التوحش الرأسمالي

الديمقراطية بين البؤس والتوحش الرأسمالي

فيصل جلول

ارتبطت صورة الديمقراطية في العالم بالدول العظمى فبدت عظيمة مثلها، وصارت هدفاً يسعى إليه الباحثون عن حياة سياسية راقية . ولأنها ارتبطت بالعظمة والعظماء، فإن من بين التعابير الأكثر انتشاراً حول النظام الديمقراطي هو ذلك الذي جرى على لسان رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، إذ وصف هذا النظام بأنه “سيئ لكنه يظل الأقل سوءاً بين أنظمة الحكم المعروفة قاطبة” . وقد بينت التجارب السياسية عبر التاريخ أن “الديمقراطية” هي الأكثر استدراجاً للرضا من طرف الأكثرية الساحقة من التيارات السياسية في مختلف أنحاء العالم، وعليه لا نعثر على فريق سياسي معتبر يقر بالعداء للديمقراطية، بما في ذلك الأحزاب والعائلات والفئات الحاكمة في دول أوتوقراطية، أو ديكتاتورية، أو أوليغارشية، أو ملكية . واللافت أن هؤلاء يتحدثون عن “خصوصية” دولهم الديمقراطية، كالقول إن “نظام الشورى” هو الديمقراطية بصيغة محلية أو أن “الجماهيرية” هي أرقى أشكال الديمقراطية، لأنها تعني حكم الجماهير المباشر بلا وسيط . وفي حالات أخرى يسعى طغاة إلى تمويه طغيانهم بأردية “ديمقراطية” مرقطة .

والبادي أن جاذبية الديمقراطية تعدت المجتمع السياسي إلى عامة الناس، حتى صارت أشبه ب”وصفة سحرية”، لكل العلل والمشكلات التي يعانيها الناس في العالم الثالث بعبارة أخرى هي الحل المناسب للفقر والجهل والأمية والأمراض المعدية والاستبداد والظلم والجريمة المنظمة، وهي الممر الإجباري نحو العدالة والإخاء والمساواة، فضلاً عن الرخاء المستوحى من الرخاء الغربي، ولا أبالغ بالقول إن المجتمع الديمقراطي هو في نظر فقراء العالم الثالث المجتمع الذي يمكن للمرء فيه أن يعيش في فيلا محاطة بالأشجار الوارفة، ويتنقل بسيارة فاخرة، ويحصل على وظيفة وراتب بآلاف الدولارات، ويستفيد من أرقى الخدمات الطبية، ومن حضانة للأطفال في الحي السكني نفسه، ومن عطل نصف مدفوعة من رب العمل في أرجاء العالم، ومن تقاعد يمكن للمرء أن يمضي شطره الأكبر ممداً على كرسي وثير يطالع كتاباً، أو يستعد للغوص في المسبح الخاص في حديقة المنزل في الهواء الطلق صيفاً، أو في قاعة البيت السفلى وسط الماء الساخن شتاء . . . إلخ .

ليست الديمقراطية حلاً لمشكلات الفقر والفقراء، وليست شرطاً للتقدم، كما أن غيابها ليس سبباً للتأخر ولو كانت شرطاً للتقدم لما حققت البشرية الإنجازات العملاقة التي تحققت حتى اليوم، بل يمكن القول إن الإنجازات العظيمة في مدينة عالمية كمدينة باريس تحققت في عهود سابقة على الديمقراطية . إن أجمل اللوحات والمؤلفات الموسيقية والآثار العمرانية هي تلك التي أنتجت في بلاط الملوك، وقد تم التخطيط العمراني الأهم للعاصمة الفرنسية في العهد الإمبراطوري، ونشأ الفلاسفة العظام في عهود ملكية، أما الديمقراطية فقد أعطت باريس أهرامات اللوفر الزجاجية الفقيرة في زخمها الجمالي و”الفيلسوف” برنار هنري ليفي الذي تخطى مثقفي الحملات الفرنسية الكولونيالية نفاقاً وانتهازية، وفي ظلها قتل ملايين البشر في الهند الصينية وإفريقيا وآسيا من دون رادع أخلاقي أو قيمي .

ليست هذه مرافعة رجعية ضد الديمقراطية، بل طريقة لدعم استنتاج ونستون تشرشل بأن النظام الديمقراطي هو أقل الأنظمة السياسية سوءاً بالنسبة للدول الغربية الكلية القدرة والتي تسود العالم، ولعل النظام نفسه يكون أقل سوءاً في العالم الثالث أيضاً من أنظمة القمع والاستبداد، والحاكم الأوحد شرط أن يتمكن المعنيون بالتغيير من ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بطريقة ميسرة، ومن دون السقوط في الحرب الأهلية، وبالتالي الرجوع إلى مرحلة ما قبل الدولة وما قبل النظام السياسي، كما هي الحال في الصومال، وفي العديد من البلدان الفقيرة الأخرى في أكثر من قارة . لكن المهمة الأصعب تظل في اعتماد أخلاق سياسية في الحكم لتنبيه الناس إلى أن شروط حياة أفضل تعني ورشة إنتاج أفضل، أي أن التغيير الفعلي في حياة أمة ليس رهناً بنظام الحكم، وإنما بعلاقات وشروط الإنتاج .

هذا الاستنتاج يمكن العثور على ما يشبهه في مقال مذهل، نشر مؤخراً لجاك أتالي، مستشار الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، الذي اعتبر أن الأسواق العالمية التي صارت كلية القدرة بفضل الديمقراطية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على الديمقراطية نفسها، ولو أراد أن يكون أكثر جرأة لربما استخلص مع كارل ماركس، أن علاقات الإنتاج هي التي تحدد شروط النظام السياسي وليس العكس، وأن الديمقراطية التي أتاحت انبثاق الوحش الرأسمالي جاءت بجلادها من رحمها . خلاصة القول إن الديمقراطية تواجه تحديين كبيرين في هذا العصر، الأول خلاصي تيولوجي في خيال فقراء العالم الثالث، والثاني رأس المال الوحشي في العالم الغربي وفي الحالتين تكاد  أي الديمقراطية  أن تكون مجردة من كل سلاح .