المرأة الفلسطينية في سوق العمل
محدِّدات ومؤشرات
(الجزء الثالث)
عادل سمارة
.II
المؤشــرات
ورد
في التقرير الصادر عن مكتب الإحصاء المركزي الفلسطيني (التقرير):
أن
مشاركة النساء في سوق العمل وصلت إلى 40% في الفترة ما قبل 1967، لكن هذه النسبة
تدنَّت بشكل متواصل بعد ذلك، لكي تزداد في الفترة التي أعقبت عام 1994، أي فترة
السلطة الفلسطينية. (ص 97)؟.
لكن
التقرير فشل في الإشارة إلى مصدر هذه الأرقام كما لم يحدد القطاعات التي تركز فيها
تشغيل النساء، في حين أن التقرير نفسه أشار إلى أن نسبة الإناث في المدارس أعلى من
الذكور[1].
وإن خروجهن عن مقاعد الدراسة أقل مما هي لدى الذكور، ولكن مشاركتهن في سوق العمل
ما تزال منخفضة (ص 97). كما لم يوضح التقرير أن معظم عمالة المرأة قبيل 1967 كانت
في الزراعة التي هي القطاع الذي أُصيب أكثر من غيره بالتدهور في فترة الاستعمار
الاستيطاني الصهيوني للضفة والقطاع.
ولكي
نقيم علاقة بين المحدِّدات والمؤشرات لا بد أن نتذكر بأنه من وجهة نظر ثقافية
بطريركية، ليس من شرطٍ اعتبار تعليم المرأة استثماراً لا بد أن يقود إلى تشغيل
المرأة. وأبعد من ذلك، ففي حين يزعم كثير من الاقتصاديين اللبراليين الغربيين والصهاينة
بأن الاستعمار الصهيوني “ديمقراطيٌ”، ومن العجيب أن يوصف استعمار
استيطاني بأية درجة من الديمقراطية، فإن الحقائق على الأرض تبيِّن العكس، ولا سيما
في حالة النساء. ففي فترة الحكم الأردني للضفة الغربية قبيل 1967، كانت المشاركة
الأنثوية في سوق العمل (للضفتين. ع.س) بنسبة 25.4% إلا أنها هبطت عام 2007 إلى
15.7% (التقرير ص 97 )، وهذا يؤكد الدور السلبي للاحتلال أخذا في الاعتبار أن
الاحتلال ما زال هو العامل المقرِّر الحاسم في الضفة والقطاع عامة بما في ذلك
تأثيره على عمالة النساء.
يقدم
التقرير بعض النقاط الجيدة في ما يخص مستويات معينة لعمالة النساء ودور كل من
الرجال والنساء في هذه السوق، لكن ذلك لم يظهرْ من خلال تحليل هذه المستويات.
ينص
التقرير بأنه: … طبقاً لـ حمامي (1998)، فإن المشاركة المتدنية للنساء في سوق
العمل هي نتاجٌ لضعف القطاع الصناعي ونسبة البطالة العالية لدى الرجال، وهو ما حدا
بالنساء لتجنب منافسة الرجال طالما أن البطالة عالية. وبأن هناك سببٌ آخر وهو
طبيعة التوجه العائلي في القطاع الزراعي الذي يوفر فرص عمل للإناث فقط… أما
السبب الأخير الذي أدى إلى انخفاض نسب مشاركة المرأة الفلسطينية في سوق العمل (حسب
وجهة نظر حمامي)، فهو الآراء الاجتماعية السلبية حول عمل المرأة في إسرائيل، والتي
توفر العديد من الوظائف ذات المهارات الدنيا للرجل الفلسطيني، والمرأة الفلسطينية
ولكن بدرجة أقل”(ص 98)
لكن
لا التقرير، ولا حمامي، أوضحا ما العوامل التي تكمن وراء ضعف القطاع الصناعي –
والعوامل هي سلطة الحكم الذاتي والاحتلال معاً، تواشج المحدِّدات. فلا يسهل قبول
الزعم أن تتجنب النساء التوجه لشواغر عمل لأن الذكور بلا عمل، فهذه مبالغة
بالمحدِّد الثقافي الذي أشرنا إليه أعلاه! فحينما يتعلق الأمر بالحاجات المادية
الأساسية، لن يتردد الذكور ولا الإناث عن المنافسة على الشواغر. في تفسيرها هذا،
فإن حمامي أكثر توافقاً وانشداداً إلى الذهنية الإقطاعية/السلالية حيث العامل
الإيديولوجي هو محرِّك نمط الإنتاج، وهي ذهنية لا يمكنها الصمود أمام الحاجات
الإنسانية المادية في تشكيلة اجتماعية رأسمالية حيث الاقتصاد هو العامل المقرِّر
وليست الأيديولوجيا. ويبدو أن حمامي تتجاهل العوامل المادية لصالح تركيزها على
العامل الثقافي. وفي ما يخص توجُّه الأُسر إلى الزراعة لتوفير فرص عمل للنساء، وهو
أمر مستحب عموماً بما هو تشغيلٌ، فإن عمالة النساء والرجال قد تدنَّت نظراً لإهمال
الرجال للزراعة وعدم تبنّي سلطة الحكم الذاتي سياسة تنموية للأرض علاوة على سياسات
الاحتلال في المصادرة وإغلاق الأرض. إن المجال الزراعي الوحيد الذي وجدت النساء
فرصة تشغيل الذات فيه هو القطاع غير الرسمي والمتمثل خاصة في أنشطة تسويقية أكثر مما
هو في استغلال الأرض والإنتاج.
ما
العلاقة بين عدم تبنّي الحكم الذاتي لسياسة تنموية وبين الاحتلال وخاصة مع
المانحين؟ هل يُردّ هذا إلى قيود المانحين وحصرهم الدعم في الخدمات وإطفاء التوتر
(مشاريع البنك الدولي) ثم المناطق الصناعية الحدودية ومضمونها في تركيز التبعية
والانتهاء إلى شعار رئيس وزراء الكيان حالياً، بنيامين نتنياهو، أي السلام
الاقتصادي؟ ولهذا نقاش آخر.
في
التقرير نفسه أشارت كل من بطمة وسوتنيك (2007) أن خلق الوظائف كان قد توفر للقطبين
المتباعدين، أي للنساء الأعلى تعليما، والأقل تعليماً أكثر مما هو للنساء ذوات
التعليم المتوسط. “… ترتفع نسب المشاركة بين النساء غير الحاصلات على تعليم
والنساء الحاصلات على مستويات عالية من التعليم مقارنة بالنساء شبه المتعلمات. مما
يعني أن سوق العمل المتاح أمام المرأة يتجاذب بين المرأة غير المتعلمة والمرأة
صاحبة التعليم العالي، ما يشير إلى وجود إشكال بنيوي في هذه السوق” (التقرير
ص 98).
قد
لا يكون من الدقة بمكان أن يُتجاذب بينهما، فهما تمثلان فئتين لا تنافس بينهما من
حيث الكفاءة العلمية وربما التدريبية ولا حتى الطبقية. والإشكال البنيوي هنا صحيحٌ
إذ يرتد إلى التطور العفوي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية بأسرها والتي ترتد
بدورها إلى عوامل التأثير فيها، بمعنى تداخل وتضارب بين: متطلبات المجتمع ككل من
جهة وبين المؤثرات المتحكمة في هذه المتطلبات، أي سلطة الحكم الذاتي، اقتصاد
الكيان، الدول المانحة، منظمات الأنجزة، القطاع الخاص؛ وهذه الحزمة بقدر ما
يجمعها من توجُّه إيديولوجيا سحرِ السوق تحكمها تضاربات بينية.
لقد
ذكرنا هنا نقطة هامة، وهي تتقاطع مع ما أشرنا إليه في المحددات بأن هذه النخبة قد
حازت على حظٍّ جيد بحصولها على وظائف. ولكن، كان أفضل من الكاتبتين لو دفعتا تلك
النقطة تحليلياً إلى الأمام لتبيِّنا أن النسوة من فئة التحصيل العلمي العالي
يمثلن نسبة ضئيلة وأن هذا هو السبب الكامن وراء حصولهن على وظائف، سواء في بداية
فترة الاستعمار الاستيطاني للضفة والقطاع أو اليوم. ولكن حتى هذا الحصول ليس أمراً
حتمياً على المدى الطويل بمعنى احتمال تكاثر عدد من يحصل على تعليم أعلى في بلد
ليست لديه خطة تنموية تأخذ هذا التزايد وغيره في الاعتبار، أي بلد يسير اقتصادُه
دون خطة تنموية ويخضع بالطبع لاستعمار اقتلاعي. وفي حين أنه صحيح بأن النساء
الفلاحات يعملن في الزراعة، إنما كان أدقّ من جانب الكاتبتين أن تأخذا في الاعتبار
حقائق على الأرض إلى جانب النسب والأعداد؛ مثلاً، ما نقصده أنه حتى في المناطق
الريفية فإن عمالة المرأة في الزراعة قد تضاءلت وهذا هو السبب وراء تدنّي مشاركة
النساء في سوق العمل عموماً.
أشارت
الكاتبتان إلى : “وجود تمييز أفقي وعامودي في سوق العمل، ما يجعل منه بيئة لا
ترحب بوجود المرأة …ومعدلات الخصوبة العالية التي تؤثر سلبا على مشاركة المرأة
في سوق العمل” (التقرير، ص 98-99).
على
أنه من الصعوبة بمكان التأكد من أن المشغِّلين سيكونون ضد تشغيل النساء إذا ما
كنَّ قادرات على القيام بالعمل المعروض بالنجاعة نفسها، وخاصة طالما يقبلن بأجور
أقل، وطالما أنّ المشغّلين يبحثون عن عمالة لمشاريعهم الخاصة! فاستناداً على
قراءةٍ للوضع من منظور المصلحة الخاصة، يجب أن يكون التمييز متركزاً باتجاه الأجور
لتلافي دفع أجرٍ أعلى؛ بمعنى أن ما يهدف إليه الرأسمالي هو القدر الأعلى من الفائض
بداية من تقليص ما يدفعه من أجر حتى إن أمكن بأن لا يغطي الكفاف أو إعادة إنتاج
قوة العمل لا سيما إذا كانت هناك فرصة لقيام أفراد من الأسرة باستغلال قطع من
الأرض للزراعة كي تساعد في إغلاق فجوة تقصير أجرة العامل المأجور عن إعادة إنتاجه
بمفردها(تجربة جنوب إفريقيا هنا موحية) ، بمعنى أن تخفيض كلفة الإنتاج هو هدف
الرأسمالي وليس الناس الذين يقومون بالعمل؛ فلا يمكن التمييز ضد النساء إذا ما كن
قادرات على تأدية العمل نفسه، ومن ثم تشغيل الرجال حتى لو كانت أجورهم أعلى وكانت
النساء على مستوى إتقان وتنفيذ العمل! إن في اعتقاد الكاتبتين مبالغة في فهم
المجتمع تقوم على تضخيم البعد الثقافي على حساب البعد المادي[2] . لعل العكس هو
الصحيح؛ بمعنى أن الأُسر تفضّل إبقاء النساء بعيدات عن العمل من مدخل تقليدي لعدم
الاختلاط بالذكور. وحتى هذا، وهو بعدٌ ثقافي محافظ، ليس أبدياً؛ بمعنى أن متطلبات
المعيشة وتعمق الرسملة والاستهلاكية وغلاء الأسعار لا بدّ ستدفع حتى الأسر
المحافظة إلى القذف بقوة العمل النسوية إلى السوق. لا يصمد الشرف الشكلي أمام
الحاجات المادية.
وفي
ما يتعلق بالخصوبة، فإن الخصوبة ليست دوماً هي خيار النساء وحدهن. فهي نتيجة
للثقافة المحلية التي تعتبر المرأة ماكينة بشرية لإنجاب الناس. ولكن، لماذا بعد
43 عاماً على تدهور الزراعة في الضفة والقطاع ما زال الفلاح يريد أبناءً أكثر؟ أم
أن العمل في الكيان شجعه على ذلك قبيل بناء الجدار، وهو المجال الذي حلّ محله دور
المانحين في صبّ سيولة مالية لتضخيم الجهاز البيروقراطي لسلطة الحكم الذاتي؛ بمعنى
أن هذه عوامل تشجع على الإنجاب لأنها توفر دخلا يحل محل الزراعة ويزيد عمّا تقدمه
؟ ربما لكل هذه الأسباب دورها، ولكنّ تغيير ثقافة زراعية متوارثة منذ عهود طويلة
لا يتم بكل تلك السرعة. ولو خُيِّرت النساء فلسن جميعا يفضلن عدداً كبيرا من
المواليد؟ وأبعد من هذا، فإن الخصوبة العالية نفسها يمكن أن تلعب في المدى البعيد
دور التحفيز/الانخراط وليس تحاشي دخول المرأة في سوق العمل بناء على توسع حاجات
الأسرة وعدم تمكُّن الرجال من تغطية هذه الحاجات، أي اضطرارها للعمل هي والرجل
ومنافسته.
أشار
التقرير إلى أن مساهمة الذكور والإناث في العمل تدنَّت خلال فترة 2001-2002 نتيجة
لسياسة القبضة الحديدية الصهيونية، فمن المتوقع عادة أن يزداد شغل النساء لتخفيف
العبء عن الرجال حينما يعانون من البطالة. ولكن هذا لم يحصل نظرا للظروف القاسية
التي عاناها الفلسطينيون خلال الانتفاضة والتقييدات التي فرضت عليهم”.
هذه
تفسيرات صحيحة، إلا أنها تتجاهل سبباً هاماً آخر والذي يتبين حينما نذهب إلى
تقييدات أخرى مثل افتقار منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لسياسات وثقافة تنموية.
فقد عرضت أو توفرت فترة 1993-2001 فرصة معقولة نسبياً لسلطة الحكم الذاتي لبدء
استراتيجية تنموية لخلق فرص تشغيل في قطاعات الإنتاج وخاصة الصناعة والزراعة. إلا
أن ما حصل كان العكس، فالمرونة النسبية التي أبداها الكيان، جرى استثمارها لصالح
الفساد والمحسوبية. إضافة إلى هذا فإن الكيان لم يتيقد بالتزاماته التي وقع عليها
في اتفاق باريس الاقتصادي بتشغيل 100 ألف عامل من الضفة والقطاع في اقتصاده. ورغم
أن اعتماد أي اقتصاد على اقتصاد آخر هو تشويه للاقتصاد التابع، فإن هذا التشغيل
كان حاسماً لاقتصاد لم تجترح سلطته سياسة تنموية. قد يجادل البعض بأنه ليس في وسع
مستعمَرة أن تتبنى سياسة تنموية في ظل استعمار استيطاني، وهو جدل صحيح إلى حد
كبير؛ إلا أن سلطة الحكم الذاتي لم تحاول قط تحدي سلطة الاحتلال بأن تفي
بالتزاماتها أو أن تحل هذه السلطة نفسها. بكلمة أخرى، فإن إصرار سلطة الحكم الذاتي
على التمسك بالسلطة تحت الاستعمار الاستيطاني قد أصبح بمثابة غطاء وعذر للكيان
نفسه، بغض النظر إذا ما قصدت سلطة الحكم الذاتي ذلك أم لا[3]. هل يعني توافق
المحددات تشارك/تقاسم السلطة والاحتلال في المبنى الاجتماعي للتراكم؟ لِمَ لا،
فالمسألة هنا طبقية بوضوح. وهذا يفتح على “سلام رأس المال” وهو ثلاثي:
محلي صهيوني ودولي. ولعل أوضح تجسيداته إقامة ” مجلس الأعمال الإسرائيلي
الفلسطيني المشترك” بين مليونيرات القطاع الخاص المخلي والصهيوني.
يشير
التقرير إلى أن الفئة العمرية من 15-24 في سوق العمل قد تدنت نسبتها بين الرجال
والنساء مقارنة مع مختلف بلدان العالم، ففي عام 2000 كانت نسبة مشاركة الرجال 52.0
وتدنت منذ عامي 2003 و 2007 إلى 44.0%. ، وينسب التقرير ذلك إلى التدهور الاقتصادي
الذي جعل المساهمة في قوة العمل بطيئة ومحدودة (ص. 99- 100). ينسب التقرير هذا
التدهور إلى تقييدات السياسة الإسرائيلية، وهذا صحيحاً. ولكن عودةً إلى المحددات
التي أوردناها أعلاه، نجد أسبابا أخرى ساهمت في هذا الانحدار؛ مثلا، انكسار معادلة
عمل/رأسمال في الاقتصاد المحلي والتي تفترض قدرة أو قيام رأس المال المحلي بتشغيل
قوة العمل المحلية في أي اقتصاد معافى، أي أن مصيره يتقرر محليا وذاتياً. لكن رأس
المال المحلي لم يقرر خلق شواغر عمل لاستيعاب قوة العمل الفائضة و/أو قوة العمل
المنتقلة سنويا إلى عمر العمل. إن اعتماد الضفة والقطاع على اقتصاد الكيان في
تشغيل جزء من قوة العمل المحلية هو خلل بيِّنْ وليس ميزة. إنه حالةُ تبعيّةٍ يتم
التعود عليها. ولكن، في الوقت نفسه هي ليست تبعية مؤكدة ومضمونة من قبل الطرف
المستعمِر ، وذلك ليس بسبب عقبات اقتصادية أو عدم قدرة في اقتصاد الكيان، بل ولكن
بسبب تناقضات سياسية/قومية ، أي استراتيجية الكيان في الضغط في اتجاه تصفية اقتصاد
الضفة والقطاع بهدف دفع أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين للرحيل عن وطنهم. وهذا يؤكد
أن السلام بالنسبة للكيان الصهيوني الإشكنازي هو طبعة أخرى من الحرب.
حسب
التقرير، فإن التعليم العالي للنساء (13 سنة فما فوق) هو ضمان للحصول على وظيفة في
حين أن درجة التعليم المتوسط من سنة إلى تسع سنوات هو مصدر توظيف للرجال، (ص
100). يمكن القول إن هذه التوجهات ذات علاقة بالتغيرات الجارية في المجتمع . وهي
قد تنفي النقطة الواردة أعلاه بأن تمييزاً يحصل ضد النساء في السوق، مثلا، ذلك أن
البعض قد يفضل نساء بتحصيل علمي عالٍ على الأقل لأنهن يقبلن بأجور اقل. هذا إضافة
إلى أن هناك أشكالا جديدة من الوظائف في المجتمع تتطلب عملاً نسائياً مثل توسع
قطاع الخدمات في التعليم، والبنوك والسياحة…الخ.
وفي
ما يخص الذكور، تلعب الورشات والأعمال الصناعية دوراً في اعتبارها تتطلب عمالاً
ذكوراً من مستوى تعليم متوسط كتصليح السيارات، والنجارة والحدادة…الخ، بينما
الكليات والجامعات مشبعة نظراً لوجود الكثير من الذكور المتعلمين الذين يملؤون
الشواغر التي هي تحت منافسة شديدة مع النساء على ما يشغلنه.
لعل
الدرس المستفاد هنا هو وجوب توفر مركز للتخطيط والتنمية لإنجاز توازن في الحاجات
المجتمعية ولتعديل وتغيير التخصصات العشوائية التي طبعت الاقتصاد والمجتمع. إن
اقتصاداً تأشيرياً أو تخطيطياً هو ضروري في هذه الحالة. إن سياسة سلطة الحكم
الذاتي في السوق المفتوح هي اقرب إلى الفوضى منها إلى سياسة لبرالية، هي سياسة
اقتصاد تحت الطلب. ولكن هل يسمح الاحتلال بمركز للتخطيط والتنمية وبسياسة تنموية
حقيقية، وإذا كان لا يسمح، وهو لا يسمح فعلاً، فما معنى وجود سلطة الحكم الذاتي؟
أشار
التقرير في ص (102) إلى تأثير التمييز على قرار دخول النساء سوق العمل حيث
يُستخدمن في قطاعي الخدمات والزراعة، وليس قطاعات أخرى، الأمور التي تؤثر على
قرارهن في المشاركة في سوق العمل؟
إن
من المهم الإشارة هنا إلى أن هذا قد يكون حقيقياً في قطاع الخدمات، ولكن ليس في
قطاع الزراعة حيث لا يتم تشغيلهن هناك على أساس منتظم؛ فهنّ هناك ضمن عمالة
الأسرة، أو مشغلات لأنفسهن في الزراعة من جهة، أو في المناطق الريفية التي هي
عمليا تحت تأثير البنية البطريركية التي تستوعب جزءاً منهن بشكل تقليدي وليس على
أساس منافسة السوق من جهة أخرى.
نص
التقرير في ص (101) ” … إن قطاعات سوق العمل المفتوحة للنساء محدودة في
قطاع الخدمات الذي يتطلب نساء بمستوى تعليم عال وكذلك قطاع الزراعة الذي ليس
التعليم شرطاً مسبقاً لمن يشتغلون فيه”.
قد
يشير هذا النص إلى التشوه في البنية الاقتصادية للضفة والقطاع طالما هناك توسعٌ
في قطاع الخدمات الذي يستوعب العمالة الأنثوية بالتوازي مع تدهور قطاع الزراعة
وعدم توسع القطاع الصناعي؟ إن جزءا كبيرا من توسع القطاع الصناعي ربما نبع من
زيادة أنشطة منظمات الأنجزة والتي يركز الكثير منها على تشغيل النساء لاستقطابهن.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن قطاع الزراعة لا يشترط تعليماً عاليا كي يستوعب
عمالة النساء، فإن هذه ليست ميزة نسبية لاقتصاد الضفة والقطاع. فالزراعة، والتصنيع
الزراعي غدت اليوم علوماً! يحتاج العمل الأسري اليوم في الزراعة إلى انتباه أكبر،
كما أن تأنيثه يدفع باتجاه تحصيل تعليم أفضل وتدريب للنساء على الوعي الصحي وعلى
خدمة مزرعة الأسرة…الخ. وهذا يرتبط بما ورد في الصفحة نفسها من التقرير (ص 101)،
بأن الخصوبة العالية جعلت من الصعب على المرأة أن تذهب إلى سوق العمل، وجعلت هذه
السوق أكثر في متناول الأرامل والطليقات أو غير المتزوجات…الخ.
لا
بد أن يأخذ هذا التغير في سوق العمل بالاعتبار أن هاتيك العاملات الجدد لم يخططن لحالاتهن
الحالية مما يعني أن هذه ليست ميزة نسبية، بل نتاج حالة مستضعفة. وبناء على ذلك،
فإن تسهيلات خاصة وفرص توصل لا بد أن تتوفر من أجل تدريب وتعليم أفضل للنساء
اللائي هن ربات أسر.
هناك
نقاط أخرى تتطلب مزيداً من التوضيح والتحليل في التقرير مثل ازدياد العمل الأنثوي
في الزراعة في شمال الضفة الغربية. وهذا يرتد إلى انتقال قوة العمل الذكوري إلى
وسط الضفة،
رام
الله، كمركز لسلطة الحكم الذاتي الأمر الذي نتج عنه تورم مشوه للمدينة؟ وبالطبع،
فإنه من الصعوبة بمكان تقليديا وثقافياً أن تنتقل امرأة بمفردها للعيش من مدينة أو
قرية إلى مدينة أخرى. وهذه ميزة نسبية للرجال لم تنجم عن أفضليتهم بل عن كون
التقاليد والثقافة مصاغة تاريخيا من الذكور لصالحهم فهي ميزة سلبية لم تنجم عن
أفضلية الذكورة ولا حتى عن تأهيل أفضل. وأمر كهذا يتطلب سياسة اقتصادية جديدة تخلق
وظائف في أجزاء الضفة الغربية الأخرى تجنباً للهجرة العشوائية. يمكن أن نعزو زيادة
العمل الأنثوي في شمال الضفة الغربية إلى طبيعة الأرض هناك بما هي ليست صخرية
مقارنة بمناطق وسط الضفة الغربية، أي رام الله والقدس. فالتربة الخصبة تشجع الناس
على استغلالها طالما أن إنتاجيتها منافِسة سوقياً أي تحقق ريعاً عالياً (الريع
الفرْقي).
ليس
من الواضح إن كان التقرير (ص 102) قد تناول نسبة الذكور والإناث من عمر 15 عاما
فما فوق بشكل عام أو أنه انحصر في عام 2007. وسواء تضمن التقرير ذلك أم لا، فإنه،
أي التقرير، قد تعاطى مع نسب لا أرقام! وهذا قد يخفي الحجم الحقيقي لمشكة البطالة.
فالأرقام هي مؤشرات أفضل حيث تبين عدد الناس الذين يعانون كأرباب أسر أو الأسر
نفسها.
كما
يشير التقرير إلى تمييز في التوظيف ضد النساء في وظائف صنع القرار كالمدراء
والمشرعين حيث أن النساء لسن ممثلات هناك. ويشير إلى أن للنساء فرصٌ أفضل في
التعليم والصحة (ص 104).” وهذا يمكن تفسيره كمتسببِ من الأيديولوجيا
المسيطرة، أي سيطرة الرجل وبنية النظام، فبدل أن ينقد التقرير هذا التميز يبحث عن
ملاذ لتغطيته بترغيب النساء في قطاعات أخرى!.
ويشير
التقرير ثانية إلى تراجع تشغيل النساء في الزراعة بسبب مصادرة الكيان للأرض،
والإغلاقات المفروضة على المدن والقرى وإقامة الجدار التوسعي، كما يركز على أن عمل
النساء في الزراعة في الريف يتجمع ليقع على كاهل النساء المتقدمات في العمر (ص
104)،، وهذه معطيات صحيحة، مع ضرورة الملاحظة أن العبء نفسه يقع كذلك على كاهل الرجال
المتقدمين في العمر بمعنى عزوف الجيل الشاب عن العمل الزراعي. لكن يمكن تناول هذه
الظاهرة بتشجيع النساء الشابات في القرى اللائي في العادة هن متعلمات كي يعملن في
حديقة المنزل إذا ما تم الشغل على تقديم تسهيلات تمويلية تنموية تعاونية لهن
وتثقيف علمي وسياسي وتعاوني وهذه مسؤولية الحركة السياسية الحزبية بالطبع.
ويضيف
التقرير: “… أما بالنسبة لقطاع الزراعة فنجد أن المرأة هي دوماً المهيمنة
على هذا القطاع، ويظهر أن مساهمته في توفير فرص عمل للرجال آخذة في الاضمحلال. وقد
يفسر هذا الأمر بأن الزراعة عادة ما تعتبر مصدرا إضافيا للدخل بدلا من أن تكون
المصدر الرئيسي. .. من خصائص هذا النوع من عمل المرأة أنه غير محمي وغير رسمي مما
يعني أن الزيادة فيه تعني زيادة في عدم رسمية عمل المرأة في الأراضي الفلسطينية(ص
105)
ولكن
ليست حقيقة عامة أن الزراعة هي مصدر ثانوي للعمل والدخل في كل بلد. إن الحالة في
الضفة الغربية بعيدة جداً عن ما يزعمه التقرير، لأنها ما تزال منطقة بدون قاعدة
صناعية فعلية، وغير متطورة بحيث تكون الصناعة هي القطاع الرئيسي وتصبح الزراعة
مجرد قطاع مساعد. ما يحصل هنا هو انتقال إلى اقتصاد الخدمات والكازينو، لكي تقفز
وتصبح اقتصاد خدمات وكازينو بناء على بعض المؤشرات السلبية التي بدت. بكلمات أخرى،
إذا ما كان لاقتصاد الكازينو أن يتواجد في اقتصاد غير متطور أو شبه متقدم، فإن
حالة الضفة الغربية يمكن أن تُقرأ على أنها حالة انتقالية من اقتصاد محيطي تقليدي
إلى اقتصاد كازينو. وأبعد من هذا، فإن الزراعة في الضفة الغربية يجب أن لا تعتبر
كقطاع إضافي أو ثانوي بناء على عدة أسباب:
- حاجة البلد للأمن
الغذائي - توفر فائض قوة عمل
يمكن تشغيلها في الزراعة - احتجاج قطاع من
ذوي الوعي السياسي ضد التطبيع وذوي الصحي بأن المنتجات الإسرائيلية التي تغرق
السوق هي منتجات عدو وغير صحية - ولأن استغلال
الأرض هو واجب وطني وهدف لمواجهة مصادرة الاحتلال الاستيطاني ومصادرته للأرض.
وفي
ما يخص المساواة، فإن لوحة 1.4 في ص 106 تبين أن النساء اللائي يعملن لأنفسهن
يشكلن 12.8 % من جميع النساء العاملات في الضفة وغزة، بينما يشكل الذكور العاملين
لأنفسهم 26.8 %، وهذا عائد إلى سيطرة الذكورة والثقافة وقانون الوراثة الذي يجرد
معظم النساء من حصتهن الحقيقية في التملك ولا سيما حين تكون الورثة أرضاً. ومع ذلك
فإن النسبة الخاصة بهن تعتبر عالية مقارنة بالرجال إذا ما قورنت بمجالات أخرى حيث
النسبة لدى الرجال أعلى بكثير . والمهم أن هذه النسب عمياء فعلا . فكون المرء عامل
لحساب نفسه شيء وحجم المشروع هو شيء آخر.
وفي
ما يخص حرية القرار ورد في أحد المؤشرات الإيجابية من المجلس الاجتماعي الاقتصادي
للأمم المتحدة تبين أن النساء في 30 تجمع ريفي قررن البحث عن فرص عمل حتى لو
كلفهن ذلك السفر والاستقرار بعيداً عن مساكنهن ومتطلبات عائلاتهن؟
لكن
هذه المسألة تحتاج إلى فحص وتيقُن لمعرفة فيما إذا كانت النساء المعنيات هنا قد
أخذن هذه الخطوة عملياً أم لا، وكيف تصرفت التجمعات السكنية اللائي انحدرن منها
تجاه هذه الخطوة. إن علينا التفريق بين رغبة النساء في الحرية في مختلف المستويات
وبين قيامهن بتنفيذ رغبة الحرية هذه عملياً؟ ويؤكد التقرير نفسه أن معظمهن وجدن
أعمالاً بلا أجرٍ في تجمعاتهن في مجال الزراعة وأن بعضهن وجدن عملا في صناعة
الملابس، وهما قطاعان يقعان في خانة القطاع غير الرسمي.
بالنسبة
للنسوة من الثلاثين تجمعاً اللاتي عبرن عن رغبتهن في مغادرة هذه التجمعات بحثا عن
عمل، أي الهجرة بمفردهن، أود الإشارة إلى أن المواطن العادي يمكن أن يعلن أو
يتبنى قرارات جريئة في استعراض أمام الكاميرا أو الصحافة الأجنبية أو حتى
الباحثين، بينما قد لا يحاول قط تنفيذ ما تعهد أو ادعاه أو ما قال أنه يؤمن به،
وهذا ما يعني أن التقارير قد بنت استنتاجات خاطئة ومتفائلة؟ كما لم يخبرنا التقرير
فيما إذا كانت ورشات الملابس هي محلية أم مشتركة مع إسرائيليين من خلال شركات
التعاقد من الباطن مع محليين؟ فلهذا معنى مختلفا فيما لو حصل.
[1] It is to a certain extent an international phenomenon: “Females
represent a majority at every level of education in Brazil, and the average
rate of schooling among Brazilian women is more than one year higher than that
of men. Yet women continue to earn 30 percent less than men for the same work,
and they occupy a mere 56 of the 594 seats in the Brazilian Congress.(
Categorized | Beijing+15, Top Story, Women and PovertyMore Educated Are
Not More Equal, By Mario Osava With additional reporting from Nastasya Tay
(Johannesburg), Kara Santos (Manila), Emilio Godoy (Mexico City) and Daniela
Estrada (Santiago) 1 March 2010 )
[2]
يندرج هذا في التركيز اللبرالي الغربي على أهمية البعد الثقافي في
التنمية وهو الذي توصل إلى الزعم بأن نجاح تنمية مجتمع ما يجب أن تنطلق من
خصوصياته الثقافية. وهذا مدخل انثروبولوجي عنصري تكمن ورائه مفاهيم من طراز أن
الرسملة غير ممكنة سوى لأوروبا ذات الثقافة القابلة للرسملة، وهو ما يسمونه The West and the Rest.
أنظر بهذا الصدد،
Thierry G
Verhelst. No Life Without Roots: Culture and Development Zed Books, 1990.
[3] ليس في مكانه الحديث
عن وجوب تبني سلطة الحكم الذاتي لنظرية التنمية بالحماية الشعبية. لتكوين فكرة عن
هذه النظرية أنظر، التنمية بالحماية الشعبية، في كنعان العدد 129 نيسان 2007 ص ص
3-35.