قد يبدو عنوان المقالة مستفزا، لكنه اقل استفزازا من إصرار قيادتنا على الفشل وإصرارها على قمعنا كلما فشلت، وإصرارها على أننا مدينون لها رغم فشلها، وإصرارها على أن الشعب بدونها سيضيع.إن التفكير العميق في الخطاب السياسي الفلسطيني يستوجب أن ننظر فيه من ناحية علم اللغة، وعلم اللغة يقول إن الفكرة التي لا يعبر عنها باللغة تكون فكرة غير صحيحة، ولأن قيادتنا تعرف ذلك فإنها تلجا إلى استخدام لغة الشعر.
لغة الشعراء في الخطاب السياسي
استخدمت هنا كلمة شاعر، بدلا من رجل السياسة، لأن لغة الشعر تتميز بإبحارها غير المحدود في الخيالات والأوهام والمبالغات، وعندما نأتي لشرح القصيدة نذهل لجمال المبالغات، والسبب أن الشعر بدون مبالغة يفقد نكهته، لأنه أصلا هروب من لغة الواقع التي تتسع لها مفردات اللغة العادية القاطعة الدلالة، إلى لغة فيها إبداع التصوير والمشاعر الباطنية ذات الظلال المتعددة التفسيرات. ومن هنا كان الشعراء يتبعهم الغاوون.لأن دلالات الشعر ليست محددة بدلالات المفردات اللغوية القاطعة، بل يمكن تفسير الشعر بالأماني والأحلام والأحزان .
هذا بالضبط حال اللغة السياسية الفلسطينية، التي تهرب من الواقع إلى الخيال، وكثيرا ما صدقت القيادة الفلسطينية بعض الشعارات عديمة القيمة، لقد كذبت القيادة على نفسها عدة مرات وصدقت كذبتها ومن أمثلة ذلك ، أن الشهيد عرفات سئل يوما عن قدرته على نظم الخيوط المتشابكة بين عدد كبير من المنظمات الفلسطينية المسلحة، فقال: إنها ديمقراطية غابة البنادق، وكم فرحنا بتلك الجملة الشاعرية، وتغنينا بها، في حالة من السكر الوطني الشديد الذي ردد تلك العبارة ناسيا تلك الحرب الأهلية الدامية في مخيمات لبنان، بين الفلسطيني والفلسطيني، ترى لو كان لدينا ذرة من ديمقراطية هل كنا سندخل في ذلك الاحتراب؟ وهل كنا سننشق ونقتتل؟ وهل كنا سنخسر منظمة التحرير التي اختطفها بعض موظفيها؟ وهل كنا سننقسم بين فتح وحماس؟
عندما يتكلم شخص ما بجملة، ويريد من الآخرين أن يفهموها، لا بد أن تكون قواعد إرسال الكلام مطابقة لقواعد استقباله كي يتحقق التواصل،ويتم الفهم، فمثلا قل مرحبا – مع وجه عابس- لشخص من الصين سيعتقد انك تشتمه، أو قل له : مبارك إذا لقيته في بيت عزاء، فسيفهم انك تعزيه، والسبب أن بنية الفهم للغة مختلفة بين الطرفين، لذلك اعتمد الصيني على تعابير الوجه، وانخدع بها، وهذا ما حصل لقيادتنا، فتعابير وجه المجتمع الدولي مختلفة تماما عن لغته الدبلوماسية البلاستيكية، التي هي مختلفة عن لغة تفسير القانون التي تنطق بها البنادق والصواريخ، ألم تفهم قيادتنا؟ أم إنها لا تريد أن تفهم، أم إنها تخاف أن تفهم.
اللغة أداة عظيمة، لكن استخدام اللغة في وصف حقيقة في غير سياقها يجعل من الحقيقة سخافة كما في قصة المنطاد، فقد ركب شخصان في منطاد وطارا حول العالم، وبعد فترة فقدا البوصلة، ولم يعرفا أين هما، فاقترب المنطاد من جزيرة نائية، شاهدا شخصا يمشي فاقتربا منه وصرخا: أين نحن؟ فقال الرجل : أنتما في المنطاد، فقال احدهما لصاحبه دعك منه فانه عربي.
هذه النكتة العنصرية، تصف واقع اللغة السياسية الفلسطينية، التي ينطق بها قادتنا، فهم يتكلمون وكأن خيوط العالم في أيديهم، وان كل شيء يقومون به يضايق العدو، وعندما يخاطبون شعبهم فإنهم يستخدمون الحقائق في غير مكانها، فنراهم يقولون بفرح: البرازيل اعترفت بنا، وأين المفرح في الموضوع? فمعظم دول العالم معترفة بنا منذ السبعينات، بل وقدمت الكثير لثورتنا وبدون مقابل.
ثورات الربيع العربي فاجأت القيادة الفلسطينية، التي كان لا بد لها من إطلاق بالونات وهمية، لتضليل الاحتقان الذي يمور في الشارع، سلام فياض جلد الشعب الفلسطيني بسياسته الاقتصادية التي أغدقت بؤسا على الناس، من اجل ماذا يا فياض؟ من اجل جاهزيتنا لإعلان الدولة، ولما شعر أن اتفاق المصالحة سيطيح به قال: إن اعتراف المجتمع الدولي بالدولة الفلسطينية ليس له معنى إذا لم تعترف إسرائيل، وبعدها أحال أبو مازن عددا من وزراء فياض إلى محكمة الكسب غير المشروع، ثم رأينا خطاب السيد فياض وقد تناغم مع خطاب الرئيس. حتى العدالة صارت تستخدم بانتهازية، وصار القضاء الفلسطيني أضحوكة.
إسرائيل وأمريكا تتصرفان بغرابة، فتجعلان من استحقاق أيلول مسألة كبيرة وخطرا عظيما، مماذا تخاف أمريكا، من استخدام الفيتو؟ أم من تأييد إسرائيل في كل ما تفعل؟ ومم تخاف إسرائيل؟ من احتلال دولة فلسطين وهي التي احتلت أراضي أربع دول عربية في ستة أيام ثم استوت على عرش المشهد الدولي؟ على أية حال لا نريد الخوض كثيرا في الموضوع الإسرامريكي لكنه خدم صورة أبو مازن وضخم من أهمية خطوته.
وكما يمارس المجتمع الدولي سياسة لغوية ماكرة وهلامية، أخذت السلطة تمارس العملية ذاتها، فقبل أيام وفي ندوة عن تساؤلات أيلول، خرجت السيدة يارا جلاجل بخلاصة لافتة للنظر، حيث أجملت الفوائد العظيمة للذهاب إلى الأمم المتحدة، في عدة نقاط، سنناقشها ونتعرف إلى مستوى اللغة التي تستخدمها السلطة- النقد طبعا ليس للسيدة جلاجل- بل لمن هو في الدوائر الأعلى لصنع القرار- وصياغة مشاريع ترويج السياسات
الفائدة الأولى: الذهاب إلى الأمم المتحدة سيحدد المرجعيات الأساسية لمفاوضات الحل النهائي:
هنا لا بد من الوقوف عند مصطلح المرجعيات، من سيجبر إسرائيل على تبني مرجعية واحدة يريدها الفلسطينيون؟ ولماذا تنظر قيادتنا إلى نفسها،وشعبها، بأنها ليست إلا عبدا مطيعا للمجتمع الدولي؟ ومن يضمن عدالة المجتمع الدولي في وضع المرجعيات؟ ذلك المجتمع الذي لم يعقد محكمة دولية من اجل آلاف الشهداء في صبرا وشاتيلا وغزة وقانا، بينما سارع بإقامة محكمة طويلة عريضة لمقاول اسمه رفيق الحريري،هل يمتلك المجتمع الدولي عدالة حقيقية تستحق من أبو مازن أن يجبرنا على الانصياع لها؟
تساؤل آخر: لماذا لم تطبق إسرائيل قرارا واحدا من الاتفاقيات الدولية؟ الجواب أنها بحاجة إلى ضربات وضربات كي تنصاع لقوة الواقع وليس لقوة الحبر والورق، وهنا لا بد من التذكير بان السياسة مصالح وليست رغبات، إليكم يا سادة مرجعية الأمم المتحدة ورغباتها: دولة فلسطينية مسخ تشبه البحرين، منزوعة السلاح، ليس لها إلا مراكز المدن الرئيسية في الضفة مع طريق مؤقت يربطها بغزة، وعدد كبير من رجال مكافحة الشعب ( والنقطة لم تسقط سهوا عن العين) وجهاز إداري يحمل عن إسرائيل أعباء الأمن والنفايات، وقد تحقق ذلك فعلا، ولكن يبقى موضوع القدس، التي يريد المجتمع الدولي الرحيم أن يسمح للفلسطينيين أن يصلوا فيها،دون أن يسكنوها،وقد يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل كيلا تأخذ منا أثمانا كبيرة لقاء تذاكر الصلاة في الأقصى، أما حق العودة فما عاد منطقيا، وعلى السيد صائب عريقات أن يجترح حلولا إبداعية لتذويبهم، في بوتقة الزمن ودولارات النفط.
وهنا لا بد من تذكير القارئ بقول انديرا غاندي التي كانت ممثلة لبلادها في الأمم المتحدة ” الدول الكبرى في المجتمع الدولي لا تنظر إلينا باعتبارنا شعوبا بل باعتبارنا مناطق نفوذ”
الفائدة الثانية: اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية سيمكننا من الدخول في كافة المنظمات الدولية:
إن كثيرا من المنظمات الدولية والاتفاقيات أصبحت عبئا على كاهل الشعب الفلسطيني ( راجعوا بروتوكول باريس الاقتصادي) رغم أنها توفر وظائف محترمة لأبناء القيادات الفلسطينية، وعلى العموم لا مجال لتعداد المنظمات الدولية وفوائدها، ولكن إليكم مثالا على عمل القيادة في المنظمات الدولية : اتحاد الصليب الأحمر والهلال الأحمر، كانا ثنائيا ممتازا في المجتمع الدولي، فهاتان المنظمتان رفضتا إدخال نجمة داود في الاتحاد، لكن قيادتنا الحكيمة وافقت على ضم إسرائيل أو منظمة نجمة داود، مقابل تخصيص ممرات سريعة لسيارات الإسعاف الفلسطيني على الحواجز الإسرائيلية، وهذا ما لم تلتزم به إسرائيل، أما نحن فالتزمنا إدخالها في تلك المنظمة الدولية وبدون مقابل. ثم يأتينا احدهم ليقول انه يضيق الخناق على الإسرائيليين في المحافل الدولية. لسنا ندري ما الفائدة من دخولنا كافة المنظمات الدولية، فلأية منظمة تريد قيادتنا أن تنضم، إلى نادي الدول النووية، أم إلى وكالة الطاقة الذرية، أم إلى الأوبك؟
الفائدة الثالثة: تحقيق أوسع مدى من الدعم الدولي في مجالات بناء المؤسسات والدعم المالي
هذا هو البند الدسم، في عقلية التسول السياسي الفلسطيني، إن المزيد من المال يعني المزيد من الابتزاز والاشتراطات، المال النظيف هو المال الذي كان يدفعه المغترب الفلسطيني ،وعرف بضريبة التحرير، والمال الأكثر طهارة هو الإتاوة التي كانت تدفعها دول الخليج وشركات الطيران للمنظمات الفدائية ولقراصنة الجو الذين أطلقهم الشهيد وديع حداد، والشهيد أبو داود.
إذا كان المال هو الجزرة فالشعب الفلسطيني ليس حمارا، وان ارتضى بعض أبنائه ( الواصلين) أن يقوموا بدور الحمار، فلنكتف بما لدينا من دعم واشتراطات ونوقف الهدر المالي والنهب الذي حول الشعب الفلسطيني وقضيته إلى استثمار،لقد صار واضحا أن كثيرا من قادة منظمة التحرير بنوا لأنفسهم كيانا وظيفيا في المنظمة، ثم بنوا السلطة لتوظيف أولادهم، وها هم يريدون دولة مسخا لأحفادهم.
الفائدة الرابعة: وضع أسس أكثر توازنا في المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل:
على ذمة السيدة جلاجل فالنصر آت لا محالة وبدون تكلفة، فالمجتمع الدولي سيضمن التوازن، بين إسرائيل بما تملكه من قوة نووية ودبابات ميركافاه وقوات غولاني، وبين السلطة الفلسطينية التي تفتخر بان الضابطة الجمركية هي أقوى أجهزتها، ضابطة جمركية، وقوات مكافحة الشعب، والنقطة لم تسقط سهوا عن الغين، لنقارن هذا المنطق بالمنطق الإسرائيلي الذي عبر عنه موشيه دايان حين قال يوما، ” إن تطبيق القرارات الدولية بحاجة إلى ضمانات، وتلك الضمانات بحاجة إلى ضمانات تضمنها، وتلك الضمانات لا وجود لها ،والضمان الوحيد لدينا هو جيش الدفاع” الجدير بالذكر هنا أن موشيه دايان قصير النظر لأنه فقد إحدى عينيه في معركة، أما السيد صائب عريقات فله عينان وعدة نظارات شمسية وطبية ونظارة للحواجز …… ولذا رأى بنظره الثاقب أن الحياة مفاوضات.
الفائدة الخامسة: تدويل القضية الفلسطينية: القضية مدولة أصلا، وأحرار العالم تسابقوا لنصرتنا، فتركناهم وجرينا وراء السادات،ودخلنا في متاهة المصالح والتحالفات المؤقتة بين قبائل سايكس بيكو، حتى نسينا الطريق، وهذا ما جعل أمريكا ترسم لنا خارطة للطريق الذي يؤدي إلى فقدان الهدف ثم الهوية وثم المطالب، وعندها لن تظل الحياة مفاوضات بل اشتراطات.
من هنا رأيت أن الذهاب إلى الأمم المتحدة ليس استحقاقا، بل استحماق من المجتمع الدولي للعرب الحمقى، الذين استحمقوا قيادتنا الحمقاء فرأت أنها إذا استحمقت شعبها وقدمت له بالونا وهميا أو انجازا شكليا فان عمرها سيطول، نعم بالون وهمي لتضليل النفسية المحتقنة في الشارع الفلسطيني الذي سئم التجارة بالقضية ويريد حلا ليس من رحم أوسلو ومهندسيها الذين لم يدرسوا هندسة السياسة بل هندسة الأوهام.
الأمم المتحدة بين فلسطين وسويسرا مقارنة وعبرة
تعتبر سويسرا من اعرق الديمقراطيات في العالم، وفيها مقرات لمؤسسات هامة مثل مقر الأمم المتحدة في أوروبا، كما إنها تضم عددا كبيرا من المؤسسات الحقوقية ومن عاصمتها جنيف خرج الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.المفارقة العجيبة أن سويسرا ليست عضوا في الأمم المتحدة[1]، وقد قدم معظم السياسيين والبرلمانيين السويسريين عرضا على الشعب للانضمام إلى المنظمة الدولية، وروج هؤلاء الساسة المنتخبون ديمقراطيا في الأساس: أن دخول المنظمة مفيد للشعب السويسري وساقوا الحجج التالية:
ـ تتواجه الآراء السياسية المختلفة في إطار الأمم المتحدة ولكن ذلك لا يمنع الدول الأعضاء من البحث عن نقطة اتفاق بينهم فإذا تنازعت هذه الأطراف فبالكلام وليس السلاح
ـ إذا ما حدث صراع مسلح فان الأمم المتحدة تتدخل كوسيط بين الأطراف المتنازعة وتضع تحت تصرفها فرقا خاصة بالقبعات الزرقاء، للحفاظ على وقف النار، وبفضل تلك المعونة تم حل بعض الصراعات
عرض الأمر على الشعب بشكل استفتاء، وكانت المعارضة قد طرحت النقاط التالية:
ـ إن حتمية رضوخ الدول لقرارات مجلس الأمن مخالف للمادة الدستورية التي تجعل من أهداف الاتحاد السويسري الحفاظ على استقلال الوطن ضد الخارج
ـ يجب دفع مبلغ 20 – 30 مليون فرنك سويسري إضافة إلى تعيين 30 موظفا فدراليا[2]
ـ إن الأمم المتحدة تعد قرابة 60 عضوا والدور الرئيس يعود للقوى الكبرى التي تملك حق النقض الفيتو في مجلس الأمن إن الأمم المتحدة التي كان هدفها خدمة السلام أصبحت اليوم المركز العالمي للتملق والديماغوجيا، فهي لا تخدم السلام بل تسم العلاقات الدولية …….
عرض المؤيدون والمعارضون أفكارهم واجري الاستفتاء في 16 مارس 1986 وكانت الأقلية المعارضة على حق وأعطى الشعب قراره بعدم المشاركة . إن الديمقراطية الراسخة والعزة الوطنية المتجذرة جعلت السويسري يرفض أن تكون بلده شاهد زور بين الأمم، ومع ذلك يتسابق العالم إلى سويسرا ويضع أهم مؤسساته فيها.
:::::
أبو كفاح- نزار بنات
تجمع التنوير الديمقراطي – الخليل