حنظلة
يتكون السجل العربي الحديث بمعظمه من وقائع مفردة غير مرتبطة جدليا. سياق خال من معادلات الجدل المقروءه في إي من مجالات الحياة الاجتماعية. لم يكن هناك مكان لسياقات جدلية، لأن الجدل هو قانون التطور. وفكر التطور هو حالة غريبة تماما عن الوعي والحركة في التجمعات العربية التي ظلت محزومة بخيوط الصدفة وإرادة الآخر والتلقي الذليل. ولا يمكن وصف ما كان يحدث من حركة في التجمعات العربية سوى أنه مراوحة في بعض التغيرات الشكلية الوافدة من المحيط. لذلك كان سياق السقوط العربي المطول نسبيا، سياقا من الوقائع المغثية التي فرضها الآخر بعفوية التعامل مع حالة مجانية من الاجتياح لوجودية شبحية مستسلمة، متجاوزة لكل فرضيات الصراع. كان المشهد المطول نسبيا مزريا ومستهجن ذوقيا في التجربة الإنسانية، يشبه حالة جرو صغير مربوط بخيط في رقبته إلى شجرة الحياة الضخمة يحيط به جمع من الأطفال القساة يتسلون بتعذيبه. وبعد أن بلغت بهم سوداوية القوة وهمجية الطفولة مقابل العجز التام ذروتها، رموه بالحجارة حتى مات.ولم ينجح نواصه المتألم أو حركاته العشوائية المفزوعة، في تحريك أية عاطفة إنسانية في صدورهم. وواصلوا ضربه بالحجارة حتى بعد أن سكنت حركاته. ولم يتركوه إلا بعد أن بدأ الذباب يغزو شدوخه العميقة.
لا يمكن أن يموت شعب بهذه الطريقة المزرية. ولم يحدث أن أُعدم شعب بمثل هذه القسوة الفريدة. هناك تفسير غربي مجتزأ لهذا، صحيح بالمعاينة الدامغة، ولكنه غير مبرر بالعفوية وحدها.
يقول مقدمو المشهد الغربيون أن سكان الشرق الأوسط من العرب أناس مختلفون بمقاييس المعاصرة، التي تشكل إجماعا ضمنيا لكل مجتمعات التطور والحداثة بمصداقيتها المتدرجة، التي تبدأ بمجتمعات الانفتاح الوعيوي علي المعاصرة، وتنتهي بمجتمعات الإنجاز والوعي الحداثي المتقدم. إن العرب بدعة وعيوية توازي اعتزال تجربة المعاصرة ومعاداتها وعرقلة مسيرتها. لا يستوعبون قوانين حركة التطور، أو يرفضون حتى محاولة استيعابها، بحجج لا تصلح للمناقشة. ليس هناك أمكانية موضوعيا للتهادن أو التهاون مع أوضاع العزلة المعادية لوعي الأكثرية العالمية، ولسيادة قوانين المعاصرة. لا يمكن التهادن مع سيطرة الوعي المعادي على أهم معبر مائي دولي مثل قناة السويس وتركه تحت رحمة العداء والتخلف الإداري والتكنولوجي. لا يمكن موضوعيا القبول بسيادة أكثر من ثلثمائة مليون من ذوي الوعي المعادي على منطقة شاسعة أكبر من مساحة أوروبا، تقع في مركز التوسط الجغرافي بين ثلاثة قارات من أكبر وأهم قارات العالم. كيف يمكن للعالم المتقدم أن يعطي لقوة بهذه الضخامة والاختلاف، إمكانية تهديد أغنى مصادر الطاقة في العالم؟ هل هناك بديل لتقويض اختلافهم وخطرهم الافتراضي المباشر على العالم بأكمله؟ كيف نسمح بخطر نشوء دولة استبداد كبرى في أهم منطقة في العالم بعد تجربة الإتحاد السوفييتيي؟ يجب تغيير وعي العرب ودمقرطتهم بالقوة من أجل سلام مواطني العالم وحمايتهم من الإرهاب القادم من هناك. هذا الخطاب يملك كل موضوعية الجريمة الإمبريالية. ولكنه يفسر العنف السياسي والعسكري الموجه للعرب، ولا يفسر العنف الثقافي، أو خطاب التنكيل المعنوي، أو عفوية الاستهتار الغربي بالدم العربي، بطرق مبتكرة مترافقا مع أدبيات سياسية تشجب هذا الدم ليس لتبرير سفكه، وإنما لتدنيئه، وتوضيح ضرورة سفكه كواجب على نخب التمدن لحماية شعوبها والشعوب الأخرى. كل هذا بلهجة مفعمة بالاحتقار المدروس، تخصصت فيها السيدة آكلة لحوم البشر كونداليسا رايس، ونافسها فيها شبيحة القتل المعنوي الآخرين من دبلوماسيي أمريكا في مؤتمراتهم الدولية، وأمام فتيات موحى دلفي الفضائي للعرب. نهج الابتذال المادي والمعنوي المفرط بدون سابقة تاريخية للوجودية العربية كمطلب مشروع وضروري، هو الذي يجب البحث عن أسبابه.
هناك حسب يقيني التام، وجدانية دائمة الحضور في الثقافة والعقل الغربي الإستشراقي القديم والحديث تتضمن الكراهية العفوية والتخوف من سكان شرق المتوسط على الشاطيء المقابل لآوروبا. كانت هذه الوجدانية جزءا من البنية النفسية والثقافية والعقلية للأوروبي الروماني الوثني، ثم ازدادت حدة وتجذرا فيما بعد لدي الأوروبي اليهوسيحي. لقد أصبحت هذه الوجدانية الاستشراقية مرجعية ثابتة لتصور الأخر العربي سواء في العقل الواعي للمصلحة، أو في سيكيولوجية التعالي والشجب والكراهية العفوية. لذلك لا يمكن التعامل مع آخر بمثل هذه الرداءة والخطورة على الذات بنهج غير نهج النفي المطلق. لقد تحول العربي في ذهنية الغربي آخر غير إنساني. وأكدت له مذهبيات الإستشراق في الفكر والثقافة والإبداع والدين والسياسة أنه على حق. بدليل اختلاف العربي في الشكل والسلوك والوعي. وتبعا لهذا الإختلاف النوعي عن الغربي المتمدن والمسيحي، فأنه تلقائيا همجي ووثني ودموي ومقزز ألى درجة أن استباحة وجوديته لا تثير أية إشكالات إنسية أو إنسانية. والتفصيل في هذا لا يفيد لأنه ليس وجهة نظر وإنما هو مسلمة العقل والروح الغربية. ولو استبدلنا مثل الجرو الآنف الذكر، بطفل عربي و سألنا متنورا أوروبيا من يثيرك أكثر، لربما أجابك بسماحة يظن أنها ستثلج صدرك: لقد تأثرت بنفس المقدار. ولكنك لو وجهت نفس السؤال لليبرالي عربي فستحصل ربما على نفس الإجابة ليثبت لك أنه هو أيضا يحمل روحا غربية سامية. بين هذين السؤالين والإجابتين الافتراضيتين بمصدريهما، يقع السر الذي جعل العرب نوعا مختلفا من البشر. الثقافة السيكيولوجية المريضة واشتباكها مع وعي المصلحة الغربية الاستعمارية من ناحية، واختلاف العرب السلبي بمقياس الكرامة الذاتية، والشحوب التاريخي والاجتماعي لوجوديتهم بمقاييس الفعل والرد والقدرة على الرفض واحترام الذات، وعدم صلاحية الصفر الوجودي ولو شكليا لأي احترام، من ناحية أخرى، قللت وبحق، حظهم من النجاة.
جرائم الآخر الدموية في الصراعات البينية مشهد مكرر تاريخيا. فموازنة الصراع في جانب واحد على الأقل، قد تكون في اجتثاث الخطر الممتد ” بالحل النهائي “. والحل النهائي يعني فكفكة خطر الآخر، بالإبادة السياسية والاجتماعية عامة. أي بنفي الإمكان والرغبة المعنوية في التواجد البنيوي المستقل للآخر حاليا وفي المستقبل المنظور. وهناك ثلاثة أمثلة يمكن اعتمادها لتوضيح الفرق بين مزاج وعي الضرورة السياسية للاجتثاث، وبين وعي الإجتثاث كهدف مشترك بين وعي المصلحة السياسي، وبين ثقافة الجريمة الوجدانية، كما هي الحال في مذبحة الجنس العربي اليوم.
لم تسقط طروادة من أجل امرأة إغريقية موحومة ورجل طروادي شبق، وإنما لتحرير التجارة الأوروبية مع الشرق من سيطرة الكنعانيين والفينيقيين التامة، وفتح ولو منفذ واحد على ساحل قونية الفينيقي لتجارة المدن الإغريقية الصاعدة. من أجل هذا كان على الإغريق أن يبيدوا أقرب المراكز التجارية العظمى إلى سواحلهم. وليس مهما أن يكون هوميروس راوية أو رواية إغريقية. فهو يمثل وجهة النظر التبريرية للإغريقيين بدون أي شك، بوصفه مبدعا إغريقيا، أو أسطورة شعبية إغريقية، أو حتى داعية سياسي. ومحاولة التبرير الرومانسية من الواضح أنها مدخل جمالي أخلاقي، ينفي تهمة تعمد المذبحة عن نفسه. وهذه مفارقة إعلامية شائعة في التاريخ سببها شعور الطرف المنفذ أنه في موقف غير مريح أخلاقيا أمام نفسه أو أمام المنطق الإنساني من قضية قتل الآخر أو إبادته. وتشكل هذه المحاولة إدانة غير مباشرة لدموية الصراعات الحتمية النابعة من المصالح المادية. وهذا بحد ذاته يظهر أن كراهية المصلحة الموجهة نحو الآخر، هي شر لا بد منه في أخلاقية الإغريقيين، وأن هذه الكراهية لا تلغي احترامهم لإنسانية الخصم. لقد وقف أخيل يرثي هكطور البطل الطروادي في الملحمة بعد قتله له، وحينما جاء فريام ملك طروادة ووالد هكطور يطلب من أخيل أن يسمح له بأخذ ولده ليدفنها كما يليق ببطل مثله، أجابه أخيل بكلمات لم تخل من القسوة، ولكنها لم تخل أيضا من الكلمات المؤثرة التي تمجد هكطور وتعترف ببطولته. ثم سمح له بأخذ جثة ولده في مشهد من مشاهد التكريم. هذا عادة هو المزاج العادي الشائع في صراعات المصالح عبر العصور، بحيث تشعر أنك أمام مشهد يحرص فيه كل طرف على احترام إنسانيته وإنسانية الآخر.
وحينما أعدم من أعدم من اليهود لم يكن هناك إجماع دولي وشعبي على الجريمة. بل لقد عم العطف الدولي والشعبي كل أنحاء العالم. واستمر هذا العطف بالتعبير عن نفسه في البكائيات الأدبية والفنية والسياسية حتى تحولت الجريمة إلى ملحمة العصر الحديث الوجدانية. سجلت كل المآسي والبطولات الفردية والجماعية التي دارت فى فضاء الحادثة الإجرامية، ومارس الأوروبيون جلد الذات والندم الوجودي حتى اليوم، وسيفعلون ذلك إلى أمد مفتوح. ومع أن أشكال التعويض التي قدمها العالم لليهود ماديا وسياسيا لم تعد طفلا واحدا إلى الحياة، بل تسببت في قتل أطفال آخرين من الفلسطينيين والعرب، إلا أن الحاصل المعنوي رد لليهود جزءا من كرامتهم الإنسانية، واعتبارهم ” القومي ” المفقود. لم يكره الأوروبيون اليهود بقدر ما حسدوهم، في عصرهم الأوروبي الذهبي حينما أصبحوا نخبة المال والعلم والفن في أوروبا والعالم. لذلك احترموهم في دخيلتهم. وكانت الجريمة التي ارتكبت بحقهم جريمة نظام أو أنظمة لم تبادر إليها الشعوب. وقد أعلن اليهود أكثر من مرة أنهم لا يستطيعون أن يغفروا للعالم الجريمة التي ارتكبت بحقهم، ولن يفعلوا ذلك لأن العالم ” الحر” لم يبذل جهدا كافيا لمنعها أو إيقافها. وإذا كان مثال طروادة يصلح مثلا على محافظة الخصوم المتصارعين على حد من الاحترام لإنسانيتهم، فإن مثال المذبحة النازية، يصلح مثلا على ردة فعل الضحية التي على ضعفها وقفت تبصق في وجه إنسانية الإنسان الأوروبي عموما. ولو سمحت الظروف العددية لهم مثل العرب، لكانوا ما يزالون يعادون أوروبا ويحاربونها حتى اليوم. وحينما أراد اليهود إقامة وطن قومي لهم، أعطتهم أوروبا شعبا ووطنا على حساب شعب عربي. ولم يكن لديهم أية مشكلة في ذلك إنسانية، فلن يطالبهم أحد بالتبرير وخاصة شعوبهم، فالعرب ليس لهم حق الاعتراض، ولن يفكروا به، وهذا هو حقهم الوحيد.
من هنا نعرف أن وهم الإنسانية الجميل والضروري، لم يعد يمكن الدفاع عنه إلا بالقوة الذاتية، ولا أحد أصلا في العالم، النخبة تحديدا، يحترم الدفاع عنه. إنه يضع حدودا وهمية لا تعد على حركة البشر في التقدم والتطور المعرفي وتشكيل النظام الكوني كما يقولون. فلماذا يريد العرب موضوعيا أي حق من الحقوق؟ إنهم غير قادرين على دفع أي ثمن لأي حق إنساني بسعر السوق الدولية.
في أواسط القرن الماضي، فقد الفلسطينيون الجزء ألأكبر من وطنهم بدون حرب، بعد أن كانوا يهددون بطرد اليهود بالحجارة. ولو شاءت الفصائل العسكرية الصهيونية لاحتلت كامل فلسطين، ولكن المستوطنين لم يكونوا مهيئين عدديا وداريا لاستيعابها. فتركوها أمانة بيد الفلسطينيين، يحتلون منها ما يحتاجونه أولا بأول، في برنامج زمني يناسب قدرتهم على استيعاب أعداد جديدة من المهاجرين. وفي خلال ثلاثة وستين عاما استعادوا الأمانة كلها من العرب والفلسطينيين ودفعوهم شرقا. لم تكن كل هذه الأعوام تكفي للفلسطينيين حتى ليتعجبوا مما حصل. ظل الفقراء والبسطاء في غيبوبتهم عن الوعي، واستمر أبناء العائلات الإقطاعية في ممارسة مهنة الآباء الجليلة المتوارثة في العمالة والخيانة دون أن يعترض أحد أو يندهش. واصل الحسينيون والنشاشيبيون وآل كذا وآل مذا بقيادتهم طوعا إلى النهاية المحققة. وبعد هذه الأعوام كلها لا يخجل الفلسطينيون من أن لهم رئيسا مثل أبي مازن ووزراء مثل عبد ربه وعريقات وشعث والأحمد. فماذا يريد الفلسطينيون ونصفهم عملاء ومطبعون ونصفهم أموات. كيف يتصور الفلسطينيون أن أشرف الناس على وجه الأرض يستطيع أن يقف إلى جانبهم ضد الصهيونية وإسرائيل وهم مع الصهيونية وإسرائيل ضد أنفسهم؟ ومن هي الدولة أو الشعب الذي يقف مع الأموات ضد الأحياء. لا تقولوا لي صمود، فالصمود حركة إيجابية وليس نوما في الذل وانعدام الخيارات. ولا تفخروا بالشهداء فالعدو قتلهم مرة وأنتم قتلتموهم مرتين. فاخرسوا من فضلكم!
كيف يمكن لأحد أن يقنع نفسه بعدم احتقار العرب، بعد أن مرت مذبحة المذابح في العراق وكأنها حادثة سير عادية؟ وكيف يحس أحد بالرثاء للشعب العراقي نفسه، وهو الذي قدم عنقه لأمريكا بأكثريته عمالة أو طائفية أو انتهازية؟ بل كيف لا يشمئز أي إنسان وهو يرى المثقفين العرب وهم يحللون؟ يحللون ماذا أبناء الفاضلات؟ يحللون المذبحة التي يشهد كل حرف فيها أنها مذبحة مجانية؟ يحللون الاحتلال من أجل القتل الخالص وتدمير البنية الاجتماعية والتاريخية والحضارية؟ يحللون اغتيال العلماء؟ يحللون وكأن هناك غموض في الحادثة يحتاج إلى عقولهم المستعارة ليس لأن أحدا يجهل الحقيقة، ولكن لأنهم يجب أن ينتهزوا الفرصة لاستعراض تخصصاتهم، ويفعلوا شيئا للشعب العراقي.
ومذبحة الربيع العربي هي العجب العجاب، التي لم يخط مثلها في كتاب.
ثوروا فثاروا!
وليس في تاريخنا سوى ثورتين. ألثورة العربية الكبرى التي ما تزال تعيش بيننا إلى اليوم لاستكمال رسالتها القومية المباركة التي هيأت ظهور العرب للامتطاء الدولي، وثورة الشاعر القومي الطوباوي جمال عبد الناصر رحمه الله، والتي قتلناها وقتلناه بأيدينا وألسنتنا دون أن يعرف أو نعرف نحن لماذا؟
قالت أمريكا والصهيونية ثوروا فثاروا! من؟ لا أحد يعرف! لماذا؟ لأنهم يريدون ألا يعرفوا. فتجربة العقل الباطن تقول لهم أن التجاهل والنفاق أسلم عاقبة. لقد عاشوا عصورا في مساحة التحايل الفاصلة بين النفاق الدينوي والعقل حتى أصبح هذا النمط السلوكي جوهر بنيتهم الاجتماعية، يعيشونه في أحلامهم.
ألمشهد الهزلي الدائر، هو غاية في الدموية،ولكنه مجبول بمنطق الضحك. هكذا أرادته أمريكا. أن يكون مزريا إلى أبعد حد، حتى تحتل فيه المذبحة طابع الكوميديا بدل المأساة، ويؤدي المشهد غايته المقصودة. حشد من الرعاع الدينويين المغفلين والليبراليين المأبونين عقليا وثقافيا، ومدمني المخدرات والقوادين والمتبطلين والشحاذين والمتخلفين عقليا المدفوعي الأجر بالدولار، والمظلومين اجتماعيا بالفعل، يصنعون المشهد الهزلي، بتقديم الرقصات الشعبية الثورية:
“أرحل , إرحل يا بشار ”
” سلمية، سلمية “.
ثم يأتي أصحاب الأجور المرتفعة من المرتزقة والعملاء والمجرمين بالمهنة، والجنح العسكري للإخوان، يطلقون الرصاص على ” المتظاهرين ” ويقتلون بعضهم بدون أجر، وتأتي الدبابات الحديثة لتطارد جمعا من العجول الهاربة، فتصطادها النيران الخفية وراء المشهد، وينعقد مجلس الأمن إعلانا ببداية المشهد الثاني.
وهزلية المشهد الثاني لا تبدو للعين بمدي ما تطالب بالتدخل الثقافي للمفكرين العرب أو التدخل الفكري للمثقفين العرب، لأنها موجهة نحو صياغة مشهد إعلامي تبريري يحث أمريكا والغرب على التدخل سياسيا وعسكريا والقيام بواجبهم الإنساني. والمضحك هنا أن أمريكا لا تحاول أن تخفي على أحد وقوفها وراء المشهد، ومجرياته المميتة من الضحك.
لقد جمعت أمريكا من العالم العربي، كل الفتيات الليبراليات الفائقات الجمال الموحومات وراثيا، وكل الليبراليين القوادين أيضا بالوراثة في عدة مشاهد متفرقة على مسارح متفرقة يؤدون عددا من مشاهد السياسة الجنسية، أو الجنس السياسي. تصور هزلية الموقف حينما يضطر مفكر كبير تجاوز الثمانينات، ولكنه صاحب همة شبابية، وهو يضطر لمفاكرة أمرأة ناضجة في ذروة تفتحها وانفتاحها الأنتوي وتجليها الجنسي، في شئون الإستراتيجية السياسية والعسكرية، تحت قصف صاروخي موجه من الشهيق والغنج وطرح التهيؤات، لجره إلى موقف سياسي أو فكري مميز يؤكد على نجاعتها الإسقاطية وسحرها الأنثوي. عملية الإسقاط السياسي لشخص في مثل هيبة المفكر التمانيني أمكن مشاهدتها بالعين المجردة، وهو يقول أن تجاوز التبعية لأمريكا هو محاولة غير واقعيه في عالمنا. وتخيل مشهدا آخر أقل درامية من الناحية السياسية بحكم أن عملية الإسقاط تكون حدتت مسبقا بالدولار الأمريكي، حينما يجلس مكان المفكر الثمانيني الملياردير، عقيد شحاذ برتبة حمار، أوحمار برتبة عقيد شحاذ. الأمر عندها يصبح سورياليا، حيث تستجوبه الحورية وكأنها برتبة جنرال وهو مجرد مراسل عسكري في ليبيا برتبة جاموسة، عليه أن يكون مهيئا للإدلاء بما تشاء من وقائع ميدانية نافعة.
من أين جاءت أمريكا بهذه الحشود الثقافية والإختصاصات المميزة لمسرحيتها المركبة التي تتحول فيها المأساة إلى مشهد هزلي، والمشهد الهزلى إلى مأساة؟ الأمر هو في كون الموتى في المشهد المسرحي الإعلامي، يستمنون في أكفانهم وهم جالسون على الكراسي. والسبب هو أن العرب في القناعة الأمريكية، لا يجوز أن يموتوا موتا لائقا. أرأيت عندما تقتل فأرا أمام دكانك كيف تنظر وينظر المارة إلى جثته باشمئزاز. هكذا يجب أن يموت العرب أيضا في شوارع المذبحة الدائرة، حتى تكتمل غاية المخرج.
ألممتلون القوادون بالوراثة عرب!
والجميلات الموحومات وراثيا عربيات!
والمفكرون والمثقفون الموتى عرب!
والفقهاء عرب!
ولغة المسرحية عربية!
والنظارة عرب!
واستمر عرض المسرحية سنوات عديدة، منذ التمهيد لمذبحة العراق وحتى اليوم. ووالله ما سال دم عربي خلال هذه السنوات في فلسطين أو العراق أو لبنان أو ليبيا أو اليمن أو سوريا، ولا افتضحت امرأة عربية، ولا دمر منزل عربي، ولا حدث شر طائفي في بلد عربي، ولا دُيِّث مُدَيَّث، إلا وكان لهذه المسرحية وأشخاصها نصفه أو أكثر.
والنظارة عرب يستمنون مجانا، وتسيل دماؤهم، وتداس كرامتهم، وتنتهك أعراضهم، وتستباح أوطانهم، ولا يعرفون! بل يعرفون ولكنهم يقولون: ماذا يفيدنا أن نعرف؟
لو وجد عشرة مثقفين قوميين فجرة، يردون على المسرحية بما تستحق فقط، وعلى قواديها السلاليين وموحوماتها الوارثات، ومفكريها ومثقفيها الدياييث بما يستحقون فقط، لربما توقفت المسرحية أو ضعفت روائحها الكريهة. صحيح أن من ذكرت لديهم مناعة تامة من فيروسات الكرامة، ولكن كشفهم ينقص جدواهم، والتنكيل بأخلاقياتهم المنوية ومنوياتهم الأخلاقية، يحد من ظهورهم في الأماكن العامة تجنبا للسخرية، ويصرف النظارة عنهم للإستمناء في مكان آخر. عبثوا بدمنا وشرفنا ومستقبلنا وإنسانيتنا، وقالوا للعالم: العرب أمة تالفة من العملاء والموتى، ونحن والمفكرون والمثقفون والنظارة والثوار دليل على ذلك، أفلا يحق للغضب الثوري والقومي والإنساني أن ينكل براحتهم الشخصية؟ هذا لو وجد شيء كهذا!
أعتذر…أعتذر… أعتذر! جرفني الغضب والسهو، فتحدثت عن قوميين أو ما يشبه ذلك، وعن عرب أو ما يشبه ذلك. نسيت أن هذا من ترسبات الوجدان القديم. وأن الربيع العربي قد جرف كل الأطراف السياسية في حضنه الدافيء المعطر برائحة الشيكات القطرية والأماراتية والسعودية فانضم الناصريون للإسلامويين والليبراليين بنصيحة من هيكل (؟ ) ليمنحوهم تمثيلا فخريا، أو لأن الناصريين يعتقدون كما يبدو، أن ما لم يستطيعوا الحصول عليه بسمو التجربة الناصرية، والصالونية الفكرية، يمكن أن يحصلوا عليه بالديموقراطية. ولعلهم يراهنون على تركيبة الوعي المصري العام، أن تمنحهم في الانتخابات، جرعة تمثيلية تليق بتلك التجربة الجليلة، إذا منحت لهم الفرصة الديموقراطية. ويدل هذا على عزلتهم عن واقع السلوك الانتخابي لشعب عايش الاستبداد والتزوير ” الديموتوقراطي ” واعتاد عليه تكيفا ومناعة وتعاملا بالمثل. فالعربي يعرف أن عائده المادي من الانتخابات هو المبرر الوحيد لاهتمامه بالموضوع. فهو يعرف نتائجها العامة سلفا. من سيحكم، ومن سيحصل على عائد تمثيلي يسمح له بالمشاركة في اقتسام الكعكة؟ وأن حصته هي العائد المادي لصوته أو أصواته في السوق. فلو كان للناصريين اتباع معلوفون سلفا، مثل حزب الوفد مثلا، أو كان لهم ميزانية مادية للعلف، لصحت حساباتهم. ولكن حينما لا يكون لهم ذلك العائد الانتخابي المضمون، فلن تفتح أمامهم أبواب العائد التمثيلي، وبالتالي السياسي، ولا يكون الناخب بحاجة إليهم. وفي هذه الحالة لا يستطيعون أيضا الحصول على قرض من بنك الوعي أو بنك مصر، لانعدام الضمان. لذلك يمكن التنبؤ بأن الناصريين في سوريا ومصر، يعادون النظام البعثي في سوريا بسبب انضمامهم للعبة الديموقراطية، والربيع العربي الممرع شيكات ووعودا.
أما البعثيون فإنهم يضيعون أسهمهم أولا بأول، لأنهم لا يريدون حربا شعبية، ويصدقون المسكوب الذين يفاوضون عليهم في سوق الجملة الدولي حيث يدفعون لأمريكا وأوروبا بالتقسيط ويقبضون منهما كاش فند أو كاش موني. والبعثيون يعلمون ذلك، ويعلمون أن الخلاص لا يكون إلا عربيا مئة في المئة، ويحاولون الخلاص بالتنازلات للإخوان والليبراليين، أي لأمريكا. يعلمون أن هذا مستحيل موضوعي، وأن نهج المقاومة اللبنانية المبادر والمتحدي هو النهج الوحيد الذي يستطيع أن يعلم أمريكا والصهيونية التراجع، ومع ذلك ينتظرون فرجا سياسيا لن يـأتي. فأين هم القوميون إذن؟ ذلك تاريخ متروك وراء عباءة الربيع العربي.
أما العرب فهو فرضية ثبت بطلانها.
هل هناك أمة يمكن أن تعيش بدون استراتيجية بقاء؟ وهل تولد استراتيجيات البقاء بدون استراتيجيات التخطيط؟ وهل تولد استراتيجيات التخطيط بدون استراتيجيات الوعي. فهل هناك مجرد تصور واضح لهذه الأمور، لدى العربي المتوسط أو النخبوي؟ صدقوني لا أثر لذلك على الإطلاق؟ ولن ندخل في التفاصيل المطولة، سندخل في البراهين مباشرة.
هل هناك شعب يظن أن التحرر ممكن مع بقاء التبعية سوي العرب؟ هل هناك شعب في العالم في الدول الحليفة سياسيا لأمريكا، يثق بها سياسيا أو أخلاقيا عدا عدوها الشعب العربي.
هل تستطيع أمريكا أن تفعل بأي شعب كبير في العالم، ما تفعله الآن بالشعب العربي؟
هل هناك شعب لا يغضب سوى العرب، عندما يقول له أوباما أو ساركوزي ماذا عليه أن يفعل بنظامه؟
قالت فردة النعل السوداء رايس في إسرائيل أن حرق أطفال الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين وأطفال بحر البقر المنسيين، لا يعادل فزع طفل إسرائيلي واحد من أصوات القصف. ثم اتجهت رأسا لزيارة السلطة الفلسطينية. ماذا فعل الشعب الفلسطيني أو اللبناني أو العربي؟
بعد انتصار بوش في العراق مباشرة، أراد بوش أن يتبول على العرب، فجاء خصيصا ليحتفل مع الشيء السعودي الملكي، ورقص معه بالسيف على الشرف العربي , فهل سمع أحد صوتا عربيا واحد يقول محتجا: ما هذا؟
ما هذا الشعب الذي يتحدث عنه أردوغان وحماره وكأنه يتحدث عن جواري عبد الحميد، وهو صامت؟
علق أحد الغضبانين العرب فقال أن أمريكا حسبت العرب أغبياء، واكتشفت أنهم حمير. لا يا سيدي! أمريكا لا يمكن أن تنسب إلينا فضائل الحمار الحي. إنها تصر على أننا كلب ميت!