ليبيا والقومية العربية تواجه: عالميات ثلاث، خطاب مخفي وواقع مخيف!

عادل سماره

فلسطين المحتلة

يدور الصراع في الوطن العربي بين الثورة والثورة المضادة وبمختلف الأدوات وتعدد المستويات. ولعل ما يمكن للمرء القطع به، أن ما كان لن يبقى كما هو سواء كانت هذه ثورات أم حراك أم ثورة مضادة يصنعها الغرب الراسمالي وتعتمر الكوفية والعقال وتحمل المصحف بكلتي يديها.

ولأن هذا الصراع سياسي وطبقي معاً، فإن أطرافه تضطر في الغالب للإعلان عن مواقفها وارتباطاتها، وهذا يجعل التحليل اسهل. أما الصعوبة والوعورة والسير الشائك فمتعلق بالعقائد، وخاصة خطابها المخفي. فكلما تمكن الخطاب المخفي من تمويه مقاصده كلما تمكن من نقلنا إلى واقع مخيف!

الصدق احترام للقارىء

حين يتناقش الناس في الاجتهادات النظرية يكون للمرء مدى واسعا في التحليل لا يُدان عليه أخلاقياً  إذا أخطأ لأنه قد يعجز عن التحليل أو تنقصه المعرفة، ولكن حين تكون هناك حقائق لا تنكرها اطراف الصراع نفسها، فإن تغطيتها تعني درجة من عدم احترام القارىء أو المستمع، وهذا في أحسن التفسيرات. ولعل المفارقة في هذا الصدد هي أن الكذب الإعلامي والفكري، كذب الخطاب وخطاب الكذب، أصبح أمراً عادياً يمارسه حتى “الشرفاء”!

منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي في ليبيا كان هناك سلاحاً بيد البعض، وكانت هناك مجموعات القاعدة على الأرض وكان هناك انشقاقاً في الجيش وأعلى المراتب. وكان هناك استدعاء للأطلسي من قادة التمرد، وجاء الأطلسي واتبع تكتيك الهيمنة الثالثة، فهو لا يريد إراقة دولاراته  ودماء جنوده على أرض العرب طالما هناك من هم جاهزون لتادية المهمة. لذا كانت جبهة الهجمة غوغاء على الأرض وفانتوم في السماء، يقابلها نظام ديكتاتوري لم يُستهدف لهذا السبب، بل لأنه ليس عميلاً. نظام عروبي من طراز فج رجراج، كثيراً ما اضرَّ العروبة أكثر مما نفعها. ولكن، لأن فيه مسحة عروبة كان يجب ذبحه بسكاكين فرنجة رأ س المال وحراب السنة والشيعة وبقايا يسار ما كان يساراً في يوم. إجماع بلا قداسة ضد العرب.

من اللافت أنه لم تبق دولة غربية ، ولم يبق نظام عربي تابع إلا والقى بقضه وقضيضه ضد نظام القذافي. من طائرات قطر إلى طائرات النرويج، وباعتراف الأطلسي كانت هناك 20,000 غارة جوية[1]، وفي ليلة سقوط باب العزيزية كانت هناك حسب القذافي 64 غارة، وحتى اليوم، 25 آب 2011، ما زال القصف الأطلسي يلاحق ما تبقى من رجال وجمهور نظام القذافي. ولو استثنينا مشاركة قوات من أنظمة عربية وخبراء من الغرب في الاحتلال، ألا يكفي سلاح الجو؟ هل هناك حربا في العالم غير حرب الغوار حُسمت دون هذا السلاح؟ ومن جهة ثانية أعلن أكثر من شخص في المجلس الانتقالي أنهم استدعوا الأطلسي، بل لاموه على عدم حسم الأمر سريعاً. ومع ذلك يكتب كثيرون، كنا نعتقد أنهم من اهل الثوابت، كتابة خبيثة تزعم “تدخل الأطلسي” وليس استدعائه! هذا ناهيك عن التغطية على مواقفهم البائسة نضالياً من خلال تصوير الشباب الليبي كاسطوري! ولكن، لندع دور الأطلسي في حدود ما يقوله سادة الأطلسي ولا يجرؤ “المجلس الانتقالي العتيد على نفيه”، ولنترك الأمر لقادم الأيام حين تتحول ليبيا إلى قاعدة مفتوحة للأطلسي، بل اصبحت، قاعدة متعددة الخدمات بدءاً من النفط والغاز وصولا إلى المخزون المائي والشمس الساطعة بلا حدود وبوابة لتركيز استعباد القارة السوداء.وحين تصبح ليبيا أخت كوسوفو، يعمل الرجال في صيانة دبابات الناتو، وتعمل النساء في صيانتهم جنسياً، وتصبح ليبيا وكر دعارة وحصان طروادة على ثروات إفريقيا وقوافل فراشات الليل السمراء.  وحينها لن نقول للذين يُزيِّنون ضياع ليبيا: اعتذروا، بل نقول للجيل العربي الشاب : تنبهوا، فوراء خطاب هؤلاء خطاب مخفي!

حينما ابدى القذافي رفضه لسقوط بن علي في تونس، كتبنا في “كنعان” الإلكترونية العدد 2467 22-1-2011، نقدا واضحاً ضد هذا الرجل، بينما لم يتحدث حينها الذين ينهشونه اليوم ويخفون دور الأطلسي وارتباط “ثوار الناتو” بالغرب. هل لأن كثرة منهم قبضت من يده!

أسس الخطاب المخفي

كان واضحا خلال الصراع في ليبيا انحياز قوى كثيرة عبر إعلامها بأنواعه لصالح ثوار الناتو! وحتى في لحظات محاولة هؤلاء حفظ ماء الوجه ونقل الأخبار بشيء من التوازن كان التوازن مختلاًَّ بالضرورة، فهو مصطنع وخبيث. نعم بعض المواقف لا يتسع لها غطاء عرضه عرض السماوات والأرض.

لم يكن موقف جامعة الأنظمة العربية غريباً ولا مواقف اللبراليين والأنجزة والقُطريين والإقليميين وأصنام الطوائف ولا بالطبع مواقف الغرب الاستعماري كعدو بالمصلحة والفطرة والتاريخ والآتي. كيف لا وهو الذي احتل ليبيا. بينما سكتت إفريقيا باسرها تقريباً  ينتابها الخوف والفقر والهلع يحضرها تاريخ قوافل الرق.

الللافت أنه ما أن أسقط الناتو طرابلس واغتصبها في الأرض والفضاء، حتى انهالت التهاني لثوار الناتو وخاصة من قوى إسلام سياسي، ولا نقول كل الإسلام السياسي. قوى مندرجة في خط المقاومة والممانعة وقوى يسار أسقطت وزرة المقاومة والممانعة وأعلنت تأمركها. كان طبيعياً أن تقف ضد نظام القذافي ولو من باب كونه ديكتاتوراً مع أنها أعجز من توليد نظم غير ديكتاتورية  أو أحزاب فيها تبادل لمواقع القيادة..

هذا الحديث من جانبنا محاولة لمعرفة…لماذا هذا الاصطفاف؟ أحد الشواهد على شكوكنا أن هذه القوى لا تتخذ، في العلن على الأقل،  الموقف نفسه ضد سوريا، رغم توفر مساحة أوسع للتشكيك في النظام السوري وإنكار وجود محترفي القتل والتبشيع! هل السبب أن هذه القوى ما تزال بحاجة إلى سوريا؟ اي ان صداقتها مع سوريا لا تقوم على أرضية عروبية ولا ارضية مقاومة ولا بالطبع، والعياذ بالله، ارضية علمانية فما بالك بالحديث عن رفض اقتصاد السوق.

ما معنى أن بعض هذه القوى تقاتل الكيان الصهيوني وتبارك احتلال الأطلسي ل ليبيا؟ هل يمكننا تفسير هذا بأن العقل القيادي الأعلى واحد بين عالمية  إسلام سياسي معولم وبين عالمية (لا أممية) يسارية مهزومة وعالمية رأس المال،راس المال المعولم، أن هناك اتفاق استراتيجي تاريخي بين هذه كلها، وأن هذا الاتفاق من أعلى يسمح لبعض جنودهم كحلفاء  بالاسشتباك حفاظاً  على انخداع القواعد بالقيادة وستراً للخطاب المخفي؟

هل يمكننا تلمس الخطاب المخفي في: أن لا تناقض بين إسلام كثير من شِيَع الإسلام السياسي ورأس المال؟ بين إسلام هؤلاء والملكية الخاصة، بين إسلام هؤلاء والدين اليهودي والتلمود المشبع بالخرافات وكره كل الأمم، بينه وبين الصهيونية هكذا بلا مواربة، بين إسلام هؤلاء وارض الميعاد بين إسلام هؤلاء والمحافظية الجديدة، بين إسلام هؤلاء وإعطاء اليهود المساكين دولة في فلسطين، والأخطر بين إسلام هؤلاء والعروبة!  وأن الحفاظ على هذا الخطاب المخفي يتطلب إراقة دماء الكثيرين من اصحاب الإيمان الحقيقي. وهل يُضير من يستخدم الإسلام مصارع البؤساء طالما يُعلون مجده؟

ما الذي يجمع في احتفال مهيب، بين كثرة من السنة والشيعة، وهما على خصومة دنيوية لا دينية، ما الذي يجمعهم في احتفال اغتصاب طرابلس الغرب، سوى وظيفة عمرها قروناً ضد الأمة العربية؟ هل يقتضي الخطاب المخفي غض الطرف عن خصومات جانبية في سبيل هدف تاريخي وهو إذلال العرب؟ ما الذي يجمع يساراً كان صراخه أحمراً يأخذ بالمسامع كفقاعة صوت، يجمعه براس المال المعولم، في حقبة تحولاته الفاشية والمافيوية.

هل يعجز أحداً عن رؤية ذلك التقاطع الرهيب ضد القومية العربية بين:

  • إسلام سياسي رسمي وتنظيمي من الخليج إلى مصر والشام والمغرب
  • وبين الغرب الراسمالي
  • وبين الصهيونة
  • وبين قوميات كثيرة تزعم الإسلام الخالص كطورانية الباب العالي
  • وبين شراذم يسار تبحث عن لقمة عيش بعد أن صرفت ما رشاها به القذافي

أليست كل هذه خطابات مخفية تُفعل ولا تُعلن؟

إستدارة على طريق القاعدة

بدأ كثير من أهل اليسار بخطاب عالٍ ضد الإمبريالية، ورفعوا من الشعارات ما يكفي كواكب مع هذا الكوكب،  واستداروا في التحليل الأخير للاعتراف بالكيان والارتماء على ابواب الغرب والحكام الوهابيين.

وبدأ كثير من الإسلام السياسي ضد الكيان وبخطاب معلن ضد الولايات المتحدة، بينما كان يجمعهما فراش عشق سري يلد عن الوصل فيه خطابا مخفيا ومخيفاً. هل يذهب هذا الإسلام السياسي إلى طريق القاعدة ولكن بالمعكوس؟

هل يشتمل الخطاب المخفي على المعادلة الذهبية التي يمارسها الكثير من الإسلام السياسي حتى وهو في الحكم: “ارتبط بالسماء واترك لنا الأرض، نخلع عليك الخطاب وتخلع علينا وطنك… ولك منا سلطة وبعض مال أهلك”.

تفيد قراءة للقرن الماضي أن ثلاث عالميات تحالفن لوأد القومية العربية كان اساس مشروعهن اتفاق سايكس-بيكو الذي لم يمت، كطير الهامة:

  • عالمية الإسلام السياسي  التي تحالفت مع أنظمة سايكس-بيكو حتى اليوم،
  • وعالمية التحريفية الموسكوفية (بعد رحيل لينين) وعالمية التروتسكيين
  • وعالمية راس المال التي ولدت:
    • عالمية المحافظية الجديدة المتراكبة على التروتسكية
    • والتي رسملت المسيحية وتقوم اليوم احتلال وأمركة الإسلام كي لا يبقى عربياً

يتبدى اليوم تحالف هذا اللفيف  في ثوب الثورة المضادة، بعضها يُخفى وبعضها يُشهر. تقود وتفيد رسملة الإسلام إلى الإيمان بالمال والسوق وليس الوطن. فالريع لهؤلاء هو الوطن، بل جزء من الريع. والسلطة هي الوطن، أما البيت، فله رب يحميه هو رب راس المال.

لم يكن القذافي سوى ديكتاتوراً، فلماذا استهدف، بينما جرت حماية حكام يحكمون قطعاناً ومقابر أحياء في جزيرة النفط. هل صدفة استهداف العراق، وليبيا، وسوريا اليوم واليمن صباح غدٍ، وكان قبل كل هذا ذبح الناصرية! فهل كل هذه صدفة؟ أم هو مشروع ضد الأمة العربية، مشروع تفكيك وتذرير الأمة العربية. وإلا، لماذا اختيرت هذه الأنظمة، ولماذا جرى اصطفاف أعداء الأمة العربية معاً رغم زعم اختلافاتهم.

وإذا كانت ثورة البلاشفة قد كشفت سايكس-بيكو، فإن تجلياتها اليوم على الشاشات، ولكن ما يحتاج للكشف هو الخطاب، الخطابات المخفية.

الخيار الوحيد

كشفت الهجمة الممتدة بدءاً بمصر اناصرية وحتى طرابلس الغرب والشام وصنعاء، أن الصراع الحقيقي هو بين القومية العربية والعالميات الثلاث المذكورة، والصهيونية خيط نسيج تماسكها كثالوث. وتكشف كل يوم كذلك أن من يقف في وجه هؤلاء هي القوى العروبية ذات التوجه الاشتراكي الحقيقي، وأن هذه القوى المدسوسة والخبيثة والخارجية تستخدم الكثيرين من الطبقات الشعبية ضد نفسها. من يطالع التحليلات في خارج الوطن العربي يكتشف أن من لديهم الروح اللينينية يصطفون إلى جانب حق الأمة العربية. وأن مفكرين ومثقفين عرباً يصطفون في المعسكر الآخر.

تؤكد معركة ليبيا اليوم وسوريا كذلك، أن هذه اللحظة هي فرصة التصدي وإعادة الاصطفاف والتجذير للطبقات الشعبية العربية ولقوى الثورة الاشتراكية على صعيد عالمي، هذا الخيار الوحيد والملاذ الأخير، معركة كلما امتدت اشتدت وتجذرت، وانكشف اصحاب الخطاب المخفي حتى ولو في لحظة واقع مخيف.


[1] Libya’s imperial hijacking is a threat to the Arab revolution, Seumas Milne, guardian.co.uk, Wednesday 24 August 2011