فؤاد ريان-الأرض المحتلة
يبدو النقد، أحيانا، حائزا على جزء كبير من مصداقيته وشرعيته من خلال المكان الذي يمارس
منه هذا النقد، مثلا: من المقهى أو من المنتجع، من الرصيف أو من البيت، من الجامعة
أو من السجن… وكذلك أيضا الحالة التي
يمارس في أجوائها، مثلا ناقد جائع أو شبعان، برجوازي|كمبرادوري أو فقير…ويستخدم البعض
أو الكل، خصوصا هذه الأيام، الاستعاضة عن الانهزام في الراهن باستحضار “أرواح”
النضالات سواء في التاريخ الشخصي أو مثلا في تاريخ حركة ما. ويبدو هذا واردا ودارجا
في النزعات التبريرية والتسويغية، أو ردة فعل نفسية لإخفاء الشعور بالذنب.
فالكل
يحتاج أن يجد حائط فكري أو عقائدي أو رمزية ما ليسند نفسه عليها. وتبدوا هنا مصداقية
اكبر للاماكن والحالات التي يمارس منها النقد أكثر من فذلكة وبلاغ الخطاب النقدي، وكما
يقول شوبنهاور : البساطة هي ختم الحقيقة simplex sigillum veri““.
تطرح هذه المقالة رؤية نقدية، ولو تبسيطية، لما آلت إليه استراتيجيات وأحوال النضال
الفلسطينية عبر تفكيك تمثلات هذه الماّلات في المرحلة الراهنة مما يطفو على السطح،
خصوصا في المجال الثقافي، ولما يمكن أن نسميه بانسلاخ الرمز عن الواقع، ليصبح الرمز
وحده هو الواقع. والأسوأ من هذا كله هو دخول هذه الرمزية الفلسطينية إلى الانخراط في
الرأسمالية عبر آلياتها المعولمة، وتحقيق فائض ولكن هذه المرة ليس فقط من خلال تراكم
راس المال والاستغلال، ولكن من خلال ريع ناتج عن بيع رمزية القضية (بيع وتسويق الشفقة).
ويلمح هذا التحول وإعادة تشكيل الفضاء الفلسطيني في مجالاته المتعددة، السياسية والثقافية
والتنموية الاقتصادية، وكيف تسربت سموم إلى كل شيء تقريبا، وتم تخدير جزء وترويض جزء
آخر واحتواء جزء أخر من الفلسطينيين للسير في اتجاه أصبحت نتائجه واضحة لكل من يأخذ
نظرة بانورامية تاريخية على مسارات التحولات تلك.
“المقاومة بالفلافل” ترميز لحالة بات فيه النضال ومشتقاته، من نوع، مثلا:
إثبات، للعالم الغربي، أن الفلافل والحمص هي من المأكولات الشعبية الفلسطينية أو
“التراث الفلسطيني” وليست من التراث الإسرائيلي، أو مثلا، الثوب المطرز هو
من التراث الفلسطيني وليس من التراث الإسرائيلي… وبات شغلنا الشاغل كيف نبرهن للعالم،
أو ما يسمى بخرافة المجتمع الدولي، بارتباط الحمص والفلافل والتطريز بأصالة هذا الشعب
وحقه التاريخي في هذه الأرض. ومن ناحية أخرى، انخرط جزء أخر من الفنانين والمثقفين
الفلسطينيين في المسرح والسينما والشعر في نفس التيار، ولما يمكن أن نسميه بـ”سينما
ومسرح وشعر القنصليات والمراكز الثقافية الأجنبية”، وبات الهم هو كيفية تلحين
قصائد محمود درويش وعرضها على الجمهور الفرنسي في باريس، أو في مدن أخرى كلندن ومدريد
وبرلين وروما. أو المشاركة بفيلم فلسطيني في مهرجان عالمي للأفلام، مع أننا نعلم أن
الجوائز التي تمنح للفلسطينيين في هذا المضمار تكون لواحد من سببين، أما للشفقة على
الفلسطينيين، أو لان العمل الفني يروج لللا عنف أو السلام أو فيما يسمى ب”أنسنة
القضية الفلسطينية”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المرتلين في هذه الجوقة أنفسهم
لا يأكلون فلافل وحمص بل يأكلون في اغلى المطاعم ولا يستطعموا إلا بالأطباق الأجنبية،
ولا يشاهدوا ربما إلا الأفلام الهولوودية واغاني “البوب والهيب هوب” الهابطة.
إن بدت التسمية، أي المقاومة بالفلافل، تحمل نزعة مبالغة أو تشويه، يبدو الواقع أكثر
غرابة وتشويها. ويمكن من ملاحظات بسيطة من الحياة اليومية أن تثير إحباط أي شخص بالحد
الأدنى من الوعي والالتزام، إذا آخذنا في الاعتبار أننا كفلسطينيين نحيا في ظل استعمار
كولينيالي. والمثير للعجب هو أن أكثرية الفلسطينيين اليوم، دون مبالغة، منغمسة في تفاصيل
حياتها اليومية المعيشية والمادية وكأننا في بلد مستقل وذو سيادة، حتى العوائق التي
يفرضها الاحتلال بشكل مباشر يتم التكيف معها وتصبح جزء “عادي” من منظومة
أو روتين الحياة اليومية.
يبدوا الفلسطينيون، وما حدث في معركة أوسلو، كالذين نزلوا عن الجبل في معركة أحد لجمع
الغنائم حيث خيل إليهم أنهم انتصروا، ولكن كان لهم “أريئيل بن الوليد”* بالمرصاد،
مع حقيقة أن هذا النهج بدأ منذ عهد قديم، ولكن ربما لم يكن على المستوى الشعبي كالذي
نلحظه اليوم. ويبدوا الأمر في غاية التعقيد إذا نظرنا إلى المسالة من زاوية تاريخية،
حيث يبدو الكل متورطا في هذه المنظومة الطاغية التي اخترقت طبقات عميقة في التكوينة
الطبقية والاجتماعية الفلسطينية. ويبدو الأمر أكثر تعقيدا إذا نظرنا إلى التركيبة الاجتماعية
من علاقات قرابة وصداقة وشبكات اجتماعية متمفصلة بين السياسة والاقتصاد ، وللطبيعة
الحضرية الفلسطينية وسوسيولوجيتها، حيث أن الضفة الغربية منطقة ريفية ولا يوجد فيها
مدينة كما يعتقد البعض، فقد أجهضت المدينة الفلسطينية مع الاحتلال الأول عام 1948،
وما يهم هنا كيف تؤثر هذه التركيبة الاجتماعية فيما يمكن أن يسمى بالتراخي في المواقف
من التناقضات بين الأفراد في حيز ما، فالكل مثلا له قريب أو صديق أو نسيب يعمل في منظومة
أوسلو.
تخلق الرأسمالية المعولة في الإطراف أفواج من الشباب “الونا بي- wannabe” وما شابه، وتصبح الغايات تبرر الوسائل وتنزع الأخلاق ويستشري
الفساد. من ناحية أخرى ومن طبيعة الرأسمالية أيضا أن تفاقم اللا مساواة الاجتماعية
والإقصاء والاغتراب، وفي مجتمعات تلعب فيها “الفشخرة والجخة والاستعراض”
دورا هام في تشكيل ممارسات وطموح في المجتمع، وتبدو الوظائف والمشاريع التي يقدمها
التمويل ومشتقاته هي الطريق والطموح لدى فئات واسعة من الشباب. وكم مرة سمعت فيها شباب
يتفاخرون بعملهم مع “USAID” وبنوع من الغرور، فقد وجدوا ضالتهم. وحتى هناك شباب اخذوا يخططوا
لإنشاء مؤسسات يديروها هم حيث يزعجهم أن يبقى اقتسام حصص “التنمية” للضالعين
القدامى في هذا المجال، فهم ليسوا اقل براعة وخصوصا أن نسبة عالية ألان تتخرج من الجامعات
الأوروبية والأمريكية وتأتي عائدة بنهم كبير لخدمة الوطن!!!
لقد أصبحت المعادلة كالأتي: يوجد تمويل توجد حياة، لا يوجد تمويل لا يوجد حياة. وهنا
بالتحديد يبدو كل الشعب الفلسطيني، إلا من رحم ربه، مساهما في الهزيمة بشكل من الأشكال
وكل حسب حجمه وطاقته. وتبدو عملية ممانعة الانخراط في هذا الطوفان الانهزامي سواء بشكل
فردي أو جماعي مهمة صعبة للغاية لان طريقها تؤدي أما إلى الشارع، لا وظيفة ولا مال
ولا عيال….أو يمكن أن تؤدي أيضا إلى السجن أو الاثنين معا تباعا. مع أن الطريق الثاني
ناي السجن يبدو ارحم من الطريق الأول، خصوصا في مجتمع تؤخذ في الاعتبارات في تصنيف
البشر حسب حجم السيارة والبيت والمكانة الوظيفية ونوع الحذاء والكارافات…
والأكثر إزعاجا من هذا كله، هو مسارات من يلقبون أنفسهم ب”مثقفين” وأيضا
الأكاديميون، والذين، لو نظريا على الأقل، يفترض بهم أن يكونوا راس الحربة في التصدي
للمشروع الانهزامي، والدفاع عن الفقراء والمهمشين بشكل عضوي، ولكن هل يدافع برجوازيكمبرادوري
عن الشعب المعتر؟ خصوصا في مرحلة الفرص، أي الغرف من نهر التمويل (منح الأبحاث ورحلات
سفر ومؤتمرات ونشر كتب ومحاضرات مدفوعة وقنصليات ومراكز ثقافية أجنبية…)، من يستطيع
مقاومة كل ذلك؟! والخروج من جنة التمويل إلى جحيم المبادئ! لهذا ترى كل الكتابات الفلسطينية
في المرحلة الانهزامية تنقسم إلى ثلاث فئات: فئة تبيع الشفقة والرموز وتسوقها للخارج
باسم القضية طبعا، وفئة منغمسة في الما بعديات (ما بعد الحداثة، ما بعد الاستعمار،
ما بعد البنيوية…)، ولأنهم طبعا خريجو منح الجامعات الغربية، المنح التي هي جزء من
مشروع التسوية أصلا، فهم يفضلون الرموز على الواقع (مثلا رمزية الفقر على واقع الفقر
نفسه)، وهمهم الوحيد هو الحفر في المصطلحات لكي لا يفهم احد والإكثار من ذكر فوكو وسعيد
ودولوز ودريدا….وهناك فئة ثالثة تكتب حسب الطلب، أي حسب ما يطلب الممول، شيء أشبه
بالاستشارات. ولهذا أعود وأشير إلى ما بدأت به حول مشروعية النقد والمكان الذي يمارس
منه.
حتى “النسويات” الفلسطينيات انخرطن أيضا في هذا التيار، ولكونهن عرضة أكثر
لتقبل المداخل الثقافوية لتفسير واقع المرأة (لماذا؟). هذا من جانب،
ومن جانب آخر، والنساء ليسس استثناء، فشربن أيضا من نبع التمويل، وأصبحت مشاريع التطريز
كغيرها من مشاريع المنظومة التمويلية، فيا يمكن تسميته “النضال بالتطريز”
وكان الثوب الفلسطيني اكتشف لأول مرة، وترتديه نساء الطبقة المخملية وكأنهن تماما كما
ترتديه بعض النساء الأجنبيات كنوع من التضامن مع الشعب الفلسطيني أو كنوع من الموضة
أيضا. وهنا أشير إلى هذه الظاهرة التي فكرت فيها طويلا وهي تحول البرجوازية والكمبرادور
الفلسطيني، ف الشكل وجزء من المضمون إلى شاكلة المتضامنين الأجانب مع القضية الفلسطينية،
واعني هنا المتضامنون من النوعية الرديئة، والتي تردد نفس الخطاب الفلسطيني الانهزامي.
وأصبح هناك تيار من مرتادي السينمات والمسارح والحفلات التي يروج لها على أنها جزء
من دعم صمود الشعب. وأصبح من يسمع أغنية لمارسيل خليفة من قصائد محمود درويش يعتقد
نفسه مناضلا من الطراز الأول. طبعا، ففي حقبة عدم وجود “مشروع وطني ملتزم”
يتعلق حينها الشكلانيون بالأغاني والفن. وهنا ينطبق القول الشعبي “ضيعوا الجمل
ومسكو في البردعة”. وتم تحييد النساء من الاهتمام السياسي إلى عالم الجندر وحقوق
المرأة وتمكين المرأة… وأصبح الجندر “على لسان اللي بسوا واللي ما بسوا”.
هذا
هو نضال المرحلة، والهم الفلسطيني ينحصر في الحصول على اسم في كتاب “جينيس”
لأكبر “سدر كنافة” في العالم، مع انه يمكن أن، لو انتبه الفلسطينيون قليلا،
يمكن أن يحصلوا على أرقام قياسية في جينيس مثلا: البلد صاحب أعلى نسبة ورش عمل في العالم،
أو البلد صاحب أعلى عدد من المؤسسات غير الحكومية في العالم مقارنة مع عدد السكان.
المخيف
حقا هو أن الجيل الذي تكون خلا العشرين سنة المنصرمة، والذي جزء كبير منه مغيب أو غائب
عن عمق وفهم طبيعة الصراع، مع أن فلسطين تحتل مرتبة من أعلى الدول العربية في التعليم،
لكن في اعتقادي، اعلي نسبة في الجهل أو التجاهل أيضا! فقلما يكون العلم مؤشرا على الثقافة،
بل طالما كانت الشهادات إما للحصول على وظيفة أفضل (في نظام السلطة أو غير الحكومي)
أو كنوع من “البرستيج” الزائف. وكم من طلبة انخرطوا بنشاط في مجالس الطلبة
بعد أوسلو وذلك من اجل آن يحصلوا على وظيفة هنا أو هناك كمكافأةتعويض عن نشاطهم.
من
النتائج الحتمية للرأسمالية الحالية أن تدفع بـ”غريزة الأنانية” عند الإنسان
إلى أقصى مدى، وفي حال اختلاط الاستعمار برأسمالية طرفية كما هو في الحالة الفلسطينية،
تصبح المبادئ والثقافة والفن و”التنمية” والأكاديميا سلع تخضع للعرض والطلب
والركود والانتعاش الاقتصادي…من هنا تجد من يتاجرون بكل شيء باسم القضية “التنمية،
الفلكلور والتراث، الفن بإشكاله المختلفة، الدراسات والأبحاث”…حتى الجدار تاجروا
به!
هذا
الهوس الفلسطيني “بالتمثيل” أي تمثيل الفلسطينيين في المحافل المؤسسات الدولية
والمهرجانات والمؤتمرات وغيرها لهو تجسيد للانهزام الداخلي، وهذا الاستعراض يمكن أن
يفيد فقط في حال الانسجام والقوة الداخلية كمساند، ولكن ليس بديلا استراتيجيا للدفاع
عن القضية. لقد لعبت مثلا موسيقى السود في أمريكا، من الصول والجاز والبلوز والراب،
دورا مساندا في حركة التحرر المدني.
وهنا
يتشوق الإنسان بأسى لمعرفة كيف ستكون نهاية هذا المشروع، مع انه يمكن التخمين بسهولة
ما ستكون!