فلسطين المحتلة 48:لقاء مع الشاعر أحمد حسين:

لا حُزنَ ينفعُكمْ إذا رَحَلَ الرّحيلُ وَلا غَضَب

أجرت اللقاء الاديبة رجاء زعبي عمري

ملاحظة من “كنعان”:

أجرت الاديبة رجاء زعبي عمري هذه المقابلة مع الشاعر أحمد حسين، وكلاهما من فلسطين المحتلة عام 48. وقد رأينا إعادة نشرها على ضوء ما بثته أخيراً الفضائيات ووسائل الاعلام من تسابق في كيل المديح للراحل محمود درويش.

* * *

لا حُزنَ ينفعُكمْ إذا رَحَلَ الرّحيلُ وَلا غَضَب

لقاء أجرته رجاء زعبي عمري مع الشاعر أحمد حسين، حول ديوانه الأخير «بالحزن أفرح من جديد»

· كان هاجسي الدائم هو رفض التعامل مع إملاءات المرحلة المداهمة.

· الحزن هو حضور المفقود في الذاكرة والوجدان.

· الإبداع ليس تحليقًا في عبثيّات اللهو الجميل باللغة .. بل رسالة متضمَّنة في كينونتنا البشرية.

· إن محمود [درويش] يشبه المرحلة السياسية الراهنة في موقفه السياسي.

· إن نقاشي مع محمود [درويش] هو صدام سياسيّ وفكريّ محض، يقع خارج قضية الإبداع.

· موقفي من محمود [درويش] هو موقفي من المرحلة أصلاً، وهي مرحلة بلغ بها تدنّي المواقف السياسية والثقافية حدّ الفجور والموافقة على تدمير الذات الوطنية نيابة عن النقيض.

· نحن، كهجريّين، مجرّد ظاهرة وجود لحضور الآخر….منذ ترسيخ نصوص الحادثة الهجرية واعتمادها كوجدان بديل عن الأصالة أصبحنا مجرّد ظاهرة تواجد بشريّ وظيفيّ، مهمّته حمل حضور الآخر الغائب.

* * *

الشاعر أحمد حسين، ولد في حيفا عام ١٩٣٩، وشُرّد منها عام ١٩٤٨. ومنذ النكبة ما زال، كما يقول، طفلاً ذبيحًا في التاسعة، وما زال دمه يشخب من جسده الذبيح…

ديوانه الأخير «بالحزن أفرح من جديد»، مجمل مجابهة عنيدة، تصدّى خلالها للمرحلة وللمتساوقين معها، حاملاً موقفه الفلسطيني الأصيل والتزامه بالأرض والإنسان معًا.

ونحن نجري معه هذا اللقاء، راجين أن نسهم في فكّ الحصار الإعلامي عن ذلك الموقف، ونزع «كاتم الصوت» عن آهة الحزن الفلسطينية..

– السؤال قبل الأول: لماذا تنقطع هكذا كثيرًا عن قرّائك؟

– أرجو أن تكون كلّ أسئلتك بمثل هذه السهولة.

لقد سحقت مشاهد النكبة الفلسطينية طفولتني سحقًا. وحينما تحوّل الحزن والغضب في داخلي إلى وعي، بعد تخطّي مرحلة الدهشة وارتباك الموقف، لم أر في الكتابة وحدها، بجميع أشكالها، مكافئًا لفداحة النكبة وما تستدعيه من فداحة الالتزام. كان هاجسي الدائم هو رفض التعامل مع إملاءات المرحلة المداهمة، سوى ما يقع منها تحت طائلة القسر والإلزام. واعتبرت أن محاورة المرحلة، بلُغَتها المتاحة، هي جزء من سياق مدبَّر هدفه النفي التدريجي لهوية الوعي الوطني وتكريس تدريجي لهوية اللاهوية. وكان واضحًا أن ساحتنا، ومنذ البداية، قد أصبحت إقطاعًا خاصًا لتيار التعاقد بقيادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي سيطر عليه الخونة الكلاسيكيون من مستوردي السلاح لـ»الهاغاناه«، والذين أُحيلوا، بحكم الحاجة، إلى مواقع الثقافة والإعلام وصناعة وعي الأمر الواقع. لقد امتلك هؤلاء كلّ أدوات التأثير الثقافي والإعلامي على الساحة، واستباحوا وعي الجماهير إلى درجة الفجور والكذب العلني. لن أطيل، يكفي أن أقول إن المهمّة الأولى لهذا التيار المتعاقد كانت ضبط الساحة على مقتضيات التخطيط السلطوي، الأمني بالدرجة الأولى، فتصدّوا باستماتة لكلّ الانبعاثات التلقائية لظواهر الالتزام «القومجي»، من حركة الأرض وحتى أبناء البلد ومرورًا بالتنظيمات الأصغر وحتى الأفراد. على ساحة كهذه لم يكن هناك مكان لأمثالي؛ كان الابتعاد من ناحية والإبعاد من ناحية أخرى هو الوضع المنطقي لعلاقتي بأولئك.

بدأتُ الكتابة في مجلة «الفجر» منذ بواكير دراستي الثانوية، وعندما أُغلقتْ توقّفت عن الكتابة أو لنقُل النشر، سنين طويلة عدا فلتات هنا وهناك. واستمرّ الأمر على هذا المنوال إلى أن استشهد راشد حسين فعدت إلى الكتابة والنشر من خلال إصدار بعض الكتب، برعاية مشكورة من حركة أبناء البلد ومؤسّسة «الصوت» و«الأسوار». وكتبت في بعض الصحف بعد انتهاء سيطرة التيار المتعاقد على الساحة الثقافية، ولكن بذات المستوى من حدّة الالتزام الذي اعتدته، مما حدا ببعض هذه الصحف إلى الاستغناء عن مساهماتي الكتابية فيها.

– ما العلاقة بين استشهاد راشد حسين وعودتك إلى الكتابة والنشر؟

– لمواصلة مشروع راشد الملتزم. ولأنني شعرت كأني مدين لراشد بمواصلة مشروعه النضالي. ومع أن معرفتي محدودة بتفاصيل تجربة راشد النضالية في الخارج، إلا أنني كنت مطّلعًا على مدى المعاناة التي واجهها على ساحة الالتزام الفلسطيني التقليدي، الذي كان شائعًا بين سفهاء هذا الالتزام وحامليه ذوي الموقف المزدوج وأصحاب المشاريع الشخصية، مما جعلني أعتقد أنه كان لراشد طريقه النضالية الخاصة، التي كانت تشدّد على شرف الالتزام وسولكياته. وكان على أحد ما أن يواصل هذا الطريق، كمشروع للمستقبل الفلسطيني، بدل المشروع المتهالك. وأحاول أنا أن أكون ذلك الأحد.

– لا تقصد راشد الشخص، بل الموقف؟

– الإثنان. فأنا أنتمي لراشد على مستوى الالتزام المشترك ومستوى القرابة. فكوننا أخوين يجعلني أقرب الناس إليه منه الناحية الشعورية، وهذا لا بدّ أن له تأثير. وغيابه جعلني أحسّ أنه أصبح موقفًا غائبًا، وعلى أحد ما أن يملأ هذا الغياب، وبصفتي أقرب الناس إليه التزمت بالمحاولة..

– أحمد حسين، كيف تفرح، وبالحزن تفرح، وأنت «الذي اختلس المكانُ بلادَه حتى أقاصي اللون / واستولى الغياب على حبيبته وأنكرها الغياب»؟

– الحزن هو حضور المفقود في الذاكرة والوجدان. وفي السياق الراهن للتلاشي التدريجي لحضور العلاقة المادية بيننا وبين الوطن، لم يبق سوى أن نفقد الحزن لينقطع الخيط الأخير الذي يربطنا بما كان لنا ذات يوم. هذا الذي كان لنا لن يكون لنا مرّة أخرى إذا نسيناه. والحزن وحده الآن هو الذي يستطيع أن يجسّد الوطن الضائع، في الذاكرة، لتُجسّد الذاكرة ذات يوم حلم العودة المحتوم ويتحقّق الفرح. هذه هي مهمّة الحزن، الذي يبدو أنه لم يبق الآن طريق سواه لنجدّد فرحنا. الحزن هو هويّتي وعنواني الفلسطيني الوحيد في هذه المرحلة، ولن نعود إذا لم نحتفظ بالعنوان.

– لذلك تحذّرنا، بلهجة نبوءة الغضب، أنْ ليس بالحزن وحده، حيث: «لا حزن ينفعكم إذا رحل الرحيل ولا غضب»، فعندئذ «سوف تنسى أننا كنا هنا ولسوف تنسى» (هي: المرأة، الأرض، أمّ حزنك، كنعان، فلسطين). ماذا تقصد برحيل الرحيل؟

– الخطاب الوجداني هو خطاب كنعاني؛ نواح على الأطلال الجديدة من خلال استرجاع فجيعة الطلل القديم، وتدخّل في ورطة الوجدان الهجري (العربي، إذا شئت) الذي يشقّ فضاء الكينونة كالصفير، بدون أية ذاكرة سوى ذاكرة النقيض، الأمر الذي يحول بين وقتي ودربي الشخصي – أنا أحمد حسين – وبين الصحوة الكنعانية التي تواجه حدّة الحضور الهجري، الذي يشكّل مستحيلها الراهن في الانبعاث. هذا الحضور الحادّ، للهجنة ومعاداة الذات والغياب عن وعي الأصالة وأولية التواجد البشري والحضاري على تراب كنعان المعاصرة – فلسطين، يصنع نسيان النسيان ويبعد الحلم الذي تضع الغيبية قدمها الثقيلة عليه لننسى:

«أننا كنّا هنا قبل اقتسام الأرض بين الآلهة

وبأننا كنّا هنا بعد اقتسام الأرض بين الآلهة»

أمّا ما تدعوه سيدتي «نبوءة غضب» فهو ليس نبوءة، إنه تأكيد لكون الوجدان هو استراتيجية المستقبل الأساسية في مراحل الإندحار والهزيمة. فإذا رحلت الذاكرة عن ذاكرة الرحيل، كما في حالتنا، فما الذي سيفعله الحزن سوى أن يصبح زينة للوجدان في سفره البعيد نحو مراودة الإبداع في تجلّيات العبث الجميل. وما الذي يفعله الغضب بعد فوات الوقت ورحيل الراحلين عن رحيلهم في منفىً سيصبح وطنًا.

– تعلن في ديوانك أن الشعر هو الدرب: «لا يبحث الشعراء عن شيء سوى ما لا يكون لكي يكون» فإنهم «رُسُل..». إنك ترى الشعر حاملاً، أو على الأقلّ أحد حوامل الحلم الفلسطيني والعربي والإنساني؛ حلم الحرية ومناهضة المهيمن والانفلات من وطأة المرحلة. هل تتفضّل بالتوسّع في هذا الموضوع، ثم بالتوسّع حول رسالتك أنت على وجه الخصوص؟

– قلت إن الشعر درب، ولم أقل إنه الدرب. الشعر مثل جميع الفنون الأخرى، ليس لغة «الإنسان الأسمى». إنه لغة الحضارة في تجلّياتها الإبداعية والمعرفية من خلال وليدها التاريخي، الذي هو الإنسان، حركة في اتجاه التغلغل في الوجود الواقعي والتجربة الإنسانية، وليس الابتعاد عنهما. لذلك يمكن القول إنه خاصية بشرية تتضمّن إعلان الذات عن كيفية ارتباطها بالوجود وإحساسها به. ومن هنا فإنه درب من دروب الصيرورة، يمثّل وجدان الواقع من حيث هو نزعة للتجلّي في المعنى الخاص، وهو أيضًا واقع الوجدان من حيث هو مزاج العصر ومزاج المعرفة. ولعلّه أيضًا سلسلة من العلاقات الخفيّة للحادثة البشرية تصنع تميّزها وخصوصيّتها في طريقة ارتباطها بوجودها الواقعي.

لذلك فإن الإبداع – ومن ضمنه الشعر – في نظري، ليس تحليقًا مجانيًا في عبثيّات اللهو الجميل باللغة أو اللون أو الإيقاع. الإبداع رسالة متضمَّنة في كينونتنا البشرية، لا يمكن إيصالها إلاّ عن طريق الالتزام الإنساني والحضاري، وبها وبه تتحوّل الكينونة إلى صيرورة. الأفق الإنساني لم يوضع سلفًا، إنه عملية ارتقاء تاريخية وليس هبوطًا قادمًا من الأعلى. لذلك فإن الالتزام هو، كما قلت، حركة الخاص في العام، لأن العام موجود فينا بالخاص الإنساني المشترك في الراهن المرحلي، أما الخاص فهو التزامنا بهذا الحاصل، الذي يجب أن ندافع عنه ونسعى إلى تثبيت كينونته والارتقاء بها. فأنا حينما ألتزم بالدفاع عن حقّي في مواجهة الاعتداء فإنني أدافع عن حقّ العالم وأسهم في تثبيت المسلّمة الإنسانية العامة برفض الاعتداء على حقّ الآخر. أمّا حينما أرضخ للعدوان وأتخلّى عن الالتزام بمواجهته، فإنني أسهم في زعزعة أركان هذه المسلّمة العامّة وأسجّل سابقة لصالح نزعات الاعتداء في العلاقات الإنسانية. لذلك فإنني أرى الرفض المتشدّد لواقعة العدوان التي تستهدفني، تحقيقًا لالتزامي المتشدّد بإنسانيّتي وإنسانية الآخر. وحدود هذا الالتزام هي قطعية الرفض أن يحقّق العدوان أية مكاسب مهما كانت جزئية، لأن نقص الالتزام مثل عدمه، في انعكاسه السلبي على العموم الإنساني ومسلّماته الحضارية. هذا هو موقفي السياسي بالنسبة للقضية الفلسطينية، وهو يشكّل المكافئ التامّ لإنسانيّتي والتزامي الوطني والقومي والإبداعي.

– لماذا مزّقت روحَك القصائدُ حول «ريتا»؟

– لأن «الفلاشا» يحرثون الأرض حول أبي!

«ريتا» التي تقصدينها، ليست مجرّد طرف في علاقة غرامية. إنها أيضًا طرف مفاوض، كما هو منصوص عليه في الوثيقة الإبداعية عن «ريتا». طرف في صفقة سياسية وفكرية تخصّ شعبًا ووطنًا وحضارة. وكما تعلمين فإننا شعب الصفقات الخاسرة، نعطي لكي نعطي أكثر بدون أن نأخذ شيئًا. وقد خرجت «ريتا» من مفاوضاتها الليلية، مع الطرف الذي يمثّلنا، بكلّ ما أرادت. خرجت بمشروع جديد لبداية جديدة من العلاقات، مؤسّسة على المشترك الإنساني والفلسفي. حصلت على صياغة جديدة للائحة الادّعاء الفلسطينية، أُسقطت بموجبها معظم التهم المنسوبة إليها، وأُسندت هذه التهم إلى القصور الحضاري العام. ولتجنّب قضايا الافتراء التاريخي لدى الطرفين حول قضية الأرض والشجر والماء وحقوق الملكية التاريخية لها، تمّ الاتّفاق بين الطرفين على تجاوز الوثائق والمستندات المتعلّقة بهذا الأمر والإحالة إلى الأسطورة والأسطورة المقابلة وحُلّ الإشكال بإسقاط الأسطورتين معًا.

هذا، والفلاشا يحرثون الأرض حول أبي!

كيف إذن لا تتمزّق روحي!

– يبدو أنك في ديوانك الأخير، في سبيل «نسف مشروع درويش الشعري برمّته» كما عبّر البعض. فهل هذا ما تبغيه إذ توصينا: «لا تنصتوا للشاعر الأعمى فإن الأرض تسكن إسمه غصبًا»؟ وإذ تقول مخاطبًا إيّاه: «تُفنينا القصيدة حين تكتبها وينكرنا الفناء»؟ لمَ لا ننصت له وهو شاعر فلسطين؟

– أين وكيف «يبدو» لك ذلك؟ المشروع الشعري أولاً ليس مشروعًا قابلاً للنسف أو التخريب من خارجه. إنه بنية مستقلّة تمام الاستقلال عن النوايا السيئة للآخرين ومشاريعهم التخريبية. وأنا أعترف، رغم محاولتي الإجابة عن سؤالك، أن مصطلح «المشروع الشعري» غامض بالنسبة لي تمامًا؛ هل هو المشروع الإبداعي ذاته أم أنك تقصدين به موقع الحيثية الذي يصبو إليه الشاعر من خلال إنجازاته الإبداعية؟ إذا كنت تقصدين المعنى الأول، فإن محمود درويش هو شاعري المفضّل، وإذا كنت تقصدين المعنى الثاني فإنه نزوع مشروع، وهو لدى محمود مدعّم بأهلية إبداعية متميّزة. فلماذا إذن أختار موقف الغباء و«أبدو» كمن يحاول نسف ما تدّعينه مشروع محمود الشعري؟ إنني حينما أقول «لا تنصتوا للشاعر الأعمى..» فإنني أقصد موقف محمود الفكري والسياسي من قضية العلاقة بالآخر. إن محمود يشبه المرحلة السياسية الراهنة في موقفه السياسي إلى حدّ بعيد. والموقف السياسي اليوم، بعد أن بلغ حضيضه المرعب، بحاجة إلى موقف وجداني مناهض. كان «المشروع الشعري» – كما تسمّينه – لمحمود هو المرشّح الأول، بالأهمية والتألّق، لتأسيس هذا الموقف الوجداني أو الثقافي المناهض. ولكن للأسف، فإن ما يحدث هو العكس. وبحدّة الالتزام وحده بقضية شعبي خاطبت محمود بهذه الحدّة.

– هل يصحّ القول، إنك – من موقع التزامك – تحسّ بخيبة أو مرارة، وتحسد درويش على مكانته، وهو البعيد عن الالتزام؟

– هذا الافتراض، من الناحية النظرية، يعبّر عن احتمال منطقيّ. فمحمود شرفة إبداعية عالية، وظاهرة مركزية في الساحة الثقافية العربية عمومًا. لذلك فإن أيّ شعور بالحسد من جانب أيّ شاعر، وبضمنهم أحمد حسين، يظلّ احتمالاً واردًا. ولكن يبقى أن على من يطرح هذا الاحتمال ألاّ يعتمد على التداعيات العفوية للممكن. فموقف الحسد لا يمكن أن يخفي نفسه، لأنه بحاجة إلى الإفتراء والكذب واستدعاء المواقف أو تحريفها على الأقلّ، أو أن يكون حسدًا صامتًا. وفي الحالة الأولى فإن على صاحب الطرح أن يستغلّ سهولة الانكشاف لحالات الحسد المرضيّة ويقوم بفضحها. أمّا في الحالة الثانية فليس لأحد ما يقوله بهذا الشأن، فهو نوع من التطلّع المشروع إلى مجاراة أو حتى تجاوز النموذج الأرقى. ومحمود شاعر يستحقّ الحسد عن جدارة بتفوّقه الإبداعي، والحسد هو موقف في صالحه لأنه إقرار ضمنيّ بهذا التفوّق.

وفي حالتي أنا، كشاعر شبه مجهول باختياره هو، تصبح قضية الحسد لمحمود درويش انشغالاً غبيًا بالآخر، وتطاولاً مضحكًا من جانبي، لفداحة المسافة بين الموقعين – موقع الشاعر المغمور والشاعر الرمز. وليس هذا محاولة منّي لنفي أيّ شيء، وإنما هو تمهيد لتوضيح موقفي من محمود درويش.

إن نقاشي مع محمود هو صدام سياسيّ وفكريّ محض، يقع خارج قضية الإبداع. أستطيع بسهولة أن أقرّ لمحمود بالصدارة الإبداعية، ولكن وجع الالتزام الذي أحمله يجعل من المستحيل عليّ أن أتجاوز له أو لغيره عن أية حادثة مساس بصورة هذا الالتزام. وموقفي من محمود هو موقفي من المرحلة أصلاً، وهي مرحلة بلغ بها تدنّي المواقف السياسية والثقافية حدّ الفجور والموافقة على تدمير الذات الوطنية نيابة عن النقيض. أمّا انحيازي نحو الردّ على محمود بالذات واختيار نموذجه الثقافي كموقع للمواجهة، فيعود إلى وجاهة الموقع ورموزيّته التي توفّر له انتباهًا خاصًا وتعطي لنصوصه خطورة مضاعفة على مستقبل الالتزام والتزام المستقبل. ولقد وصلت استباحة محمود للدخيلة والوعي الوطني ليس فقط حدّ التنكيل بالالتزام على ساحة المواجهة وإنما تعدّتها إلى حدّ التنكيل بالهوية التاريخة لشعبنا. لم يكتف بالهبوط إلينا على غرار نبويّ، محمّلاً بالرسالات الإنسانية والحضارية التي تبرّر تجاوز الواقع إلى الأمر الواقع، بل إنه يحاول أيضًا أن يقنعنا أن تجاوز المرابطة في الالتزام، ومحاورات الدم غير المتكافئة، وأوهام الهوية، هي سبيل الخلاص الوحيد، بعد أن بلغت الطيور سماءها الأخيرة في اندفاعة ضوئية لم تتجاوز خمسة وخمسين عامًا. إن محمود يبدو غارقًا في زمنه الشخصي إلى درجة نسيان الزمن الوطني والقومي والإنساني، ويربط بين حضوره العابر وحضور الوطن والشعب في معادلة «أنوية» تجعل الحضورين يكافئ أحدهما الآخر، ألم يتخرّج من مدرسة إميل حبيبي، باعترافه هو؟

– عندما خاطبه: «يا معلّمي» في نصّ تأبينه؟

– نعم. ألم يجعل ذاك المعلّم من مجرّد مكوثه العرضي في حيفا حدثًا مكافئًا لحصوله على المغفرة من شعبه؟ ولقد رضينا من محمود بالحدّ الأدنى أكثر من مرّة. وهو الآن يكرّس بمواقفه المناوِرة ظاهرة الوطني العميل والوطني المنحرف والوطني المحايد على الساحة الثقافية الفلسطينية ليمهّد أمام السياسي طريق الاستسلام المشرّف. فهل سيكون مكوثه في الالتزام الوطني المحايد هو طريقه إلى الحصول على المغفرة، خصوصًا بعد أن صرّح لصحيفة «يديعوت أحرونوت» أن حيفا لم تعد مكانًا صالحًا للعودة بالنسبة للفلسطيني المشرّد.

– صرّح عن حنينه إليها أن «البُعد يحوّل كلّ قطعة حديد إلى قمر» وأن حنينه إليها امّحى والمرض زال، في زيارته إليها سنة ١٩٩٦. وأحد الشعراء، في معرض الدفاع المحرَج عن محمود قال لي إن محمود شاعر، ويستخدم الكناية، و«الحديد» هو كناية عن الشيء التافه!

ولكني أسألك: ألا تمثّل أنت ومحمود درويش موقفين مختلفين نابعين عن الإحباط نفسه الذي يطغى على الجميع؟ وهنا ربّما ألتمس لديك لمحمود عذرًا في ثقل المرحلة وعمق الهاوية التي تردّينا إليها فلسطينيًا وعربيًا؟

– إنك تقترحين ما يقترحه محمود درويش تمامًا، وهو أن يكون الإحباط مدخلاً مشروعًا للتخلّي عن الالتزام. وعلى هذا الغرار نستطيع أن نجد العذر ليس لمحمود درويش فقط، بل لأبي مازن ونبيل شعث وكلّ ظواهر العمالة والانحراف.

هناك فرق بين الالتزام المقهور والالتزام المدلّل. الأول حالة مرابطة في الموقف، والثاني حالة مرابطة في المرحلة. الأول لا يستطيع تجاوز أوجاع القهر والثاني يستطيع تجاوز الهزيمة بالانهزام. هذا رحم الإستراتيجية وذاك رحم المراحل اللقيطة. لذلك فإن الأول لا يغفر ولا يتنازل، والثاني يستطيع أن يغفر إلى درجة تعليق الأوسمة على صدور العملاء، ويستطيع أن يتنازل حتى مقايضة الوطن بغرفة محاصرة.

– نراك، في شعرك وفي مقالاتك، تتصدّى لانتمائنا الإسماعيلي – الهجري، وتراه مأزقًا يسدّ أفق انتمائنا العربي الكنعاني إلى فلسطين أرضًا وتاريخًا. هل توضّح هذه القضية للقرّاء، خاصّة وأنهم، من أجل السلام في «الشرق الأوسط».. اقتسموا «الأراضي المقدّسة»، على حدّ تعبير بوش في العقبة.

– الوجدان هو استراتيجية المستقبل لأيّة مجموعة بشريّة، كما ذكرت. إنه دينامية الذات الفردية والجماعية في علاقتها بالآخر نفيًا أو استدخالاً. حركة الوجدان هي حركة التطلّع والفعل والسلوك وفضاء الفكر والمحاورة. وفي النتيجة، فإن الوجدان هو نحن كما نبدو. ومقتنيات الوجدان كلّها مقتنيات تاريخية، تراكمات للتجربة، تخضع بحركة الوجدان ذاته للتفكيك والنقض والمحاورة على ضوء التجارب الراهنة. أيّ فشل في سياق الكينونة أو الصيرورة أو رداءة الحضور على الواقعة العينية، يستدعي تفكيك الذات الوجدانية تمهيدًا لفكفكتها. وسؤال، لماذا نحن هكذا؟! يقود إلى سؤال آخر هو: من نحن، أولاً؟

نحن، كهجريّين، مجرّد ظاهرة وجود لحضور الآخر. جغرافيا للانفعال وليس للفعل. منذ ترسيخ نصوص الحادثة الهجرية واعتمادها كوجدان بديل عن الأصالة أصبحنا مجرّد ظاهرة تواجد بشريّ وظيفيّ، مهمّته حمل حضور الآخر الغائب. لقد تبنّت الحادثة الهجرية نصوص التاريخ الغيبي التوراتي تبنّيًا قداسيًا متشدّدًا، لتُحقّق أكبر عملية تهويد تراثيّ وعرقيّ وتاريخيّ ووجدانيّ للأرض والإنسان على جغرافيا الانبعاث الحضاري الأول للبشرية. لقد كانت الحادثة الهجرية معجزة تكوين غيبية أظهرت مدى خطورة الوجدان في صناعة البشر لتاريخهم. لقد تمكّن الوجدان الهجري من تمدية (من: مادّي) نصوص الاقتحام الشفوي التوراتية، في ذات الوقت الذي تجاهل فيه الأصول العرقية والحضارية العربية إلى درجة التغييب التام. أصبح أصحاب الأوّلية العرقية والحضارية العرب، من أشوريين وبابليين وآراميين وكنعانيين و.. و.. و..، مجرّد هوامش باهتة لحركة الأسطورة الغيبية للنقيض الشفوي، لكي نصبح من نحن الآن؛ لا شيء!

لن أقول أكثر مما قلت، لأن سرد فجيعة التاريخ الهجري يحتاج إلى صحيفة بحجم الوطن العربي، ونحتاج أنا وأنت إلى أحفاد أحفادنا لإتمام المقابلة عنا. ولقد كتبت عشرات المقالات والنصوص الأخرى المنشورة، حول هذا الموضوع، فليرجع إليها من شاء.

– كمبدع فلسطيني، أراك تشبه كثيرًا ناجي العلي، في صلابة وحدّة وحرارة موقفه من فلسطين. كان همّه الابتعاد عن دواعي السقوط. ومن خلال حنظلة، عاهد الناس على البقاء ملتزمًا بالهمّ الطبقي والوطني والإنساني. وكان حنظلة «القنفذ، الحيوان البرّي المهاجم والمدافع بشوكه، شديد الحذر، يطلق شوكه السامّ باتجاه أقلّ حركة يسمعها.. يغوص عميقًا في الأرض، التي يعرف جيدًا جميع طرقها السرّية، لذلك علاقته حميمة بالأرض ولا يفارقها، ولذا يحمل لون الأرض دائمًا». لم يكبر حنظلة؛ عمره عشر سنوات، كعمر ناجي يوم شُرّد وعائلته من فلسطين، كذلك لم تكبر أنت، وبقيت طفلاً ذبيحًا في التاسعة منذ شُرّدت عن حيفا. فما أشبهك بناجي وبحنظلة!

– لو طلبت إليّ أن أتحدّث عن مشهد الالتزام الفلسطيني، المشترك لدى كلّ شرفاء الالتزام بين أبناء شعبنا، لما استطعت أن أصفه بمستوى الصدق والحرارة التي وصفته بها. إن كلّ فلسطيني يحمل معاناة الالتزام في حدودها القصوى لا بدّ أن يشبه ناجي العلي وأن يشبه حنظلة. لقد لاحق ناجي العلي مصيره الاستشهادي على المستوى الوطني والقومي. لقد استشهد الفنان ناجي العلي على ساحة الالتزام الملتهب واستشهد معه حنظلة الفلسطيني البسيط على نفس الساحة وفي نفس اللحظة. وحينما يموت آخر مبدع فلسطيني رافض كناجي العلي، ستخلو الساحة للوطنيين العملاء ومقايضي الالتزام، ويموت آخر حنظلة فلسطيني.

– ألاحظ فيك ممّا في أبي العلاء المعرّي: تشبهه في صلابة وأصالة وكبرياء وعمق مرجعية الموقف: العقل والقريحة معًا، وفي التزامك صدق الموقف وإعراضك عن الشهرة، وفي ارتباطك بالمكان – الوطن، وفي ما حظيت به من «فرط الإعجاب من محبّيه ومريديه وفرط الحقد من منكريه» كما عبّر العقاد.

– المعرّي جزء من ذاكرة الإبداع الإنساني العام. قد لا يكون موقعه في هذه الذاكرة بارزًا، لأنه تغلغل فيها عبر روافد إبداعية متعدّدة حملت تأثيره العظيم إلى كلّ مواقع الإبداع العالمي. كما أن هذه الذاكرة، كما تعلمين، هي ذاكرة منحازة، وتحاول التنكّر لأعلام التأثير الشرقي والعربي بوجه خاص، حتى لأولئك الذين اقتحمتها إنجازاتهم اقتحامًا. ومن الصعب تخيّل شاعر قرأ المعرّي ولم يتأثر به، ولقد قرأت المعرّي وما زلت أقرأه حتى اليوم، فلا يمكن افتراض أنني لم أتأثر به، مع أنني لا أعي حدود هذا التأثّر أو مواضعه. ولكن المعرّي، مثل المتنبّي، جزء من تكويني الوجداني.

قد تتشابه بعض مواقفي مع مواقف المعرّي، وخاصة التشاؤم، الذي هو سريرة الإبداع الحقيقية، ولكن تشابه المواقف في كثير من الأحيان، ليس انعكاسًا للتأثّر المباشر بمدى ما هو انعكاس لتشابه الأمزجة أو التجارب؛ والمعرّي شاعر نكبة – نكبة العمى ونكبة المرحلة التي عاش فيها، وأنا أيضًا شاعر نكبة، نكبة ضياع الوطن ونكبة ضياع الالتزام وسيطرة سفهاء المرحلة. وفي هذا المجال يمكن القول إن تجربتي تشبه تجربة المعرّي إلى حدّ بعيد. والمعرّي شاعر رافض وأنا أعتبر نفسي واحدًا من شعراء الرفض الفلسطيني المتشدّدين. ولكن أهم مظاهر انتمائي إلى وجدانية المعرّي هي في الرفض المشترك للتاريخ الهجري. أمّا قضية الشهرة، فلا أظن أنني أعرضت عنها باختياري، ولكنها – كما تعلمين – شهرة مدفوعة الثمن، وحينما رفضت دفع ذلك الثمن أعرضتْ هي عنّي. كما أنني أظن أن المعرّي لم يكن ليُعرِض عن الشهرة لولا أنه فضّل حرّية الفكر والالتزام عليها.

:::::

صحيفة «حديث الناس»، ١١ و١٨ تموز ٢٠٠٣