بين الفقه والسياسة العري والتبطّن…والإيلاج

حنظلة

حزِنا على فلسطين حزن الإفتقاد، ولم نحزن عليها حزن العقل، لأن عقولنا لا تعرف أن تحزن. بهت الإفتقاد لأنه صبغة ذاتية. وبهت معه الحزن لأنه ضعيف الذاكرة مثل السعادة. وضاعت فلسطين التراب والماء، وجاء زمان الشجن؟ وهو أشبه بالقهوة العربية، تتسكع رائحتها في أزقة الذاكرة الخريفية المعتمة. رحلت فلسطين الذاكرة أيضا وجاء زمان ” ذاكرة النسيان ” الجميلة، كشجرة عيد الميلاد تولد منها انبعاثات النشوة الغامضة وانبهار القلب. أضافت ألنكبة في النهاية البهارات الذكية إلى مائدة وجودنا الفقيرة، ووسعت مسافات الشعر والغناء والدبكة والصلاة على حساب السياسة وساحة الحناطير، ولم يبق شيء يلمع في الوجدان سوى المسجد الأقصى والحرم “الإبراهيمي ” ومغارة “راحيل ” وعلمْنا التاريخ كيف يتنكر لحيفا وأخواتها من بنات البحر. وضاعت كنعان وتشردت في صلوات المجوس ونفير السفن القادمة من زرقة الماء. ( إيه مغيرة ! ذهب ثلثك )

وجاء من الأسطورة كائن يلبس الثياب ويقرأ الإنجيل والتوراة ويحب الدم. كان يحمل بين يديه خارطة العراق باللونين الأحمر والأسود. أحبه كل الذين يلعنون بابل في صلواتهم. بعضهم لثأر قصصي قديم، وبعضهم لأنها تملك بحرا من النفط، وبعضهم لأنهم مسلمون. وكان العراق كافرا لأنه عربي يبني الجامعات ويخرج العلماء ويقيم المصانع. يصلي الأوقات الخمسة، ولكنه يحب الفقراء أكثر من الفقهاء. أي يحب العرب أكثر من أمريكا. وهذا هو الكفر بعينه عند جلة الإخوان سنة وشيعة لا يشفع فيه أيمان بالله ولا عبادة. ولو كان هذا مما يسكت عنه ما اتفقوا عليه. فمن قرنَ كراهية الفقر بحب الفقراء، وكراهية أمريكا بحب العرب جاوز الكفر بكفرين : كفر الحب فيمن كرهه الفقهاء، وكفر الكراهية فيمن أحبه الفقهاء.

وسقطت قطعةمن الأساطير على العراق من السماء فمحته محوا. ثار بعض العرب فقاموا بمظاهرات مرخصة نيابة عن النظام، وأيد أكثرهم ما حصل غيرة على الدين أو الماركسية. وتوارت بابل خلف حوائط التاريخ؟ ( إيه مغيرة ! ذهب ثلثاك ).

(قال الثالث : رأيت آثار تشريم الجدري في فخذيها. ورأيت خصيتيه تترددان بينهما.

قالوا : لا! إلا أن تشهد أنه كان يلج فيها كما يلج المرود في المكحلة.

قال : لا أشهد ! )

كبر الحاضرون ونجا المغيرة، ونجت زانية الكوفة،ونزلت السيا ط على ظهر أبي بكرة وصاحبه. فهل ينجو العرب بمثال المرود والمكحلة بعد أن أصبح ثلثاهم في حفرة الدفن؟

تشريم الفخذين ظاهر، والعري ظاهر وتشريم الجدري في الفخذين ظاهر والغرب يتبطنهم قسرا وطواعية، والخصيتان تتردان. ولم يبق سوى الشاهد الأخير. في اعتقادي سيشهد الأخير بما شهد الأول، فينجو الغرب ولكن المرأة الكوفية سترجم هذه المرة، بفتوى من الشيخ ” بظن العجل “. وأظنه سيقول : حصل التبطن، وهو ليس من زنا الرجال ما لم يتأكد الولوج الذي هو جوهر الزنا عند الرجل، أما المرأة فجوهر زناها ودليله العري والتبطن فقط لأنها لا تولج.

سيبريء الشاهد وبطن العجل كل زناة العالم ويدينان المرأة. سيبرءان أمريكا والصهيونية والغرب، بعدم ثبوت الإيلاج، ويدينان المرأة بالتبطن والعري. أما الشاهد فهو من الليبراليين، وبطن العجل هو من الإسلامويين. وكلاهما قرينة تاريخية متأخرة، على أن الغالب أن قصة المغيرة وما جرى من حكم فيها ونسبته إلى أعدل وأقوى خلفاء المسلمين، هو من وضع الفقهاء وليبراليي النعمة منهم ممن غلب عليهم التمتع بالدنيا. وقد نسبوها إلى عدل عمر وتشدده ليرفعوها إلى مرتبة تكفي حسب فقههم للإستئناف على وضوح النص القرآني.

سقطت ليبيا بيد الغرب، وفيما عدا حماية المدنيين أي التبطن لم يفعل الغرب شرا. فإيلاج المارينز حدث من البر بالملابس المدنية على دفعات ولم يكن من الممكن رؤيته بشهود وشاهدات العيان. والإيلاج الفرنسي من ناحية البحر حدث من النافذة الخلفية كما اعتاد الجيش الفرنسي، وهو وليس فيه تبطن ولا عري يلفتان النظر. وكل قارب فرنسي كان بموازاته شختور فيه ثوار حتى يختلط الحابل بالنابل. وثبتت نبوءة الشيخ بطن العجل حينما جأر قبل شهور : القذافي انتهى ! القذافي انتهى !. ولهذا العجل كرامات محققة مثل عجل السامري. فقد كان يخور ويجأر رغم أنه صناعة من المعادن. فوقفة بطن العجل المشهورة في ميدان التحرير معروفة يوم استخفه الشيطان فجأر مقسما بالله أن الثورة في مصر ستنتصر. ولم تنتصر الثورة في مصر. ألذين انتصروا هم حلفاء امريكا الإسلامويون والعسكر. ولكنه كان يقصدهم يقينا بقسمه. ولم يخزه الله لأن من أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. ولكن مالنا ولهذا الشيء التافه؟ نحن بسبيل ما سيحث للعرب الآن بعد أن ذهب أربعة أخماسهم بسقوط ليبيا، وأصبح الخمس السوري المتبقي هو الخلاص موتا أو حياة، بعد أن شهد الشاهد الليبرالي وأفتى الشيخ المسلماني ببراءة الغرب وصدق نيته في حماية جسد المرأة من الإنتهاك من جانب القذافي حينما رمى بنفسه عليها.

هذا لون تاريخي من تراث الفقه والفقهاء وتداخلهم مع السياسة قديما، وكيف انعكس ذلك على العراء والتبطن السياسي للعرب حاليا. فيه تحايل وافتراء على الدين وجرأة على الله غير مسبوقة بتقديم منزلة القصص الفقهية الموضوعة على القرآن، وهو ما يسمونه الإجتهاد، وبالحلف بالله على غيبه ائتلاء ً كما فعل الشيء التافه، وكأنه صديق له عز وعلا، أو يوحى إليه خرّ من حالق وهوى. وما دمنا قد أجرينا هذه المفاكرة دفاعا عن عقيدتنا وديننا وعقولنا في وجه بدعة الفقه والفقهاء الكنسية التي تتجاوز البدعة في تطبيقاتها إلى الكفر، فإننا سنتجاوزها في السياسة وحدها لأنها من السياسة وليست من الدين في شيء. فهؤلاء عملهم أن يطرقوا أبواب الدنيا بالدين وأبواب الفقه بالسياسة فيبرؤا الأمراء والأغنياء من الرجم على مر العصور، كما يبرؤون أمريكا الآن من دم العرب متكفلين هم به عنها ليضمنوا لها البراءة. يقتلون المسلمين والعرب بسيف الغرب، ويقولون بسيف الدين. يلبسون الحق بالباطل، ويلحدون بالله سرا ويتهمون من صح دينه واعتزلهم بالإلحاد. فكيف يؤمن بالله من يؤمن بالغرب منبع الإلحاد والشر والهمجية والعدوان على دم العرب والمسلمين وأوطانهم وثرواتهم وحضارتهم وكرامتهم وإنسانيتهم ؟ كيف يدعي أنه يؤمن بالله وهو يفعل ذلك علنا؟ هل واشنطن ولندن وباريس هي يثرب حتى يهاجروا إليها من ظلم العرب لهم كما يدعون؟ لماذا لم يسخر الله للرسول أقوى القبائل العربية الكافرة ليستجير بها وتحميه من قريش؟ بالله عليكم معشر المسلمين ألا تحسون بالشبهة في كل ما يفعلون؟ فلماذا تفضلون شبهتهم على يقينكم وأنتم تعلمون؟

مصر في قبضة الأشباح والعسكر حتى الآن. وتونس مثلها. وليبيا أصبحت مثل العراق. واليمن على طريق ليبيا حسما أو توافقا. وسوريا منكوبة بالرجال الدون من أخوان ولبارلة. وأردوغان المملوك التركي يدعي حقا تاريخيا فيها، وروسيا التي انتهت من صفقة ليبيا تتفرغ لصفقة أكبر بكثير في سوريا. وسوريا تعلم ذلك، وتعلم أن روسيا تتوسط الآن لعقد صفقة بين أيران والغرب هي جزء من سايكس بيكو كبرى، تصر روسيا أن تكون هي وايران شريكتان فيها. وهذا يعني اقتسام ملكية الوطن العربي بصك تبطن عمومي بالقوة. ربما تكون الصين أيضا طرفا ثالثا ولكن الصين أدرى الناس بالمسكوب ولا يمكن أن تثق فيهم أبدا. وعندما يحين الوقت السياسي فستعقد صفقة منفردة مع الغرب. أي أن ممتلين بسوريا لا يمكن أن ينقذهم شيء من أمريكا وعملائها المحليين والدوليين سوى المراهنة على ثورة قومية مرتدة يبادر إليها النظام السوري. عمليا هذه معجزة قابلة نظريا للتجريب،لانعدام الخيارات الأفضل أمام وجود آيل للسقوط. إحتمال أن يكون في الوطن العربي شبابا بوعي قومي أكثر عددا من الإخوان الإسلامويين وأوغاد النخبة الساقطة من الليبراليين، يكاد يكون أمرا مؤكدا؟ واٍلاسلام دين العرب القومي، وليس دين الفقهاء الشعوبيين الذي يكرهون العرب إلى درجة اختراع الفقه ودس الأحاديث وموازنة القصص الفقهية الموضوعة بالقرآن، لتخريب الدين وأهله. لقد حملونا تركة عصبيتهم المريضة التي أودت بديننا ودنيانا معا وتركتنا عراة متبطنين في الدين والسياسة والعقل. أليس من واجب كل مسلم حقيقي أيضا أن يدافع عن أمته ودينه واستقلاله في سوريا؟

لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. من سيس الدين كفر ومن دين السياسة كفر. ما بينهما هو ما ببن سعي الدنيا وسعي الآخرة وشتان. فلماذا نخرب الدين بالسياسة ونخرب السياسة بالدين ونخرج لا من هنا ولا من هنا؟ وكل ذلك فقط لنتبع جماعة أرادت منافقة الأمراء والأغنياء، فوضعت العري والتبطن والإيلاج من أجل تعقيدات السياسة، وتبرئة الخطاة بفهلوات الدجل؟ الدين ثابت مستقيم والسياسة متغيرة متقلبة كافرة بالأخلاق والأمانة والصدق. فما حاجتنا إليها في علاقتنا الفردية بالله كما ينص الشارع ؟ لقد لخص الله المخرج من السياسة لولاة المسلمين بقوله تعالي : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة لتردعوهم، فلا يحوجوكم إلى حرب أو سياسة أو كذب أو تحايل. فقوتكم تحفظ لكم دينكم ودنياكم. ونسب إلى الرسول قوله : الحرب خدعة !أ ي الحرب تخطيط لا يطلع عليه عدوكم لتفاجئوه. فما حاجة القوي المؤمن المعتدى عليه إلى السياسة المبنية على ما يخالف الدين؟ ما حاجته إلى استخدام الدين للسياسة لولا حاجته إلى تبرئة الظالم كما برأ المغيرة بن شعبة بدعوى العري والتبطن بدون الإيلاج، وكما يبريء الإخوان أنفسهم وأمريكا بنفس الفذلكة الفقهية اليوم؟