حنظلة
يبدو أن حرب الشعوبيين ضد العنصر العربي في الحكم والدين والثقافة قد شارفت على تحقيق أهدافها. ابتدأت هذه الحرب رسميا منذ أواخر الدولة الأموية، وانتشرت أدبياتها السياسية والاجتماعية والثقافية منذ أول قلنسوة فقهية في العصر العباسي. فقد استحدثت داخل جهاز أمن النظام، شرطة دينية هدفها محاربة الزنادقة، والعلويين، وكل من يقول بعدم أحقية الفرع العباسيين من الهاشميين في الخلافة. وكان دور هؤلاء إصدار الفتاوى التي تدحض مزاعم أولئك، وإصدار الأحكام القاسية في مجلس القضاء على من يطعن في فتاواهم العباسية. وكان لهذا الجهاز شرطته وعسسه الخاصين بوصفه جهازا امنيا وقضائيا تابعا للخليفة وأمن القصر مباشرة. وكان هذا أيضا بداية لتحويل المتكسبين داخل القصر بالمعارف الدينية، إلى ما سمي بطبقة الفقهاء، وتحويل الفقه إلى سلطة كنسية رسمية بيد الدولة. ساهم هذا التطور بشيئين :أ ولهما، كما مر، ظهور الفقه والفقهاء كبدعة كنسية عديمة الأصول في الإسلام. وثانيهما تحول الفقهاء إلى طبقة اجتماعية ترتزق بالكهانة وخدمة النظام. ونجم عن هذه الظاهرة الأخيرة تحول الفقه إلى حقل سهل لارتزاق المتبطلين ممن لهم بعض الدراية السطحية بالدين، ولغيرهم من الدجالين وواضعي الأحاديث ورواد المآتم للتلاوة، حتى غصت بهم ساحة التطفل، ونهبوا الفقراء ذوي العاطفة الدينية المشبوبة نهبا أضر بهم. كان كل دجال منهم يشبه صيدلية فقهية، يداوي بالتمائم، ويفتي في كل شأن من شؤون العبادات والأحوال الشخصية والعقيدة مستندا إلى كتب كبار المختصين من الفقهاء. وكان يغلب على هذه الطبقة من فقهاء الدساكر والحواري انعدام الإيمان واللاخلاقية والتلاعب بعقول الفقراء ليأخذ أموالهم بالباطل، فالفقيه يأخذ على كل خدمة فقهية أجرا. وتعددت مظاهر الفقه والفقهاء، على يد كبارهم، فلكل فقيه بارز مدرسته، يختلف عن غيره في تفسير القرآن وكأنه نزل بعدة لغات، وفي صفات الله وكأنه قابل للوصف بغير ما وصف به ذاته، وفي تسنيد الأحاديث حتى القطع بصحة الإسناد. وأكثر ما اختلفوا فيه طبعا هو ملابس النساء وعورات الجسد والصوت والنظرة والتثني، والنكاح، والطلاق، وضوابط ومبطلات الصلاة ونواقض الوضوء تخصيصا، لأن هذه الأمور هي ديدن الناس في مشاكلهم الإجتماعية والأسرية وشؤون دينهم اليومية، وريعها وافر مضمون. ( فإذا وجدت رحمك الله فقيهين من أصحاب المذاهب يتفقان على دقيقة من دقائق علم الوضوء وتقنياته، فاعلم أن الإسلام ما يزال بخير، وإذا لم تجد فاعلم أن الفقه هو الذي بخير ).
وليس هذا هو القصد من المقال، ولكن كان لا بد من تذكير بتاريخ نشوء هذه البدعة الكنسية التي يسمونها الفقه، ونجم عنها شر كثير لم يكن لنا قبل به، فضيعَنا دينا وعقلا وحضارة ومجتمعات، وها هو يجهز علينا. فمن هذه البدعة نشأ فقه الشعوبية السياسي والذي هو شأن عصبي لا علاقة له بالدين، يخص غير العرب ممن تعصبوا لأقوامهم، بمحاولة بالتخلص من عروبة الإسلام، بزعم أن الإسلام يجبّ العروبة لأنه سابق عليها وهي نتيجة له. وهذا قول من أقوال التدجيل الفقهي، يفضحه أن التنزيل وصف القرآن أنه عربي وأن النبي هو عربي وما كان سبحانه عييا عن الوصف بغير ما أراد. أما تاريخيا فالعرب ابتداء الحضارة البشرية كلها بإقرار النصوص الأثرية المدونة التي لا تعرف الكذب. فالبابليون عرب، والآشوريون عرب، وكذلك الآراميون والفينيقيون والكنعانين وغيرهم كثير ( قبل الكومبيوتر كلا من البابليين والآشوريين والآراميين والفينيقيين واعترض على الكنعانيين فوضع تحتها خطا أحمر. حنظلة ) وكل شعوب المنطقة القديمة التي جاءت من الجزيرة العربية. أما عرقيا فغلبة العروبة مؤكدة على غيرهم من الأعراق في كل المراحل إلى مجتمع اليوم. فالإمداد العربي من الجزيرة العربية لشعوب المنطقة لم ينقطع لحظة واحدة، والقبائل العربية ظلت تدخل من باب الحضرية بدون انقطاع حتى أذابت تلك الأعراق المحتجزة في نسبتها المتناقصة حتى اختفت في سيادة العرق العربي. إذن فهذا زعم لو لم يُقل كان أفضل لحلفاء المستشرقين من سلالات الفقه الحنبلي الشعوبي.
قام أول تنظيم فقهي شعوبي حول فقه المحدث الشعوبي بن حنبل. وكان هناك امتداد سياسي مسبق لهذا الفكر الشعوبي تمثل في الزنادقة الذين كانوا يرفضون الإسلام عصبية واستنكافا من العرب، الذين كانوا ” أمة لا توازيهم حضارة “. وكان أكثر هؤلاء الأغبياء من الروم والفرس الذين أخذوا حضارتهم وقبلهم الفراعنة، عن الشعوب العربية القديمة. وكانت قلتهم تقول بحرية الفكر والعدالة الاجتماعية. ووجد هؤلاء في الشعوبية الحنبلية الفقهية ملاذا آمنا لهم وتقية من تهمة الإلحاد والكفر والسياسة. لذلك غلبت على الحنبليين، بتأثير الزنادقة الذن تبعوهم، الدموية والعنف. فبعد ضعف الخلافة حرقوا بغداد أكثر من مرة واعتدوا على السابلة في الشوارع وقتلوهم ذبحا بالآلاف. واشتهر عنهم تعرضهم للنساء في الطرقات والتنكيل بهن. وهو يشبه ما قام به حنبليو سوريا فيما يسمونه مذبحة حماة أيام الأسد الأب، وما يقومون به اليوم من تنكيل بالمواطنين الأبرياء وتعمد قتلهم، لإدامة الفوضى والكذب على النظام. وباسم دينهم الفقهي الشعوبي لم يجدوا حرجا في بيع دينهم وسيوفهم والغرب ولدينه الاستشراقي الذي يشاركهم كراهية العروبة، والتثبيت للفقه بديلا كنسيا عن الدين الصحيح الذي لا ينتفع به عند مرتزق بالفقه، أو عدو لحرية البشر.
لم تعد للحنبليين اليوم صفة التنظيم الشعوبي المباشر، إلا من خلال علاقتهم الوثيقة بالاستشراق الغربي من حيث تنظيمهم الحديث وتجديد نشأتهم المعاصرة تحت اسم الإخوان المسلمين. لذلك فإنهم من حيث المضمون والمصطلح تكوين وآلية إستشراقية بيد الغرب قديما وحديثا. بل هم الآن أهم ألية محلية في استراتيجية الغرب التنكيلية بالفكر والإنسان والدين والتاريخ العربيين. وهم، أي ورثة الفقه الشعوبي، حينما ينتصرون اليوم على الأصلانية العربية والإسلامية، فإنهم يجنون ثمار ما زرعوا وزرع أسلافهم من وعي فقهي في أذهان العرب، يؤدي إلي معاداة الذات العربية فقهيا لذاتها القومية، وإلى لوثة التصفية الذاتية بدون وعي منهم. ولم يكن هذا لينجح لولا العون الإستشراقي الغربي والصهيوني قديما وحديثا، وبالذات منذ بداية العصر العثماني، بالمال والتوجيه والعقل المنظم نحو الهدف المشترك. وليس صدفة أن النخبة المؤسسة لانبعاثتهم الأخيرة، تمت ظاهريا على يد خريجي الجامعات الغربية في بداية القرن الماضي ونهاية الذي سبقه، من أمثال مصطفى صادق الرافعي ومحمد عبده والأفغاني وغيرهم ممن نشأوا في أوكار الإستشراق ومهدوا للنهضة الفقهية الأكاديمية التي من المفروض أن تعيد تشخيص الخلافة، التي ستكون جنتهم الطبقية.
ولا لوم على أحد فيما يجري اليوم ! فكل ميسر لما خلق له. ظلت الساحة العربية قرونا خالية تماما من الفكر والوعي والتصدي القومي. ولم يكن ممكنا ألا يحدث ما يحدث الآن.
كل ما ارتكبه الإخوان مما يحتم اشتباه الوعي، لم يستطع أن يلفت نظر العقل الهجري المبتلى بخرابه البنيوي. هبوا هبوب العاصفة على خلفية نكبة هزيمة الناصرية، وعلى خلفية انتصار السادات الكاذب، وعلى خلفية توريث مبارك الحكم بحركة مسرحية ناعمة، دون أن يلتفت أحد إلى درامية السياق وتشابكه، ودور الإخوان الفاقع فيه. لم يسأل أحد عن سبب عداوتهم وحقدهم على عبد الناصر درة التاريخ العربي والمصري الحديث،وجعله أسوأ من حكم مصر. لماذا قبل العقل الهجري والمصري خاصة، هذا الزعم الفاجر بحق حاكم مثل عبد الناصر، لم يسرق ولم ينهب ولم يفجر كغيره، اجتهد، ولنقل أنه فشل شخصيا، لكنه لم يفشل وطنيا، على الأقل. بنى وعمر وصنع جهده، ورفع اسم مصر والعرب عاليا. ولم يفشل أخلاقيا فما سرق أو سمح لأحد أن يسرق بعلم منه، ولا اعتدى أو تسلط أو حاول أن يورث أحد أبنائه أو يقيم شركات استثمارية باسم زوجته. وكرهه الشعب المصري لهذا السبب واعتبره عبيطا. إذا كان لا يريد أن يملك أو يسرق أو ينهب فلماذا جاء إذن؟ وحانت الفرصة حينما انهزم الجيش المصري أمام الغرب والصهيونية العالمية واتحاد مشايخ العرب. قال المصريون لولا عبد الناصر ما انهزمنا، وكأنهم تصوروا أن ينتصر الجيش المصري على العالم، أو كأن عبد الناصر هو الذي هاجم أمريكا وإسرائيل، أو أنه كان عليه أن يعرف حدوده وينهزم استسلاما. حاول وفشل ! ولكنه لم يعلن حالة الطواريء ولم يكابر. اعترف بفشله وتحمل المسؤولية وانسحب بهدوء. يكفي أنه لم يخن شعبه المصري أو العربي. هم الذين خانوه وأسلموه لجيش المستشرقين الحنابلة ينكلون به وهم راضون فقهيا. لماذا لم يستغربوا الافتراءات الشخصية الحاقدة على سيرة الرجل وهم على يقين أنها افتراءات؟ هذا هو الهجري التالف بنيويا الذي حاول عبد النصر أن ىخلّصه فرفض، وخانه وأطاع فيه قياصرة الدجل والخيانة الذين عاشوا على مر العصور على خبز فقراء مصر، ويعيشون اليوم على ثروات نفط العرب عموما في خليج القردة، ألذين قبل الهجريون بهم في كل بلد عربي رمزا لمذلتهم واستباحة كرامتهم الإنسانية. لماذا لم يستطع الهجريون قبول حكم عبد الناصر، بالسهولة التي قبلوا بها تحكم حمد أبن خليفة أل ثاني بهم؟ هل هم شعب ” ياهو ” الذي كانت تحكمه الخيول في رواية “أوليفر سويفت “؟
ومضى السياق سببا؟ جاء السادات ليرث عبد الناصر. كيف؟ لم يكن أحد يتوقع أن يأتي هذا المريض النفسي لهذا الموقع حتى ولو عينه عبد الناصر في أيام ضعفه نائبا له، وبضغط مباشر من مبارك الذي كان يربى حينها داخل الجيش كالعجل الملكي في اسطبلات أمريكا والإخوان. لقد كان السادات أحد الضباط الأحرار كعبد الناصر، فلماذا هلل له الإخوان في السر والعلن؟ لماذا سمى نفسه الرئيس المؤمن فقالوا أمين؟ بل لماذا ” انتصر ” على أمريكا وإسرائيل في معركة بدر الرمضانية واعتبر الهجريون هذا الانتصار الخليع الذي يفوح برائحة أمريكا وفقه الإخوان المسلمين نصرا حقيقيا؟ ولماذا استنتجوا من ذلك أن الإسلام هو الحل؟ وكان هذا هو المطلوب. ونسي الهجريون أن يفهموا لماذا انقلب النصر إلى هزيمة خلال يومين، وأرغمت مصر على تسليم مصر كلها مقابل سيناء منتقصة السيادة الوطنية، وذهب الرئيس المؤمن إلى إسرائيل كالفرخة التي تقلد الديك ليضحكوا منه في الكنيست؟ ولماذا اغتال الإخوان المسلمون الرئيس المريض بكراهية عبد الناصر، لينط مبارك إلى العرش سريعا وكأنه نزل بمقطف من السماء؟ هل اضطربت علاقة مبارك بالإخوان إلا بعد قضية التوريث؟ ولماذا وافق مبارك على مضطرا على السماح لهم بدخول الإنتخابات التشريعية؟ هل كان ذلك إلا بسبب ما يحدث اليوم؟ لقد كان الإتفاق الثلاثي بين السيد الأمريكي والطرفين أن يخلف الإخوان مبارك بعد فترة محددة بانتخابات ” ديموقراطية “. ولكن مبارك لم يكن عبيطا مثل عبد الناصر، وأصر على ترشيح ولي عهده الأمير جمال. ووقفت إسرائيل وراءه تدعمه بكل نفوذها في أمريكا ليرفض تنفيذ الإتفاق، فأطاعها وحدث ما حدث. كان وصول الإخوان إلى الحكم سيعزل مصر نهائيا عن المحيط العربي. وهذا مطلب غربي وإسرائيلي استراتيجي عند هذا الحد. ولكن الوريث المقترح كان أشد خطرا على دورها الإقليمي واستراتيجيتها الشاملة. فطموح الإخوان لا يقف عند حد مصر وحدها، ولن يقف عند حد التبعية لأمريكا، ولن يقبل بهيمنة إقليمية لإسرائيل بدون شريك. ألإخوان أصحاب مشروع سياسي خلافي لا يرضى بأقل من إمبراطورية تابعة لأمريكا والغرب. وهو في الحقيقة مشروع الإستشراق الحديث للغرب والذي أقر نهائيا بين أمريكا والإخوان بنسخته التنفيذية في أيام كيسنجر. مشروع كهذا مع دخول تركيا على خط الخلافة لن يعطي لإسرائيل أكثر من موقع دولة مهمة متآكلة. وهذا ليس حدا مقبولا للطموحات الإسرائيلية. إنه ذات الحد الذي يقبل به الأخوان. لذلك فضلت دعم مبارك لقطع الطريق عليهم. ولكن مشروع العولمة الصهيوني الأمريكي يمكن أن يسمح للآخرين بتأييده، أما معارضته فغير مسموح بها حتى لإسرائيل.
لماذا لم يسأل عتاة المفكرين الإستراتيجيين في مصر والعالم العربي، الذين تتبادلهم مذيعات الجزيرة على الشاشة، أنفسهم عن سر العلاقة الغرامية بين إسرائيل ومبارك، وعلاقته المتردية مع أوباما. ألا يثير هذا السلوك الغريب التساؤل، من جانب رئيس ولي نعمته هي أمريكا وليس إسرائيل؟ ألم يثر دهشتهم الإنقلاب الإخواني البالغ النعومة في تركيا؟ وما هو سبب تكرار الإخوان لادعائهم المضحك أنهم لا يريدون السلطة في مصر ومعارضتهم الشديدة للتوريث بالمقابل؟ متى كانوا يعشقون الديموقراطية ويكرهون التوريث؟ متى كان الحكم التركي فى طوريه الملكي والخلافي غير وراثي؟ ومن أين جاء أردوغان سوى من صلب الحالمين باستعادة الخلافة “لولي عهد ” عبد الحميد الذي اشتهر بورعه الإستبدادي؟
هذه تجربة الإخوان في مصر، أما تجربتهم في العراق فقد كانت من الفرادة على مستوى غير مسبوق. كان الهاشمي هو أول من صرخ وأمريكا ! وكان بنطلونا للغزو وحوض استحمام للمارينز ونونية للمالكي وأسياده. وعلى رأس الإخوان الذين اعتنقوا تقية الشيعة يقع دم عشرات آلاف العراقيين من أتباعهم الشرفاء الذين سلموهم لحراب وسجون المارينز، ومئات الآف العراقيين الذين شاركوا في التلاعب بدمهم.
واليوم يحصدون ما زرعوا في حقول الفقه، ويستبيح قادتهم الذي ولدوا من رحم العلقمية المحنبل من أمثال البيانوني وعبد الجليل والغنوشي وعبد ال… المصري، دمانا بالمهووسين والمرتزقة والحشاشين والتتار. لهم كل المصداقية بموضوعية الخيانة والجريمة والكفر وعداوة الحرية والسعي الحرام. وللهجريين بموضوعية الذل وخسة الوعي وحب الجهل والتجاهل، أي نحن جميعا، الحق الكامل غير القابل للطعن، أن نمضي في سبيلنا إلى جهنم.
وبي شعور بالشفقة على أولئك البؤساء في المجلس الإسلامي الأعلى من الحنبليين. إن سوق العولمة تغص بالموبقات مما نعرف وما بعد لا نعرف، فكم من الفتاوى الفقهية عليهم أن يوجدوا ليشرعوا لتلك الموبقات التي أخفها المتاجرة بالبشر. ولدي أقتراح ! توبة المرتد مقبولة إذا استتابه فقيه طاهر الثياب. فلماذا لا يسمح للهجري أن يرتد في حياته ثلاث مرات مدة كل منها عام واحد، يقضيه في قطر. ثم يعود عن ردته ويستتيبه فقيه طاهر الثياب، ثم يرتد بعد ذلك ويعو… وهكذا ثلاث مرات. فإذا زاد متسللا قطعت عنقه؟