من المقاومة إلى الثورات
مواجهة الثورة المضادة والهيمنة الثالثة
د. عادل سمارة ـ رام الله المحتلة
ورقة مقدمة إلى مؤتمر الهيئة التأسيسية للتجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة
خيار المقاومة والثورات العربية، المنعقد في القاهرة 24-25 تموز 2011.
بقدر ما كنَّا نجترح بالأعصاب والعقل مقالة أو مقولة للتفاؤل بمستقبل عربي مختلف، وجدنا أنفسنا فجأة نتخيَّر عن اي نهوض عربي نكتب! وبقدر ما أُتهمنا بالتخشُّب وراء المسألة العروبية والفكر التقدمي ورفض تغوُّل راس المال والإصرار على أن الإسلام ليس إسلام المؤسات الدينية ولا الفهم الخفيف، وبأن الخيار الاشتراكي تاريخي لنهوض الأمم المغلوبة والمنهوبة، بقدر هذا وأكثر وجدنا كثيرين ممن حاولوا إشعال النار في “تخشُّبنا” يتقربون من هذه القضايا التي رفضوا وبها استهزءوا!
الشرارة والاشتعال
قد يكون الوطن العربي هو البقعة الوحيدة في العالم التي تواجدت فيها الثورة المضادة قبل الثورة الشعبية. وقد يكون الاستهداف الذي تعرضت له هو السبب. وربما لهذا تحديداً كان يُصاغ مصير المحاولات النهضوية مع ولادتها كي تُصفى أو تُغتال. ولكن في هذه الورقة لن ابدأ من هناك.
ابدأ من لحظة وصلت معها الثورة المضادة وضعاً صارت هي “وجه” الوطن العربي وإلى حد ما العالم الإسلامي بأجمعه فكانت الأنظمة المرتبطة والمثقفين والأحزاب المتعاقدة هي/هم الذين يمثلون وجه الأمة العربية على الصعيدين الرسمي والشعبي العالمي. وكانت قيادة الثورة المضادة على الصعيد العالمي متربعة على صدر المنطقة كما لو كانت تملك الناس والشجر والحجر والنفط بالطبع.
لم يتنبه كثيرون منا لقانون التراكم الكمي حتى لو كان شذرات وبالتالي إلى قانون التحول حتى لو كان تدريجبا جداً، لم يتنبهوا إلى ان هذا البطء هو “…البطء الذي في بطئه يصلُ- والقول للشاعر الراحل عبد اللطيف عقل”. فاعتبروا أن هذه الأمة ميْت وموات!
كانت المقدمات في مصر 23 يوليو وفي الجزائر وفي جنوب اليمن وغيرها، ولكنها بُعثرت وسُحقت لأن الثورة المضادة كانت لها في اللحظة وبالمرصاد، وكان هذا شأن المقاومة الفلسطينية التي قد تختلف في تواصلها ربما بسبب الواقع الخاص اي الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإشكنازي. المقاومة التي هي الرحم الذي ينجب حاملا لراية المقاومة ما أن يُلقي الراية حاملها السابق. لعلها كائن حي بأذرع تنبت كلما قُطعت. إلى أن جائت المقاومة في لبنان بدءاً من بواكير القومي السوري والشيوعي وصولاً إلى المقاومة الإسلامية التي استعصت على الثورة المضادة وأحدثت التحول الذي صمد وغير عصر الهزيمة إلى عصر الانتصار. وإذا كانت المقاومة في لبنان قد لجمت العدو الصغير فإذا به يحارُ ماذا يفعل وكيف يرد، فإن المقاومة العراقية قد استنزفت الوحش الأكبر بمقتل جنوده المحشوِّين بالكره والكبرياء وصولاً إلى مقتل دولاراته. واليوم تأخذ افغانستان الراية لاستنزاف الأطلسي بدءاً من الولايات المتحدة وصولا إلى بغاث النرويج والدنمارك وبعض العرب!
هو ضوء المقاومة الذي ابان للعالم الوجه الحقيقي للأمة وشكَّل المقدمات الموضوعية لما تفجر هذا العام من حريق الثورات والانتفاضات والاعترضات في معظم الوطن العربي ليفيق العالم علينا فيرى أننا لسنا نحن الذين عرفهم بالأمس، وبأن شرارة المقاومة غدت حريقاً هائلاً.
ولو أخذنا مؤشر فلسطين لكان دليلاً على ما نقول: ففي عام 1948 اغتصب العدو الصهيوني الإشكنازي ثلاثة ارباع البلد وطرد قرابة المليون فلسطيني، وفي عام 1967 احتل بقية فلسطين وأجزاء من البلدان العربية المحيطة. وحينها ساد التندُّر أوساطه بالقول: “دخلت الدولة حربا وخرجت منها دون أن يدري الشارع بذلك”! وفي حرب الاستنزاف بين 1967-1970، خسر العدو أكثر مما خسر في حرب 1967، وفي عام 1973 أُصيب العدو بهزيمة عسكرية بالمفهوم التقليدي رغم ثغرة الدفرسوار وهو الانتصار الذي اغتالته المفاوضات. وفي عام 1982 عجز عن احتلال بيروت بعد حصار ثمانين يوماً، وكانت الانتفاضة الأولى 1987 (وربما هي المدرسة التي التقطت درسها الانتفاضات الشعبية العربية الحالية) وفي عام 2000 حمل عصاه ورحل عن جنوب لبنان تحت ضربات المقاومة الإسلامية، وعام 2006 هُزم في الجنوب اللبناني وفي عام 2009 عجز عن دخول غزة.
شكَّلت هذه التطورات المقدمات الموضوعية للثورات والانتفاضات العربية الجارية في الوطن العربي، ولنسميها بالحريق الهائل في وجه الثورة المضادة.
سباق اللحظة الحاسمة
هي لحظة المواجهة اليوم في هذا الوطن بين الثورة والثورة المضادة التي القت إليكم بقضِّها وقضيضها كما فعلت قريش ضد الرسول الكريم. وتعرف الثورة المضادة أن الانتصار في هذه اللحظة الحاسمة، لحظة صعود المقاومة والممانعة والتغيرات الشعبية في الوطن العربي هو انتصار الثورة المضادة لعقود سوداء قادمة. وهذا ما تعرفه الطبقات الشعبية في الوطن الكبير. لذا، تنطلق الثورة المضادة من واشنطن وباريس ولندن ومختلف عواصم الغرب ومن الكيان الصهيوني ومن عدة عواصم الدول القُطرية العربية وتحرك جيوشاً من المخترَقين لحسم مختلف اوجه الحرب الواسعة بالسلاح والاندساس والثقافة والمال وعلم النفس أو حرب النفوس.
التجويف والتجريف
ارتكزت أنظمة الكمبرادور في الوطن العربي على آليتين تلخصان كافة أوجه الخراب الذي اصاب الوطن العربي وهما تجويف الوعي لتجريف الثروة:
· فتجويف الوعي هو تفريغ واجتثاث الوعي السياسي الطبقي للطبقات الشعبية من خلال تقويض مختلف القوى السياسية الوطنية والقومية واليسارية والسيطرة على النقابات العمالية والاتحادات الطلابية والنسائية مما جعل الساحة السياسية خراباً تتحكم بها قوة المخابرات والقوة الخاصة والشرطة والجيش كقوى منظمة مسلحة تابعة للنظام وتشكل قياداتها العليا جزءاً من نسيج الطبقة الحاكمة والمستفيدة والتابعة.
· كان التجويف هو الآلية الضرورية كي تتمكن الطبقة الحاكمة/التابعة من تجريف الثروة دون منازع أو معارضة حقيقية، تجريف هو في الأساس بهندسة طبقة الكمبرادور التي أوكلت التجريف المعمق للشركات متعدة الجنسية لتنهب ثروة البلد، ولتعيد إليه قسطاً ضئيلا من ثروته على شكل مساعدات (حالة مصر بشكل خاص) وهو قسط كان يُسمى للبلد، لكنه كان يُجرَّف للفساد. ولم يكن حتى الكيان الصهيوني بعيدا عن نيل حصة من التجريف وذلك عبر اتفاقات بيع الغاز رخيصا له واتفاقات ال كويز.
لم يُحسم الأمر
أما والتجويف والتجريف كانا بكل هذا العمق والاتساع، وعلى ضوء كشط راس جبل الجليد وحسب، فلا مناص من الإقرار بأن الثورة في بداياتها مما يوجب المحاذرة في قرائتها. فالثورة المضادة موجودة قبلاً وهي قوية وتعمل، ولو لم تكن موجودة لما كنا بحاجة للثورة.
كانت ولا تزال الثورة المضادة فاعلة في مستويات التخلف واحتجاز التطورين الصناعي والزراعي وتركيز دور الكمبرادور كدور وحالة، والتشظية القُطرية والتبعية والاستهلاكية الثقافية والاقتصادية والقمع السياسي وضبط الوعي وجعل الوطن مجرد مخزن.
وبالمقابل، فإن قوى الثورة رغم اتساعها الشعبي الهائل، إلا أن افتقارها لكل من:
· القوى المنظمة فعلاً
· والوعي بضرورة هذه القوى كحركات وأحزاب، تجعل القلق على الثورة مبرَّراً بل وضرورياً.
إن القطع مع التراث الكفاحي للقوى السياسية التي نعم لم تبادر بالثورة، وتردد الكثير منها قبل اللحاق بالثورة، لكنها هي التي راكمت نضالات سياسية ونقابية عمالية وفلاحية وعذابات متواصلة أدت هذه العذابات إلى وصولها حالة عدم القدرة على المبادرة بالثورة مما أوصل الجماهير إلى حالة الانفجار الذي لم يتوقعه لا القوى الثورية المقموعة ولا الثورة المضادة. هذا القطع الذي طالما تفاخر كثيرون بعدم وجود قيادات للثورة، هو تفاخر مقلق ما لم يتم فرز قوى لتقود الثورة.
خطاب وتعددية وديمقراطية زائفة
لا بد للقوى الشعبية التي حملت الثورة على أكتافها اي الشباب والعمال والمحرومين من العمل والطبقة الوسطى والمثقفين الذين ملأوا ميدان التحرير وميادين عربية كثيرة أن يتجاوزوا التطريب على شعار الديمقراطية السياسية، وأن يتجاوزا الاكتفاء بطرد رئيس النظام.
ولعل ما يبعث على الأمل أنه بعد ستة اشهر من كشط راس جبل الجليد يعود الشباب والعمال وشباب تكنولوجيا المعلومات الجذريين إلى ميدان التحرير مطالبين بإنهاء قبضة المجلس العسكري في مصر، ومتجاوزين لدور النخبة المتغربنة والمتعاقدة من “شباب تكنولوجيا المعلومات” وهي النخبة المتدربة في الولايات المتحدة وأوكرانيا وبلغاريا وتركيا على حصر كل الحراك في شعار الديمقراطية بنمطها الغربي الراسمالي!
لقد جرى تدرُّج وتطوير الديمقراطية اللبرالية على يد ومن أجل نخب عبر ثلاثة قرون بحيث تظل مكرَّسة لصالح ولمتطلبات راس المال والسوق ولذا، لم تفشل وحسب، بل لم تكن مصممة لإنجاز الديمقراطية الاجتماعية والاقتصادية رغم وجود ما يسمى المجتمع المدني، والتعددية السياسية واللبرالية الاقتصادية.
بالمقابل، فإن الديمقراطية التي يمور بها الشارع العربي اليوم بدأت مختلفة وعلينا الحفاظ على هذا الاختلاف. هي ديمقراطية الشعب التي نبعت من قاع المجتمع بأكثريته ولم تات بها نخب من الأعلى. ومنذ هذا الانتفاض الديمقراطي الشعبي في ديسمبر 2010، تدرجت هذه الديمقراطية إلى أن وصلت نقطة انعطاف باتجاه سيناريوهين: فإما ان تستمر تدريجياً ولكن بتعمُّق وإما أن تمتطيها الثورة المضادة وتقوِّضها من داخلها.
ولا يختلف شأن ما يسمى بالمجتمع المدني في الغرب الراسمالي عن لعبة الديمقراطية هناك. فالمجتمع المدني يعمل هناك بمقتضيات الحدود التي يسمح بها المجتمع السياسي الممثِّل لكل من الطبقة الحاكمة/المالكة بمختلف نُخبها ولمتطلبات الهيمنة الداخلية والخارجية لهذه الطبقات.
فليس مجتمعاً مدنيا ذلك الذي تقوم أنظمته بإرسال مئات الآلاف من الطبقة العاملة إلى بلدان العالم الأخرى لقمع الثورات وإسقاط الأنظمة المحلية تمهيداً أو استمراراً لنهب ثروات الأمم الأخرى! وحيث تقبل مجتمعات هذا الدور لقوتها العاملة، فهي ليست مجتمعات مدنية هي نفسها. فهي تُخضع الأمم الأخرى لمقتضيات توسع راس المال.
إن التعددية التي يزايد علينا بها الغرب الراسمالي ليست اصيلة وحقيقية، أو على الأقل ليست بجمالية ذلك الإخراج المبهر الذي يحيطها به إعلامه ومثقفوه العضويون وتوابعهم في ارضنا. لقد أبانت وأثبتت التطورات والسجلات التاريخية أن التعدية في الغرب هي جزء لا يتجزأ عن الشرائح المختلفة للطبقات البرجوازية الحاكمة بما في ذلك الأحزاب الشيوعية البرلمانية الاتجاه التي نخَّت لصالح العمل البرلماني كبديل للعمل الثوري والصراع الطبقي. هذا النمط من التعددية هو جوهرياً، تأكيد سيطرة الطبقات البرجوازية و/أو هيمنتها حيث كافة اشكال القوة هي بيد دوائر راس المال مثلا، الثروة، والجيش، والثقافة والمعرفة والإعلام والخطاب والسياسة…الخ. فمن يتحكم بالقوة هو من يملك وليس من لا يملك، هو من لديه الموارد لينفق على الانتخابات ويرشي ويدفع اكثر.
ربما كان أفضل اختبار لحدود مدنية وديمقراطية وتعددية مجتمعات الراسمالية الغربية ذلك الأثر الضئيل إلى درجة اللاأثر الذي نجم عن التظاهرات في العديد من العواصم الغربية ضد الحرب على العراق، حيث لم تغير في قرار الحرب شيئاً من واشنطن إلى باريس فلندن وحتى أوسلو. وكانت الحرب إلى حدود محو شعب بأكمله وتوقفت التظاهرات وغاب الحدث كما لو كان مجرد حادث دهس سيارة لعربي في شارع بلندن، وعاشت شعوب المجتمع المدني يومها متغذية على فوائض نفط العراق وواصلت الاستماع لإعلامها كأن ما يحدث من مذابح في العراق وأفغانستان مجرد أفلام كرتونية!
يكمن وراء استمرار هذا الوضع الذي يوصف زيفاً وكذباً بأنه “قدرة الراسمالية على الاستمرار، او بأنها “نهاية التاريخ”: وباء نهب ثروة الأمم الفقيرة كعامل حاسم في استمرار هيمنة الطبقات الراسمالية الغربية عبر تحويل الفوائض من المحيط إلى المركز. وهي الفوائض التي طالما جرى استخدامها كافيون لتخدير شعوب المركز عن القيام بالثورة طالما تُكفى معظم حاجاتها الأساسية.
الثورات وتحدي الاختراق والهيمنة الثالثة
لا بد للثورات والانتفاضات العربية الجارية أن تحافظ على الانطلاق من بيئتها العضوية كي تتمكن من إثمار بُنى ومؤسسات ومنظومة معتقدات وقيم وخطاب وأنظمة معاني كشرط للوصول إلى قرار ذاتي عربي وسيادة واستقلال ومن ثم تنمية مستدامة كمقدمة للتحرر الاقتصادي الحقيقي في الحل الاشتراكي. فالثورات الأهلية العربية وحدها الضمان لصيانة الاقتصاد العربي والتحكم بفوائضه أمام هجمات اللصوصية الراسمالية الغربية والاختراق بتعدد مستوياته وآلياته سواء الغربية أو الصهيونية أو القوى المحلية المرتبطة والمتعاقدة في انتظامها الجبهوي في الثورة المضادة التي تنحو اليوم منحى وتأخذ شكل الهيمنة الثالثة في تغيير تجريبي للهيمنة والسيطرة بمفهومها وممارساتها العدوانية الاستعمارية العسكرية المباشرة. إنها محاولة الاستخدام الأقل للقوة العسكرية المباشرة ضمن تكتيك يعتمد على قوى مخترَقة محلية، أنظمة وطبقاتٍ وأحزابا وطوائف ومثفقين متعاقدة هذه القوى مع المركز الإمبريالي منذ زمن ومصطفة معه ضمن قوى الثورة المضادة. وبهذا الاستخدام تفعل هذه القوى ما كانت تفعله قوى الغزو العسكري الراسمالي وأكثر حيث تُواجه الثورات والانتفاضات الشعبيةـ وهو ما نراه في ليبيا حيث يحتل ليبيون بلدهم بالوكالة عن حلف الأطلسي وتحتل أنظمة الخليج البحرين نيابة عن أنظمة الأطلسي نفسه.
ليست الثورات مجرد احتجاج وإصلاح، فهي سيرورة متواصلة وصولا إلى النفي الجذري للوضع الراهن بما فيه من ظلم واستغلال ولا مساواة وفساد وتبعية وقمع ومؤسسات تقوم على ثقافة وخطاب النفاق والمخاتلة. أن الثورات فتح فضاء للتحول في مختلف المجالات وخاصة مواقع الإنتاج والاستهلاك الفردي والجماعي والتوزيع وإعادة التوزيع للثروة والسلطة. إنها صراع اجتماعي مديد ومرير متمثلا في حرب الطبقات كي تتمكن الطبقات الشعبية من تحرير نفسها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأخلاقيا ونفسياً، إنه التحرر الإيديولوجي، تحرر الخطاب والجغرافيا وتحرير اللحظة كجزء من الزمن الذي يعبر عن دور الإنسان ووجوده.
ولكي تضمن انتصارها بتاكيد السيادة والاستقلال الجوهري والتنمية المستدامة والمقررة ذاتياً ومن أجل الذات، التنمية بالحماية الشعبية، فلا بد للثورات من فك ارتباط بُنى المجتمع ما قبل الثورة عن بُنى ومؤسسات وتراث الاستعمار القديم والجديد ومغادرة منطق التوسع الراسمالي ولا سيما طبعته الأخيرة في التوسع النيولبرالي مجسدا بقيادة الولايات المتحدة بعدوانيتها اللامحدودة.
كما لابد لقوى الثورة أن تواجه التكتيك الجديد الذي يطوره العدو مثلاً في الهيمنة الثالثة. ليس هذا بالطبع نطاق مناقشة نظرية الهيمنة وتطوير غرامشي لها، فالمهم حضورها في سياق هذه التحولات في الوطن العربي. تتركز مساهمة غرامشي في اكتشاف آليات تحول سيطرة راس المال إلى هيمنة (الهيمنة الأولى) على الطبقات الشعبية في المجتمعات هناك، ومن ثم رؤيته في وجوب انتفاض الطبقات الشعبية بهيمنة (الهيمنة الثانية) لصد وقهر هيمنة راس المال، هيمنة الطبقة الراسمالية في المركز.
إن ما نراه هنا في الوطن العربي اليوم، هو توليد الصورة المضادة لشكل مختلف من الهيمنة، شكل مركَّباً من الهيمنة نسميه “الهيمنة الثالثة”.
لا نرمي هنا إلى تطبيق نظرية غرامشي في الهيمنة كما هي جارية في الغرب الراسمالي لأن الوطن العربي بالكاد فيه مجتمع مدني ناهيك عن مجتمع سياسي. وما نقصده بالهيمنة الثالثة هنا هو ، كما اشرنا أعلاه، هو التكتيك الجديد الذي يتبعه المركز الراسمالي المعولم تجاه الثورات العربية اي محاولة احتوائها عير هيمنة مركَّبة تقوم على دور رئيسي لقوى الثورة المضادة المحلية بتعدد مكوناتها المخترَقة على يد ولصالح الغرب الرأسمالي بحيث تقوم بتخريب وقطع الثورات وتواصل هيمنة المركز. هي هيمنة يقدم المركز فيها التدريب الوحشي والتخريبي والأموال والأسلحة والإعلام وتقدم الثورة المضادة المحلية بشقيها الأنظماتي الرسمي والطبقي الكمبرادوري ومثقفيها العضويين ، تقدم الدور الميداني التخريبي على الأرض، وهنا يغيب بدرجة أو أخرى الغزو العسكري المباشر. وبالطبع كان هذا نتيجة الدرس المر الذي ذاقه المركز في العراق وأفغانستان مما جعله يباعد ما بينه وبين الغزو المباشر سوى بدرجات معينة كما هو حال ليبيا، وهذا بالطبع لا يستثني تدخله المباشر استثناء تاماً.
وتبرز ملامح الهيمنة الثالثة إضافة لما ذكر عبر سمات أخرى منها:
· الدور التركي، كدور إقليمي ممثلاً في تحالف ثلاثي بين:
o البرجوازية التركية التي اقتنعت بأن دخولها في الاتحاد الاوروبي ليس على الأجندة الغربية
o والزمرة العسكرية التي ما زالت سلاح الأطلسي في تركيا (وتتم محاولة تقليدها في مصر)
o والإسلام اللبرالي الأميركي ممثلا في الحزب الحاكم.
· النشاط المحموم للإسلامية السياسية ممثلة في الجناح الوهابي الذي يمثل راسمالية النفط الكمبرادورية والتي تضغط اقتصادياً على أنظمة ما بعد مبارك وبن علي لتركع اقتصادياً، وتدفع ب تسونامي مالي لقوات المعارضة الليبية المدعومة أطلسياً وللمندسين في المعارضة السورية لتشويه المعارضة الوطنية وتقويض نظام الممانعة السوري.
نختم بالقول إن أمام هذا التجمع مهاماً هي الأوسع والأكثر تعقيداً. وقد يكون اساس نجاحه ليس فقط العمل بما هو مشترك بقدر ما أن الأهم هو مواصلة المسيرة.