء العالم العربي إلا لكلمة الحق والحقيقية!.
أما المفصل المعاصر لمسلسل الفتنة والمؤامرة فقد ظهر عندما قامت ثورة الفلاحين في كسروان (من أعمال جبل لبنان) في أواخر القرن الثامن عشر، بقيادة طانيوس شاهين سعادة من بلدة ميروبا وصالح صغير من بلدة ريفون. وكان الفلاحون يعانون في تلك المنطقة مرارات الفقر والإهمال وأبشع مظاهر الاستغلال على أيدي “مالكي” الأرض، فضلا ً عن الحكم العثملي الذي لا يحتاج إلى شهادة بالتسامح والرحمة وخدمة شعوب البلدان التي احتلـّها. وكانت أراضي كسروان تعود بأكثرها إلى الإقطاعيّين من آل الخازن وإلى البطريركية المارونية التي بدأت ترتبط بالغرب بوساطة البعثات التعليمية إلى أوروبا وبتعميق تبعيتها لروما ومسايرتها في الوقت نفسه للحاكم العثملي، وكانت فرنسا أولى الدول الأوروبية الناعمة بالامتيازات الشهيرة التي منحتها تركيا للدول الأوروبية في سورية، وبانطلاق الثورة لرن جرس الإنذار عند قتلة الشاهد وعبيدهم. فأحسوا بأن مصالحهم ستكون عمليا ً بين أيدي الثوار الأحرار إذا انتصروا، وأن أرض اللبن والعسل والخيرات التي يحرمون أهلها منها ستحرم عليهم قريبا ً. فبدأت الاتصالات والوشوشات وتعاويذ السحرة في الغرف السوداء من بيروت إلى باريس إلى اسطنبول إلى بكركي إلى جونيه .. .. فتم الالتفاف على الثورة وإطفاؤها، وبدأ العمل الوقائي ضد ثورات حقيقية جديدة. وقد وردت تفاصيل ذلك في كتاب من عدة مجلدات باللغة الفرنسية بعنوان “رسائل القناصل الفرنسيين في سورية إلى وزارة الخارجية في باريس” وهو يؤرخ لتلك المرحلة وما بعدها.
فكانت بوادر الفتنة عام 1842 بعد انقضاء حكم ابراهيم باشا المصري عن سورية ووعود الانجليز للسوريين بالاستقلال، واذ بانجلترا تدعم بقوة عودة الحكم التركي العثملي إلى سورية، فكان لا بد من فتنة تمنع ثورة حقيقية. فبدأت بين “صبيين” أحدهما درزي والآخر ماروني في إحدى قرى الشوف. وظلت تخبو وتشتعل حتى انفجرت بقوة عام 1860 وامتدت بسرعة من الشوف إلى راشيّا إلى دمشق إلى شرقيّ الأردن، وكان لليهود فيها بدمشق يد طويلة.
وقلقت الأم الحنون فرنسا على أحبّائها، فأرسلت بعثة عسكرية إلى سورية “لاستطلاع الحقائق” (يا للبراءة) والمساعدة على اجتراح الحلول الناجعة “حقنا ً للدماء”، أو بالدماء .. فاقترحت تلك البعثة العسكرية الفرنسية إقامة دولة مسيحية في سوريا قاعدتها جبل لبنان وعصبها الموارنة، ووضعت لها خارطة هي عينها خارطة الكيان اللبناني الحالي بمساحة 10452 كلم مربع. لكن الدول الأوروبية الأخرى وفي مقدمتها بريطانيا، كانت لا تزال تتمسك بدولة الخلافة الإسلامية العثملية. فكان الحل الدولي التدويلي أن تقوم في جبل لبنان قائمقاميتان واحدة للماورنة وأخرى للدروز. ولكن هذا الحل انحل سريعا ً، فقامت بدلا ً منه متصرفية جبل لبنان بمتصرف أجنبي مسيحي تعينه اسطنبول بعد استشارة الدول الأوروبية. وظلت هذه المتصرفية مستمرة مع استمرار الامتيازات الأجنبية في سوريا حتى تنفيذ اتفاقية سايكس – بيكو بين الفرنسيين والانجليز وحلولهم في حكم سورية محل الأتراك العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى (1918).
في حصة انجلترا (ارث جد الفايكنغ والانجلوساكسون)، كانت فلسطين التي ربط مصيرها بوعد بلفور، ولا يزال الصراع حولها محور الكون ومحور جميع فتن المؤامرة المستمرة على سورية والعالم العربي حتى هذه اللحظة.
وفي حصة فرنسا (ارث جد الغاليين والفرنك من قسمة سايكس – بيكو) كانت التقسيمات قد حددت دولة لبنان الكبير من نهر الأولي حتى وادي النصارى. وعندما اتصل ذلك بعلم غبطة بطريرك الموارنة المرحوم مار الياس بطرس الحويك (جد الاستقلال) قامت قيامته لأنه لا يريد سكان وادي النصارى من الارثوذكس ضمن حدود “دولته”. وطالب بفصلها وضم ما يسمى اليوم بجنوب لبنان وصولا ً إلى القرى المارونية في منطقة بنت جبيل على مشارف فلسطين (رميش وعين إبل وإبل السقي ودبل ومارون الراس والقوزح ..) أي وبتعابير مذكـّرته إلى الفرنسيين “دولة لبنان بحدوده التاريخية (*) ،حسب ما حددتها البعثة العسكرية الفرنسية إلى سوريا عام 1860. وكان لغبطته ما أمر به بحسب إرادته الحرة الأبية المستقلة غير المربوطة ولا المرتبطة. والتي أعلنها الجنرال غورو بلسانه الشريف بعد انجازاته في معركة ميسلون ودخوله دمشق. وهذه الوقائع عن سلوك سيدنا البطريرك المرحوم الياس الحويك رواها السفير بطرس زيادة في كتاب باللغة الفرنسية بعنوان “وثائق الاستقلال” ولا نعلم إذا كان الدكتور زيادة قد أصبح من مراحيم الله أو لا يزال في قيد الحياة.
وعندما استمرأ الفرنسيون التقسيم الطائفي وانساقوا فيه، أعلنوا دولة جبل الدروز ودولة اللاذقية للعلويين ودولة في حلب، فاستشاطت الثورة السورية الكبرى اشتعالا ً بقيادة سلطان باشا الأطرش وصالح العلي وابراهيم هنانو. فاضطروا إلى التراجع، ولم يبق من حسن صنائعهم وأفضالهم في حصتهم من قسمة سايكس – بيكو سوى دولة لبنان الكبير. كما بقيت في حصة الأصدقاء الإنجليز إمارة شرق الأردن لإقصاء العراق عن التماس مع الكيان اليهودي، حتى لا يقع بين فكي كماشة دمشق وبغداد، ويبقى بين برد بيروت وسلام عمان.
وبفعل الدسترة والقوننة والتشريعات المعمقة للتجزئة، وبفعل العلم التجهيلي المزور للتاريخ جملة وتفصيلا ً، وبفعل استمرار الوصاية باسم الحماية، والارتباط باسم الصداقة، والحقن المالي باسم الدعم، أصبح بعض أبناء هذا الكيان جزءا ً لا يتجزأ من الفتنة والمؤامرة الإمبريالية المتهودة المستمرة، وما زالوا لا يستحون، بعد أن ادعوا تمثيل طوائف لبنان، ووقفوا باستمرار وبعناد انتحاري فريد من نوعه ضد كل أشكال الوحدة أو التكامل أو التعاون مع بيئة لبنان الطبيعية وعالمه العربي، وظلوا متناقضين على الهوية الثقافية والقومية وصولا ً إلى الصيغة المحنطة الشمطاء التي أعلنوها عام 1943 بإرادة أمريكية محتجبة بقناع انجليزي سميك وبموافقة فرنسية، وهي أن لبنان وطن حر سيد مستقل استقلالاً منجزا ً بلسان عربي ووجه عربي. وهذه الصيغة التي قال فيها الأستاذ غسان الأشقر في إحدى جلسات المجلس النيابي إنها خيمة كراكوز لا تشبه شيئا ً من الأنظمة والدول في التاريخ. ولا يزال بقايا مومياءات الصيغة وفقسهم المصنع بالمشيئة الإمبريالية المتهودة خنجرا ً في خاصرة الأمة ضد التطور والتطوير وضد التضامن الداخلي الحقيقي وضد الوحدة وضد تحرير فلسطين الذي ستفرض الوحدة نفسها بتحقيقه ومن خلال تحقيقه. وهم يستمرون إلى الآن بألف وجه وألف لسان.
وقد زكـّوا مواقفهم الخيانية باستمرار بالمطالبة أولا ً بحياد لبنان بضمانة دولية ليؤكدوا على إقفال الباب نهائيا ً على مشاركة لبنان في الصراع من أجل فلسطين. فأطلقوا على لبنان في أدبياتهم سويسرا الشرق وطالبوا بتحويله إلى مركز سياحي دولي يفيض بالمال والملذات الطيبات. وقد فاتهم أن حياد سويسرا يحميه جيش من أقوى جيوش أوروبا، وهم يحمون خيانتهم وعمالتهم لليهود بالصراخ بأن لبنان قوته في ضعفه.
ولضمان استمرار تستـّر خيانتهم ومروقهم طالبوا القوى الدولية بإعلان ضمان استقلال لبنان. فكان البيان الثلاثي الأميركاني الفرنسي الانجليزي في بداية الخمسينات بضمان وجود لبنان وسلامة أراضيه، وخلف الكواليس لضمان عدم حصول ردّات فعل على موافقتهم على مشروع ايزنهاور الذي كان مقبلا ً وفي صلبه أن “إسرائيل” واقع تاريخي، وأن “إسرائيل” وجدت لتبقى. ولم يكن البيان الثلاثي ضد أطماع “إسرائيل” التي كانت منهمكة لحظة صدور البيان بابتلاع القرى السبع من أراضي دولة لبنان الكبير. ولم يحرك مومياءات الصيغة الخيانية ساكنا ً. وهذا البلع والابتلاع كان واضحا ً أنه يتم بمباركة أركان البيان الثلاثي الإمبرياليين المتهوّدين.
وفي عام 1982، استقبل مومياءات الصيغة المحنطة وفقسهم شارون في غرف نومهم بعد أن شاركوه مجزرة صبرا وشاتيلا، ليـبعق أحد غلمانهم منذ سنة أو أكثر، وهو في عداد نوائب الشعب في لبنان أنه يفاخر بتعامل عائلته اليهودية الاسكندرانية وحزبه المعروف مع “إسرائيل”، دون أن يطالب أحد في لبنان بطرده من مجلس النواب ومحاكمته.
ووصولا ً إلى حرب تموز 2006 حيث فحّت الخيانة من أركان الصيغة ولوثـّت رائحتها الكرة الأرضية بكاملها. فاستقبلوا كوندريزا لتقود معركة “إسرائيل” من بيروت ضد لبنان والأمة بأسرها. وكانت زيارتها أكثر وقاحة من زيارة بلفور لبلادنا بعد إنجاز وعده، ولم تضرب إلا بقبل الماسوني فؤاد السنيورة البلاستيكية على وجهها الجذاب. وتزاحمت على الانترنت ووسائل الإعلام أخبار اتصالات محمد فتفت بالمسؤولين الإسرائيليين على مدار الساعة ورعايته مع معلمه السنيورة للخيانة المجلجلة في ثكنة مرجعيون. واجترح السنيورة وفاءً لأخواله اليهود، خلافا ً وقطيعة ً مع رئيس الجمهورية وصار يرسل محاضر جلسات مجلس الوزراء (دار أبيه) إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن فألغى بذلك السلطة التنفيذية في دولة لبنان الكبير. ثم ألغى السلطة القضائية بإقراره قانون المحكمة الدولية وإبرامه في مجلس الوزراء بأساليب قرصنة بلطجية وقحة ومجلس النواب أكثريته بيد النوائب. وظل يصرخ مستنزلا ً على لبنان قرارات مجلس أمن اليهود باسم الشرعية الدولية العاهرة، حتى أوصل لبنان إلى بوابة التدويل، دون أن يتناول أحد في لبنان هذه الزاوية بالتحليل والتوضيح وتبيان المخاطر التي لا تزال قائمة، طالما أن اليهودي فؤاد السنيورة هو الرئيس الفعلي لتكتل 14 آذار، بعد أن وضع الشيخ سعد الدّ لوع الحشاش في حالة كوما منذ سنوات مقدمة لإلحاقه بوالده.
ومن أعجب وأتفه مشاهد ثورا الإمبريالية المتهودة في عالمنا العربي التي تؤسس للتقسيمات الجديدة، أن يكون بينها مشهد سعد هذا وهو يعد نفسه بين الرجال، وينزع سترته مهددا ً(وأنت أكبر قدر أيها القارئ العزيز) .
فيا شعب لبنان ويا شرفاء لبنان، ويا أركان المقاومة في لبنان، ويا أحزاب (وأحزان) لبنان، إلى متى تستمرون في مسايرة الصيغة المحنطة المتفسخة على حساب المصير القومي وعلى حساب تحرير فلسطين؟ فهل من مجيب؟
:::::
“عروس الاحوار”، الكترونية عراقية في سويسرا، http://www.arusalahuar.com
* إن تفصيلات كثيرة عن العناوين التي مرت سنضعها قريبا ً جدا ً أمام الأجيال الصاعدة في لبنان ومحيطه والعالم العربي بأسره من الذين لم يشهدوا سوى التاريخ المزور المكتوب بأيدي الأمعات والجهلة ونواطير سايكس بيكو.