عملية ” أم الرشراش “… استحقاق فلسطين

محمد العبد الله

لم يكن يوم الخميس، الثامن عشر من آب/أغسطس، عادياً على كيان العدو الصهيوني !. كانت ساعاته الطويلة، مليئة بالمفاجآت، وحبلى بالأحداث. على الرغم من أن المفاجأة التي هزت البنية الأمنية/العسكرية التي بنى هذا الكيان، على “أسطورتها”، مجداً، زائفاً، أثبتت اليوم، كما في كل العمليات البطولية التي خاضتها قوى المقاومة المسلحة في فلسطين وجنوب لبنان، أن تلك الأسطورة، “أوهى من بيت العنكبوت”.

جاء يوم الخميس، يوم العملية الفدائية المركبة، في جنوب فلسطين المحتلة، على الطريق بين مدينتي “بئر السبع” و “أم الرشراش” ليعيد فيه أبطال تلك الملحمة الاستشهادية، تصويب البوصلة نحو وجهتها الأبدية، نحو الاحتلال الصهيوني لفلسطين. أعادت هذه العملية مجدداً، إنعاش ذاكرة الكثيرين، بأن أهمية هذا الإنجاز لا يقف عند حدود خسائر قوات العدو، بل في التأكيد على الانتصار الواضح تحقق في معرفة: أين وصل المقاتلون، وليس _ فقط _ إلى أين وصلت صواريخهم!. لقد أثبتت العملية من جديد، أن قدرات المقاومة، أقوى من كل “الرهانات البائسة”، التي توهم أصحابها، بأن إرادة القتال بالسلاح، وإدامة الاشتباك مع قوات العدو وعصابات مستعمريه، من خلال الكفاح المسلح، قد تلاشت!. وهذا ما برز في غمز بعض الكتاب، من العملية، من خلال ربطها بـ”أهداف لا تبتعد كثيراً عن منظومة الحسابات التقليدية التي تقوم على إرباك الأوضاع والضرب بعنف في مكان لصرف الأنظار عن مكان آخر”. في محاولة لتفسير ما حصل في النقب وسيناء، من خلال “نظرية المؤامرة” وربطها بالدور الإقليمي لبعض دول المنطقة. وصولاً، لمحاولة الاستهداف من خلالها، لتقزيم البطولات التي شهدتها مناطق الجولان وجنوب لبنان في مسيرة العودة في ذكرى النكبة. تلك البطولات التي جعلت جنرالات الجيش في “مجدل شمس” بالهضبة السورية المحتلة، يقفون مطأطئي الرؤوس، حسب اعترافات أجهزة إعلام العدو حينها.

عاش جنرالات الحرب الصهاينة، وطاقم الحكومة المصغرة، ساعات مريرة، وهم يتابعون ما يحصل في ذلك اليوم. إذ وفرت عدة أجهزة استخبارية _ أحد هذه الأجهزة لدولة عربية تقيم علاقة مع كيان العدو _معلومات عن تخطيط مجموعات للمقاومة لعمليات في جنوب الوطن المحتل. وهو ما دفع “أمير أرون” ليعترف في مقالته بصحيفة “هآرتس” في اليوم التالي للعملية ” لم يكن أمس قصور استخباري: كان خطأ في التقدير العملياتي. في قيادة المنطقة الجنوبية قدروا بأن الخلية ستتسلل إلى الأراضي “الإسرائيلية” في مكان ما على طول الحدود بين المواقع المصرية وليس تحت رعاية واحد منها؛ وأنها ستحاول الاستراق ليلا، وليس في وضح النهار؛ وأنها ستهاجم هدفا عسكريا كي تختطف جنديا “.

لكن المفاجآت المتلاحقة على أرض المواجهة، لم تكشف حالات التقصير والخلل في علاقات جهاز الشاباك بهيئة الأركان العسكرية، بل عرّت “نظرية الأمن” التي تدير من خلالها حكومات العدو، الأوضاع داخل الكيان، من زيف “قدراتها الحديدية” سواء كانت على شكل قبضة أم جدار أم قبة. وهذا ما أكدته حرية الاستطلاع والرصد والتحرك والاختفاء، التي بنى عليها المقاتلون، عملياتهم المتعددة في تلك المنطقة الصحراوية. وهو ما أشار إليه “اليكس فيشمان” في مقالة بعنوان “جبهة سيناء” بصحيفة “يديعوت احرونوت”. “كان الهجوم الذي نفذ أمس على “إسرائيل” واسعا من جهة مساحته الجغرافية– على حدود مصر وداخل النقب – ومن جهة سعة الأحداث التي تمت على نحو متزامن. إن عشرات المصابين “الإسرائيليين” من الجنود والمدنيين هم نتاج المفاجأة والتنسيق الدقيق بين منفذي العمليات. فقد كان هنا تخطيط طويل يقتضي استعدادا دقيقا وتنسيقا. فلم تكن هذه عملية متدحرجة عرضية. بل كانت هنا أسابيع طويلة من الاستعداد مع اختيار الوقت المناسب. وكل هذه الطبخة غابت عن عيون الاستخبارات “الإسرائيلية” “. أما “إسرائيل زيف ” قائد فرقة غزة سابقاً في جيش العدو، فيكتب في صحيفة ” معاريف”، تحت عنوان “لبنان في سيناء”، بعد ثلاثة أيام على العملية، تأكيداً جديداً على هشاشة الاستعدادات، وذكاء وخبرة المقاتلين في اختيار بنك الأهداف “العملية الدموية في الطريق إلى “ايلات” تشكل تنبيها للتغيير الجوهري الذي يجري في الحدود الجنوبية. حقيقة أن قوة كبيرة من “المخربين” استعدت، تحركت وتمتعت بحرية عمل في سيناء على مدى زمن طويل، لا تدل فقط على وهن سيطرة الجيش المصري في سيناء، بل على تغيير استراتيجي في الميل في المنطقة. فسيناء تشكل جبهة داخلية لوجستية، محور تسلح وظهر استراتيجي لحماس في القطاع. إضافة إلى ذلك، فان فتح جبهة على بطن طرية في دفاع الجيش “الإسرائيلي” في الجنوب – حدود طويلة وسائبة مع انتشار هزيل نسبيا للقوات – سيعيد لها بعد المفاجأة في الهجوم في مناطق وأماكن غير مرتقبة “.

جاء رد الفعل العسكري الصهيوني السريع، متناسباً مع الصدمة الكبيرة التي قطّعت” خيوط العنكبوت”. انطلقت طائرات الموت والدمار، لتنشر في القطاع الصامد، أشلاء الشهداء. ولتعتدي باستخفاف واضح على القوات المصرية التي سقط لها عدة شهداء داخل الأراضي المصرية المتاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة. أكثر من عشر طلعات جوية، بدأتها بقصف أماكن لقيادات وكوادر ” لجان المقاومة الشعبية – ألوية الناصر صلاح الدين ” التي سقط أمينها العام وعدد من قياداتها البارزة، شهداء نتيجة الهجمات. كان الاستهداف محدداً، حسب تصريحات رئيس حكومة العدو، على اعتبار أن اللجان هي المسؤولة عن العملية، رغم عدم تبنيها لها، واصرارها على تأييدها ومباركتها. سقط عشرات الشهداء والجرحى، وردت فصائل المقاومة المسلحة بالقصف الصاروخي لعدة مدن ومواقع عسكرية/استيطانية، في العمق. كانت خطة العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني في القطاع، وللقيادة السياسية والعسكرية فيه، بشكلها الدموي الوحشي، جاهزة للتنفيذ.

لم يتأخر رد الفعل المصري على الاعتداء الجديد على مصر. فمنذ الساعات الأولى للهجوم، تنبه المصريون لهدف “بالون الاختبار” الذي يقيس الاتجاه الجديد في التعامل مع كيان العدو بعد 25 يناير، ووجود “الكنز الاستراتيجي” خلف القضبان. وبالرغم من سياسة التردد الحكومية، وعدم الحسم الدبلوماسي: طرد سفير الكيان، وإعادة النظر بالاتفاقيات السياسية والأمنية والاقتصادية، التي تعاملت بها الحكومات السابقة مع العدو منذ اتفاق ” كامب ديفيد ” المشؤوم. جاء التعامل الشعبي مع الحدث، ليوازي الفعل العدواني. الآلاف التي احتشدت حول مبنى سفارة العدو بالقاهرة، قالت كلمتها: طرد السفير وقطع العلاقات وإلغاء كامب ديفيد، وترجمت هذه الجماهير أقوالها، بقيام أحد الشباب المتظاهرين بإنزال علم العدو عن المبنى وحرقه، ووضع العلم المصري مكانه.

أكدت هذه التطورات داخل المشهد السياسي المصري، أن مصر التي أرغمتها عصابات التبعية والنهب العام، على التنازل عن دماء أبنائها، وكرامة شعبها، على مدى أربعة عقود، وفي في أكثر من ثلاثة وعشرين حادثة اعتداء عسكري صهيوني، لم تعد موجودة. لقد أعاد شعب مصر العظيم، لبلده، دوره وسيادته ومجده. وبذلك تكون مصر العربية قد بدأت خطواتها على طريق الالتحام بقضايا أمتها، وبلعب دورها _ المطلوب _ في مواجهة أعدائها، أعداء شعب فلسطين، أعداء الأمة.

لقد شكل يوم الثامن عشر من آب/أغسطس علامة بارزة في النضال التحرري للشعب الفلسطيني. فالعمليات الفدائية، النوعية، المميزة في تلك المساحة الصحراوية، والتكتم الإعلامي، البعيد عن التبني السريع، وإعلان أسماء الشهداء الأبطال، تشير إلى نهج جديد في أساليب الكفاح المسلح.