السودانان… من منهما في غنىٍ عن الآخر ومن لا غنى له؟!
3من3
عبد اللطيف مهنا
مهما تعددت الأسباب التي آلت بالسودان إلى الانشطار إلى سودانين، بعد احتراب بين السلطة ومتمردي الجنوب دام لما قارب العقود الخمسة، وكنا قد تعرضنا لهذا في مقالينا السابقين، فهناك حقيقة واحدة ليس بالإمكان تجاهلها وسمت مسار المسألة السودانية إجمالاً، وهي فشل إدارة التباينات الذي عرفته مسيرة الدولة السودانية الواحدة، هذه المترامية الأطراف والمتعددة ألإثنيات و البيئات الثقافية والعرقية والضاجّة بالتنوّع، الأمر الذي لا يوجد بعد ما يؤشر على تفادية حتى بعد الانفصال، ويشترك فيه كلا الشطرين، لا سيما الجنوبي تحديداً، وهو الذي، وكما أشرنا في مقالنا السابق، يوجد فيه ما يقارب الماية لغة وإثنية، والذي يعاني من الصراعات القبلية ضاربة الجذور عميقاً في بيئته المحلية. مثلاً، لغة التفاهم بين قبائل وأعراق الجنوب، إذاما استثنينا النخبة التي انتجتها الإرساليات التبشيرية المتحمسة عادةً للغة الإنكليزية وفرضها لاحقاً لغةً رسميةً للدولة الوليدة، هي ما يعرف بعربية جوبا ذات اللكنة الزنجية المحلية.
ولمقاربة سؤالنا الذي خلصنا إليه في مقالنا السابق والذي يتمحور حوله هذا المقال، فمن زاوية شمالية نجد أن الفكرة السائدة لدى غالبية النخبة والشارع، ورغم مشاعر المرارة الناجمة عن الشعور بضياع مايقارب ثلث الوطن، هى أن الشمال جغرافيةً وثروات وإمكانيات ومستقبلاً هو في غنىٍ عن الجنوب الذي استنزفه وأثقل كاهله وأعاق تفرغه للنتمية والتطور على امتداد العقود التي تلت الاستقلال، ورغم ضياع قسم من عائدات نفط الجنوب فإن المكتشف والمؤمل كشفه في منه الشمال هو أكبر وأوفر بكثير وسيعوض ويزيد عن هذه الخسارة، كما أن الجنوب لا يمكنه تصدير نفطه بسعر تجاري إلا عبر المنافذ الشمالية، وبالتالي حصول الشمال على نصيبه منه بدون هذه الوحدة. بل وهناك كثيرون يرون أن الانفصال هو في صالح الشمال الذي سوف يغدو بفضله أكثر تجانساً وانسجاماً مع هويته العربية، وأن الجزء الذي انفصل وصوت للانفصال وحارب من أجله، وحيث لا اقتصاد وتنعدم فيه كل أسس الدولة، عليه الابتداء من الصفر. ورغم الوعود الخارجية التنموية التي إنهالت من كل صوب وحدب والتي عادة تتبخر قبل التنفيذ، فهو لن يكتب له نهوضاً من دون تعاون الشمال في كافة المجالات وأهمها النفط ومسألة تصديره. ليخلص الشماليون إلى استنتاج يقول، بأن هذا الجنوب هو الذي في حاجة إلى الشمال، ويضيفون هنا، إن هذا الذي تندلع فيه الآن النزاعات والتمردات، سرعان ما سيكون مرتعاً للانشقاقات والخلافات داخل القوام السياسي للحركة الشعبية المسيطرة على دولته وبينها وبين القوى الجنوبية الأخرى البالغ عددها ما يقارب السبعين حزباً، وسيكون فريسة لتصاعد الشكوى من تفشي الفساد وهيمنة الدينكا واستفرادها بالسلطة. ويضيفون إلى هذا ما سوف تعاني حدوده مع الدول الإفريقية المحيطة به من تأثير الصراعات المسلحة لدى الجيران كالحال في الكنغوا وأوغندا وكينيا، ويذكّرون بأن القومية الأثيوبية الكبيرة المجاورة له هي الأرومو التي تتحين فرصتها للانتقام من الحركة الشعبية لتعاونها مع نظام منغستو هيلا ميرم في قمعها. واخيراً لا يستبعدون أنه سوف يسعى مستقبلاً بنفسه للعودة إلى بيت طاعة الزوجية مرة أخرى بعد أن سعى للطلاق وحارب وصوّت للوصول إليه… وماذا عن الجنوبيين؟
هناك خلافات ليست مستورة تدور داخل الحركة الشعبية التي قادت التمرد وحققت الانفصال وتهيمن على دولته، وتعبر عنها أربعة اتجاهات هي كالآتي، طرف يرى في عملية فصل جنوب السودان عن الشمال خطوة أولى يجب أن يتبعها فصل جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودارفور، ومن ثم الزحف على بقايا الشمال بما يؤدي إلى سيطرة الحركة على كامل السودان و بناء الدولة السودانية الإفريقية الهوية وعاصمتها جوبا، وهذا الاتجاه من موروثاتها التي تعود الى مواقف سابقة لقائدها الراحل جون غرنغ ثم تخلي عنها فيما بعد.
وطرف، أكثر تواضعاً، ينادي بالاكتفاء، بعد تعزيز قدرات الدولة الوليدة، بفصل منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وضمهما الى الجنوب.
وطرف أكثر واقعية ينادي بضرورة الاكتفاء بالجنوب المنفصل ضمن الحدود الراهنة، والتركيز على بناء دولته، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الدولة الشمالية كمصلحة جنوبية .
بقىي طرف رابع له انصاره حتى في الحركة الشعبيه يقول بأن فرصة استعادة وحدة السودان ممكنه، والمسألة مسألة وقت وعلينا الانتظار ريثما يثبت للمواطن الجنوبي البسيط أن الحركة الشعبية قد ضللته وقادته في الاتجاه الخاطئ. بل أن هناك من الجنوبيين العاديين من أصبح يجاهر بوجوب استعادة الوحدة، وهؤلاء يزدادون يوماً فيوم، لا سيما في أوساط اولئك العائدين من الشمال المصطدمين بواقع ما بعد تحقيق الانفصال، يضاف إليهم تلك الأقليات التي تقلقها الهيمنة الدينكاوية وكنا قد اشرنا إلى هذا سابقاً…
وبعد، والحال على مثل هذا النحو في كلا الشطرين، قد لانجد، ونحن نختم محاولتنا مقاربة الأسئلة التي طرحناها من خلال معالجاتنا للمسألة السودانية، ما يصرفنا عن معاودة طرحنا لسؤال كنا قد ختمنا به مقالنا الأول… سودان هذين السودانين إلى أين ؟!