الديمقراطية الاميركية: أسطورة الزمن المعاصر

(قراءة الكذبة من خلال الوثائق الاساسية)

(الجزء الثاني)

(3)

الفهم النقدي للدستور

الجوانب الايجابية والتقدمية للدستور

ليست الغاية من هذا البحث التنكر للجوانب الايجابية والتقدمية التي تضمنها الدستور الاميركي ولا التعامي عن السياق الاجتماعي والتاريخي الذي جاء فيه. فقد كُتب الدستور عام 1787 اي بعد اربعة سنوات من نهاية “الحرب الثورية”[1]، وفي هذا السياق شكل ضرورة تاريخية وسياسية لتأكيد الاستقلال السياسي عن بريطانيا والسيادة الوطنية للدولة الجديدة ـ الولايات المتحدة وتنظيم احوال المجتمع وترسيخ السلطة الجديدة.

شكّل الدستور خطوة تقدمية وايجابية من حيث انه قدم وثيقة حكومية مكتوبة وهو ما يعتبر بحد ذاته خطوة متقدمة عن الحكومة الكولونيالية الملكية الاوتوقراطية التي كانت قائمة آنذاك.

أقام الدستور حكماً جمهورياً أطاح بالكولونيالية الملكية البريطانية وكرس مبدأ انتخاب الرئيس واعضاء الكونغرس. اضافة الى ان الدستور لم يشترط، من الناحية النظرية على الاقل وعلى خلاف انظمة الحكم في انكلترا وغيرها، في تولي المناصب الحكومية والسياسية ان يكون الموظف من اصحاب الاموال او ذو كنية او سلالة معينة، كما انه (الدستور) ألغى نظام النبلاء والقابهم من مؤسسات الدولة والمجتمع.[2]

فصل الدين عن الدولة ومنع الكونغرس من منح اي سلطة او مؤسسة حكومية صلاحية تقديم الدعم للدين، اي دين كان.

رسخ الدستور مفهوم “حكم القانون” ومحاكمة المتهم قبل اصدار الحكم عليه.

طالب الدستور باقرار “قانون الحقوق”[3]Bill of Rights الذي يحمى الحريات الفردية والانسانية قبل التصديق عليه الدستور وكشرط لذلك.

يركز الخطاب الاميركي السائد على ان قيمة الدستور ـ كوثيقة يحتكم اليها الشعب والدولة ومؤسساتها ـ تكمن في ضبط وتنظيم العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات المختلفة، وتنظيم العلاقة بين فروع الحكومة المركزية الثلاثة (السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية). ولهذا طغت الجوانب العملية على فهم الدستور بما فيها آليات العمل التي تضمنها كوثيقة لحفظ “التوزان” في البلاد. وقد ادى هذا المنحى في فهم الدستور الى إهمال المفاهيم والفرضيات الاساسية التي قام عليها وخاصة تلك المتعلقة بالاهداف الاقتصادية والاجتماعية التي لم تلق العناية الكافية من حيث التحليل والدراسة والنقد. بعبارة اخرى، يمكننا القول ان التعامل مع الدستور الاميركي يتم، في واقع الامر، على اساس فهم آليات تنفيذ مواده دون فهم معانيه ودلالاته. إلا ان فهم الدستور، من منظور مصالح الشعب وإحتياجاته والبنى اللازمة لتلبيتها، يظل مستعصياً من دون الفهم الشامل للآليات والمعاني معاً. فالمقاربة الاكثر اهمية في نهاية المطاف بالنسبة لحسم القضايا الاجتماعية والسياسية هي تحديداً الموقف من القضايا المعيشية للناس وتلبية حاجاتهم الاساسية الامر الذي يشكل العامل الحاسم في تحديد موقف الشعب. وهنا يستحيل فهم المواقف والخلافات حولها بمجرد التركيز على آليات التنفيذ وابعادها القانونية والشكلية. وعليه، فان السؤال المركزي في دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية هو: مَنْ هو المنتفع من هذه المواقف والاجراءات والسياسات؟[4]

الديمقراطية بين الشرعي والمشرّع

من اهم ابعاد ومؤثرات الإرث الذي خلفه الدستور انه نجح في ترتيب الاصطفاف الاجتماعي والطبقي في المجتمع الاميركي من حيث انه حدد كيفية فهم الناس له وقبولهم به كطريقة للتفكير. بعبارة اخرى، ان الجزء الايديولوجي من الدستور هو الجزء الهام وهو الذي خلّف إرثاً ما زلنا نشهد آثاره بعيدة المدى. ومن هذا المنظور، يقدم لنا الدستور وإرثه سرداً برجوازياً وليبرالياً لحكايات جميلة ووهمية حول الحقوق والمسؤوليات والحريات، في حين تقابلها في الواقع المعاش هيمنة طبقية وحشية.

وللتدليل على ما نقصده، نلحظ انه في مواد عديدة من الدستور وما آلت اليه في تطبيقاتها العملية، تم نقل تناقضات العلاقات الاجتماعية وأشكال النضال والفعل الاجتماعي وشرعيتها، من المجال الاخلاقي الى المجال القانوني/الحقوقي ـ بمعنى ان العدالة الاجتماعية (والاقتصادية والعدالة بشكل عام)، يتم تعريفها وتحديد مبادئها وقواعدها لا على اساس ما هو اخلاقي او عادل او انساني او حتى على اساس ما ادركه الانسان عبر تجاربه وتاريخه، بل على اساس ما هو “شرعي” او “قانوني” أي ما “ينص عليه القانون”. و”القانون” هنا ما تنطق به الطبقة المهيمنة ومؤسساتها التشريعية والحقوقية وهو ما يعبر عن مصالحها وديمومتها. هكذا اذن يتم نسف الاساس الاخلاقي (الفلسفي) والانساني للصراعات والتناقضات الاجتماعية من اجل إجهاض نضال الطبقات الشعبية المستغَلة وإخماد جذوة الصراع الطبقي المحتدم دوماً في ظل نظام يقوم اساساً على الاستغلال الطبقي (الاقتصادي ـ الاجتماعي) بكل ما يتوفر لديه من آليات البطش والقهر. وبالمدلول السياسي البراغماتي، فان هذا يعني ان النزاعات والتناقضات الطبقية والاجتماعية والسياسية تتحول الى وجهات نظر يبت في شأنها القضاء والمحامون والخبراء القانونيون.

التأسيس لفهم نقدي

بعيداً عن النهج الالي الذي يعتني بالتفاصيل الشكلية على حساب الدلالات الجوهرية، يكون من الاجدى تقديم فهم نقدي للدستور الاميركي من خلال رؤية ترتكز على المحاور الرئيسية التالية:

1) فهم مؤلفي الدستور، كصانعي للوثيقة وتحليل مصالحهم وافكارهم ومواقفهم ورغباتهم، وهذا يشترط تحديد انتمائهم الطبقي والاجتماعي الذي يعبر عن مصالحهم المادية والموضوعية. فالمفاهيم والافكار تنسجم مع الانتماء الطبقي وتنبع منه إذ انه يحدد مصلحة الفرد. وكذلك هو الامر في فهم الدستور الاميركي، فافعال ومواقف واقوال مؤلفيه تظل رطانة سياسة دون قيمة اذا ما نظرنا اليها بعيداً عن مصالحهم الطبقية.

2) تجليس فهم الدستور وتفسيره في اطار نمط الانتاج الراسمالي السائد آنذاك مما يعيننا على فهم الوظيفة السياسية للدستور في إطار تطور المجتمع الراسمالي وهو السياق الذي أنتج الدستور كاحدى الوثائق الاساسية لبناء الدولة الراسمالية الجديدة. فالراسمالية تقوم على التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية ومن هنا فهي لا تحيا منفصلة عن الطبقات والفئات الاجتماعية وتناقضاتها ولا بمعزل عن الصراع بينها والذي يشكل المحور المركزي للنظام الراسمالي. كما ان فهم هذه الطبقات لا يتسنى بمعزل عن حياة الناس واحتياجاتهم ومعاناتهم لانهم هم الذين يشكلون المادة البشرية لهذه الطبقات.

نخلص من هذا الى ان الطبيعة الطبقية لصانعي هذه الوثيقة ومصالحهم، بما هي علاقتهم بوسائل الانتاح، تحتم تجليس مسألة الدستور الاميركي، كوثيقة اساسية للديمقراطية الاميركية، في سياق تطور النظام الراسمالي وشموليته.

3) التأكيد على دور العمل والطبقات العاملة وإعادة الاعتبار لهم لانه لم يكن للراسمالية الاميركية ان تولد ولا ان تبقى على قيد الحياة لولا اغتصاب الارض من اصحابها (الهنود الاصلانيين) وابادتهم ومن دون استغلال الايدي العاملة واستحضارها من افريقيا. وبالمعنى ذاته، فانه لم يكن للراسمالية التجارية المبكرة في اميركا ان تنشأ وتترعرع دون عمل الطبقة العاملة، العمال البيض (الاحرار) والسود (العبيد)، وما كان للطبقات الثرية ان تراكم ثرواتها، وهي الطبقات ذاتها التي تم تمثيلها في المؤتمر الدستوري عام 1787 والتي صاغت الوثيقة التأسيسية (الدستور) للدولة الناشئة ونظام حكمها الجديد وفق مصالحها. ومن هنا ندرك ايضاً ان الدستور ومضمونه الطبقي هو الذي هيأ التربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتطور هذه الطبقات وهيمنتها ونسج التحالفات فيما بينها على اساس المصالح الطبقية الراسمالية المشتركة وهي التحالفات ذاتها التي اوصلتها الى مواقع السلطة والهيمنة الطبقية والسياسية.

4) دور العبودية وتجارة الرق لا من حيث نسبة السكانية للعبيد الافارقة في المجتمع الاميركي آنذاك فحسب (كانوا يشكلون خُمس المجتمع الاميركي و40% من سكان الولايات الجنوبية)، بل من حيث دورهم المركزي كقوة عاملة في بناء الاقتصاد الاميركي (التراكم الراسمالي والراسمالية الاميركية المبكرة).

(4)

الخلفية التاريخية والاجتماعية

الاوضاع في اميركا قبل الاستقلال

قامت بريطانيا بين عامي 1607 و 1733 باستعمار ثلاثة عشر مستعمرة على الساحل الاطلسي لاميركا الشمالية بالاضافة الى مستعمرات اخرى في كندا وغيرها. وقد شكلت هذه المستعمرات الثلاث عشر نواة ما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الاميركية والتي تأسست عام 1776 بعد ان اعلنت استقلالها عن بريطانيا العظمى. وقبل المصادقة على الدستور في المؤتمر الدستوري (1787) احتكمت البلاد في ضبط شؤونها وتنظيم احوالها الى وثيقة تدعى Article of Federation. وبالرغم من الادعاء بان الغاية من انعقاد المؤتمر الدستوري كانت “مراجعة” هذه الوثيقة، الا انه كان جلياً منذ البداية ان النية كانت خلق حكومة جديدة بدلا من تعديل او اصلاح الحكومة القائمة.

تميزت الاوضاع التي سادت المجتمع الاميركي الكولونيالي قبل الاستقلال (1776) بفوارق طبقية عميقة بين طبقات وفئات المجتمع، حيث قام اقتصاد المستعمرات البريطانية في اميركا من اجل خدمة مصالح التجار الراسماليين الانكليز وجاءت القواعد والضوابط الاقتصادية والتجارية كي تضمن الارباح الناجمة عن التجارة مع هذه المستعمرات:

ففي المستعمرات الجنوبية، ما سمي لاحقاً بالولايات الجنوبية (خصوصا ولايات فيرجينيا وجورجيا وكارولاينا الشمالية والجنوبية)، سادت طبقة ملاكي العبيد وأصحاب المزارع الكبرى التي انتجت القطن وزودت به صناع النسيج في بريطانيا.

اما في المستعمرات الشمالية، فقد كانت الاوضاع الاقتصادية مختلفة حيث ساد اقتصاد التجارة في الموانىء وصناعات المانفكتورة الصغيرة التي قامت في الجوهر على اساس طبقي قوامه راس المال المالك لوسائل الانتاج وشغل فقراء العمال.

خلاصة القول ان اغلب المجمتع الاميركي (السود العبيد والهنود الاصلانيون والخدم وفقراء المزارعين) عاش، على عتبة القرن الثامن عشر، في حالة من الفقر المدقع وعانى من كافة الوان القمع والاضطهاد. أما المرأة، فعلى خلاف الحال في اوروبا، فلم تكن تتمتع باية حقوق سياسية او اجتماعية.[5] لم تمر هذه الاوضاع دون قيام الانتفاضات الشعبية والتظاهرات والمسيرات، فلقد إجتاحت انتفاضات الفقراء على مدى القرن الثامن عشر كافة المستعمرات وثارت الطبقات الشعبية ضد الجوع والفقر والمرض وكافة اشكال الاستغلال وشهدت اميركا بين عام 1676 و 1760 ثمانية عشر انتفاضة من اجل الاطاحة بالحكومة الكولونيالية البريطانية.[6]

وعليه، فالعوامل الرئيسية التي دفعت “بالاغنياء الاميركيين الجدد” للمطالبة بالاستقلال عن العرش البريطاني، تمثلت فيما يلي[7]:

1) رغبة البرجوازية الاميركية الناشئة والنخبة الغنية المحلية في تحويل غضب الفقراء والمضطهدين ضد العرش البريطاني، مما إستدعى خلق وتطوير “وعي وطني” جديد وحس بالوطنية الاميركية.

2) الاحتفاظ بموارد وثروات المستعمرات في السوق الاميركية والابقاء عليها في جيوب النخبة المحلية الاميركية بدل تحويلها الى خزينة العرش البريطاني.

3) مصادرة ممتلكات الموالين للعرش البريطاني واضافتها الى ارباح وثروات الطبقة الحاكمة في الدولة الناشئة.

4) بالاضافة الى هذا، فتح الباب على مصراعيه ودون قيود للعودة الى المزيد من نهب اراضي الهنود الاصلانيين لان الاستقلال عن بريطانيا كان يعني الغاء القوانين والمعاهدات المبرمة بين بريطانيا والهنود الاصلانيين.[8]

وعلى الرغم من تخوف مؤلفي الدستور من مخاطر الديمقراطية الشعبية في ذلك المناخ المحتقن ـ الا انهم رأوا ضرورة ابداء بعض التفهم للشعور الشعبي العام كي يضمنوا إستقرار الحكومة الجديدة. وفي حين كان الحراك الشعبي محفزاً لمؤلفي الدستور لاقامة سلطة مركزية قوية الا انه، في الوقت ذاته، حد من صلاحياتهم. في هذا السياق نستطيع ان نفسر بعض “التنازلات الديمقراطية” التي قدمها صانعو الدستور رضوخاً للضغوط لا حرصا منهم على مصالح الشعب وطبقاته الفقيرة. هكذا اكتملت معادلة التوازنات والصفقات فكانت التنازلات، في جزء منها، مفروضة عليهم خوفاً من هبة الشعب لا قناعة بالديمقراطية او تعزيزاً لها. هكذا اصبح الدستور نظاماً وآلية لمحاصرة مطالب الشعب وقمع الانتفاضات والمطالب الشعبية، وفي الحين ذاته ظل ـ بمواده التي صيغت أساساً لهذا الغرض ـ الدرع الحامي للمصالح الطبقية للبرجوازية الاميركية الناشئة المتمثلة في مصالح كبار ملاك الاراضي والمزارع الكبرى والعبيد، وحرية التجارة والاستثمار والمضاربة دون قيود او حواجز وتوفير الخدمات الحكومية لضمانة هذه المصالح وتوسعها.

(5)

الابعاد الطبقية للدستور الاميركي

غاية الدستور: حكم الشعب ام حكم الطبقة؟

تفيدنا العودة الى الخلفية الاجتماعية والطبقية التي سادت في الفترة التي وُلدت فيها الدولة الاميركية وصياغة الدستور الاميركي، في فهم وتفسير هذه الوثيقة بعيداً عن الرطانة والدجل اللذين يسرف الخطاب الاميركي ـ الغربي في تكرارهما. وسنذكر فيما يلي بعض الحقائق التاريخية التي تشرح لنا حقيقة هذا الدستور الذي حظي بقدر كبير من التعظيم والتقديس في تاريخ اميركا والعالم.

1) ليس صحيحا ان الدستور قد حظي بكل الدعم المزعوم، والحقيقة انه واجه معارضة شديدة من فئات عديدة من المجتمع الاميركي آنذاك، مما حدا بالمؤتمرين ان يعقدوا جلساتهم لكتابة ومناقشة مواد الدستور خلف الابواب المغلقة.

2) على الرغم من الادعاء القائل بان الغاية من المؤتمر الدستوري كانت ” تعديل” القوانين التي كانت تحكم البلاد خلال حقبة الكولونيالية البريطانية، فان الغاية الحقيقية كانت تنظيم السلطة / الحكومة / النظام الحاكم من اجل تعزيز السلطة المركزية للدولة وحماية مصالح الطبقات الثرية والنخبة السياسية (حماية مصالح الاقلية). فقد أجمع الموفدون في المؤتمر الدستور على رغبتهم في اقامة “حكومة مركزية قوية” هدفها:

حسم الخلافات والنزاعات بين 13 مستعمرة حول التجارة والرسوم التجارية والضرائب.

حماية المصالح التجارية الدولية وتعزيز المصالح المالية والتجارية للطبقة الثرية.

حماية الاغنياء من مطالب الطبقات والفئات الاجتماعية الاخرى. ولعله من الجدير بالذكر أن اغلب المؤرخين والمحللين السياسيين يتجاهلون ما عاناه المزارعون الصغار والاغلبية السكانية من قلة الدخل ووطأة الضرائب والفقرفي الفترة التي صدرت فيها الوثيقتان الاساسيتان في التاريخ الاميركي ـ اعلان الاستقلال وصدور الدستور الاميركي. ففي حين تمحور الكثير من الجدل خلال مداولات إقرار مواد الدستور حول المزاحمة بين الاغنياء ومصالحهم الاقتصادية، ولم يأبه المؤتمرون بمناقشة التناقضات والهوة السحيقة بين الاغنياء والفقراء.[9]

3) إضافة الى ان الدستور جاء ليفرض الضريبة لتغطية كلفة الجيش والمليشيات المحلية: الجيش لقمع انتفاضات العبيد السود والمزارعين الفقرا، والمليشيات المحلية لمحاربة الهنود الاصلانيين وملاحقتهم لاخماد ثوراتهم وانتفاضاتهم واغتصاب المزيد من اراضيهم.[10]

4) إقامة شكل من الحكم يضمن حماية الاقلية (طبقة الاغنياء وملاكي الاراضي) من “طغيان” الاغلبية. وقد ساد الاعتقاد آنذاك كما اسلفنا، ان الغاية من الدستور هي ضبط الحركة التجارية بين الولايات الاميركية (المستعمرات آنذاك) وحل الخلافات والنزاعات الناجمة عن المزاحمة التجارية دون اللجوء الى استخدام السلاح او فرض العقوبات الاقتصادية. تلك كانت احدى الوظائف الاساسية التي خُلق الكونغرس من اجلها: ان يكون منبراً لحل الخلافات التجارية والسياسية بين كبار التجار واصحاب المزارع والمصانع الكبرى. وفي نهاية المطاف، وبغض النظر عن التلقين الدعائي والايديولوجي للخطاب الراسمالي في اميركا، فان المهمة الحقيقية (والغاية) من كتابة الدستور هي التصديق على وثيقة تضمن السلطة والامتيازات للطبقة الحاكمة الجديدة مقابل تقديم تنازلات كافية لتحجيم وإجهاض معارضة الطبقات الاجتماعية العريضة. فمؤلفو الدستور لم يدعوا ان هدفهم كان تحقيق “المساواة بين الطبقات”، بل اكدوا دون مواربة بان التزامهم الاساسي يتمثل في حماية مصالحهم المادية (الطبقية) دون ان ينكروا ان ذلك سوف يتطلب سحق سلطة الشعب وضبط حراكه. وعليه، فقد سعوا في كتابتهم لدستور البلاد، الى التوصل الى وثيقة تضع، في حدها الادنى، اللبنة الاساسية لحكومة تحظى ببعض الدعم الشعبي ولكنها لا تعبث، في الوقت ذاته، بالبنية الطبقية القائمة آنذاك: اي حكومة قوية بما يكفي لدعم مصالح كبار التجار وأصحاب الاعمال والبرجوازية الناشئة، ولكنها قادرة في الوقت ذاته على الحفاظ على بعض مطالب الطبقات الشعبية.[11]

5) نرى مما اسلفناه، ان الدستور شكل امتداداً طبقياً لنمط الانتاج الراسمالي ولعب دوراً هاماً في التطور الاقتصادي الاميركي والتحول من الراسمالية المبكرة (التجارية والمالية التي قامت على تجارة وملكية العبيد ونمط الانتاج السائد في تلك الحقبة) الى الراسمالية الصناعية والمالية وقيام الشركات الاميركية الكبرى (المحلية والعالمية). كما ان الدستور كان عاملاً اساسياً في التراكم الراسمالي الاميركي وتراكم الثروة الاقتصادية والمالية الاميركية التي لم يكن يحلم بها أحد ولم يرى لها التاريخ البشري مثيلاً. وعليه، فمن اجل فهم الدستور فهماً مادياً وموضوعياً، لا بد من تناوله، من حيث وظيفته العضوية، كامتداد طبقي وسياسي لنمط الانتاج الراسمالي، وفي الوقت ذاته، وكحصيلة للتحالف الطبقي. وهو ما تم اكتماله في جلسات ومداولات صياغة الدستور.

الانتماء الطبقي لمؤلفي الدستور:

مَنْ كتب الدستور الاميركي؟

شارك في المؤتمر الدستوري 55 موفداً قدموا من المستعمرات الثلاث عشر وكان بينهم التجار واصحاب البنوك وملاكو السفن التجارية والمزارع الكبيرة وتجار الرق ومالكو العبيد ومضاربو الاراضي وبالطبع المحامون والخبراء القانونيون الذين اسدوا النصح لوفود المؤتمر وحرصوا على ان تكون المسودة النهائية معبرة عن مصالح اعضاء المؤتمر وحاسمة للخلافات التي نشبت بينهم وصولاً الى تحديد دقيق لشكل النظام الجمهوري الناشىء الذي يخدم مصالحهم على افضل نحو. وفي حين كان بعض المؤتمرين من كبار التجار ورجال الاعمال واصحاب المصالح والمضاربين وتجار الاراضي، كان بعضهم الآخر من المرتبطين باصحاب الاعمال التجارية. ومن الناحية الاقتصادية والطبقية يمكننا تقسيم مجموعة الـ “55” هذه الى فئتين اساسيتين:

1) راسماليو المستعمرات الشمالية.

2) ملاكو المزارع الكبرى في المستعمرات الجنوبية.

كان خمسة وعشرون من اصل 55 موفداً من ملاكي العبيد اضافة الى بعضهم لم يكن يملك عبيدا ولكنهم كانوا على أتم الاستعداد لتقاسم الارباح مع اولئك الذين يملكونهم. كان بعض الموفدين من الولايات الشمالية مستعدين لتحدي العبودية وتجارة الرق والمطالبة بالغائها، الا ان المعارضة كانت شديدة وعلنية خصوصاً من الموفدين الجنوبيين لاي وثيقة او دستور لا يضمن مصالح ملاكي العبيد ولا يدافع عن استمرار العبودية وتجارة الرق وديمومتهما.[12] وهكذا جاء الدستور في نهاية المطاف حلا توافقيا بين الشماليين والجنوبيين يضمن مصالح كافة الاطرف، الامر الذي طغى بوضوح على الدستور ومواده وعلى كافة الاعتبارات الدينية والاخلاقية ومبادىء الحرية والديمقراطية.

خلاصة القول، كان الذكور البيض الاثرياء وكبار الملاكين، هم الذين خطوا الدستور الاميركي كي يستأثروا بالقوة والسلطة السياسية بما فيها حق الانتخاب والترشيح. ولم تكن نسبة هؤلاء من مجموع سكان البلاد آنذاك تزيد عن عشرة بالمئة. اما مظاهر حكم الشعب وتمثيله والحرية والديمقراطية فقد كان المقصود بها ان توفر غطاءاً كاذباً يخدم الغاية الحقيقية وهي الاستحواذ على السلطة. ووفق ما خلص اليه هوارد زين، المؤرخ الاميركي الكبير، فقد كانت اغلبيتهم من المحامين والاغنياء الذين جنوا ثرواتهم من ملكية العبيد والمصانع وتجارة التصدير، ونصفهم كان من المرابين، في حين كان اربعون من اصل خمسة وخمسين يملكون مستندات حكومية. اما الاغلبية الساحقة من الشعب فلم يكن هناك بين مؤلفي الدستور مَنْ يمثلهم. فلا ممثلون عن المرأة او الاميركيين السود او الهنود الاصلانيين او فقراء البيض.[13]

(يتبع في الجزء الثالث والأخير)


[1] نشبت “الحرب الثورية” او “الحرب الثورية الاميركية” بين مملكة بريطانيا العظمى والمستعمرات البريطانية الثلاث عشر في اميركا الشمالية واستمرت من عام 1775 الى عام 1783، وانتهت باعلان استقلال هذه المستعمرات وانفصالها عن بريطانيا الام وتأسيس الولايات المتحدة الاميركية كدولة مستقلة عام 1776.

[2] لعله من اللافت ان 69% من الموقعين على اعلان الاستقلال كانوا يشغلون وظائف ومواقع رسمية في الحكومة الكولونيالية تحت إمرة بريطانيا. ومن اصل خمسة وخمسين من الذين صاغوا الدستور كان واحد وعشرون منهم يفضلون شكلاً من اشكال الحكم الملكي، الا ان ندرة منهم جازفت بالتعبير صراحة عن هذا الموقف خوفا مما قد تلقاه من المعارضة الشعبية. وحتى الكثيرون الذين فضّلوا نظام الحكم الجمهوري، فعلوا ذلك لحماية مصالحهم الطبقية وضمان استقرارها، اذ ان البرجوازية المحلية كانت قد أينعت ورأت ان الظروف الموضوعية قد نضجت للاستيلاء على السلطة دون تدخل من ملك بريطانيا ونبلائها ودون دفع الضريبة لهم.

[3] وهي عبارة عن رزمة من التعديلات الدستوربة كانت الاولى التي اجريت على الدستور الاميركي وتم إقرارها في ديسمبر 1791 وتشمل عشرة تعديلات تناولت قضايا هامة وجوهرية في الحياة والمجتمع والسياسية الاميركية، منها على سبيل المثال تحديد سلطات الحكومة الفيدرالية وحماية جملة من الحقوق والحريات مثل حق الملكية والحريات الدينية وحرية التعبير والصحافة والتجمع وكذلك حرية إقتناء وحمل السلاح.

[4] ولعل خير تعبير عما نقوله حول الدستور الاميركي هو ما صرح به احد اعضاء مجلس الشيوخ (Boise Penrose) في حديث له في اواخر القرن التاسع عشر مخاطبا جمعا من رجال الاعمال: “انا أومن بتقسيم العمل. انتم توفدوننا الى الكونغرس اما نحن فنقوم بدورنا بسن القوانين التي تتيح لكم ان تجنوا المزيد من الثروة… ومن هذه الارباح ذاتها، تقومون بالتبرع لحملاتنا الانتخابية كي نعود ثانية الى الكونغرس وسن المزيد من القوانين التي تمكنكم من اجترار المزيد من الثروة.” هكذا، وبهذا الوضوح المطلق، يؤكد لنا الرجل ما ادركه الانسان عبر التاريخ ومنذ “جمهورية افلاطون” الدور الحاسم الذي تلعبه العوامل والحوافز الاقتصادية في فهم وتفسير الظواهر السياسية وإن لم تكن بالطبع العوامل الوحيدة. انظر موقع رالف نادر على الرابط التالي:

http://www.nader.org/index.php?/archives/1130-Campaign-Contributions.html

[5] اقتصر حق الانتخاب في اثنتي عشر ولاية (من اصل 13 اي باستثاء ولاية بنسلفانيا) على الذكور البيض واصحاب الاملاك والذين لم يتجاوز تعدادهم آنذاك عشرة بالمئة ( 10% ) من مجموع السكان، فيما تم استثناء الاغلبية السكانية المكونة من الهنود الاصلانيين والسود الافارقة والنساء والخدم وفقراء الذكور البيض (اي الذين لم يكونوا ملاكين).

[6] سنرى لاحقاً عند صياغة الدستور ان هذه الانتفاضات قد سبب هاجساً مقلقاً لدى النخب المحلية والتي وجدت نفسها في موقع حرج بين غضب الجماهير الفقيرة من جهة، وقمع الامبراطورية البريطانية من جهة اخرى.

[7] للاستفاضة راجع فصل The Class Character of the U.S. Constitution في كتاب

Democracy and Class Society, pp. 39-47.

[8] بعد هزيمتها للقوات الفرنسية على الاراضي الاميركية، سعت الحكومة البريطانية الى تهدئة العلاقات المتوترة مع الهنود الاصلانيين فاصدرت قانونا عام 1763 يحد من الاستيلاء على اراضي الهنود (المسمى اعلان 1763). وقد استغل اثرياء المستعمرات الاميركية هذا القانون لتأليب الراي العام وتعبئته ضد الحكومة البريطانية وتسعير الكراهية ضدها.

[9] لم يكن في نية المؤتمؤين إدخال حزمة من الحقوق الدستورية الاساسية في الدستور مثل حق التعبير. ويتناسى كثيرون سكوت الدستور كوثيقة تأسيسية للولايات المتحدة ـ كدولة ونظام ـ عن مصائب الفقر والبطالة والاستغلال التي كانت وما زالت متفشية في المجتمع الاميركي، هذا السكوت الذي يكرس الفوراق الطبقية والاضطهاد الطبقي.

[10] كتب جيمس ماديسون، احد كبار مؤلفي الدستور، ما مفاده ان الحكومة التي قامت على اساس الدستور الاميركي سوف تضبط العصيان الشعبي الذي قد ينجم عن رغبة الجماهير في الاستيلاء على الاموال والممتلكات والمطالبة بالغاء الديون وإقامة وتوزيع عادل للمتلكات. في حين تحدث آخر من مؤلفي الدستور مدافعا عن إقامة “سلطة مركزية قوية” لمحاسبة ما أسماه “الديمقراطية الطائشة”.

[11] توصل اعضاء المؤتمر الى مناقشة وإقرار المادة رقم 1، بند 8 من الدستور (وهي المادة التي تمنح الحكومة الفيدرالية الصلاحية لضبط الانشطة التجارية وحماية المصالح والممتلكات) خلال الايام الاولى من انعقاد المؤتمر ولم يقم حولها جدل كبير. اما الجدل حول الخلافات والنزاعات بين التجار وملاك العبيد واصحاب الصناعات الصغيرة وجول العبودية وتجارة الرق فقد إستغرق بضعة اسابيع من اعمال وجلسات المؤتمر الدستوري. ومع ذلك لم يتوصل المؤتمرون الى إلغاء العبودية لانها كانت فعليا شكلا من أشكال الملكية.

[12] كان بنجامين فرانكلين احد كبار مؤلفي الدستور وأحد الآباء المؤسسين على استعداد لتقديم رؤية معادية للعبودية في المؤتمر الا انه غير رأيه لاحقا وتراجع عن اقتراحاته. كما ان احد الموفدين صرح بقولة بقوله ان المؤتمر لا علاقة له بشأن الدين او الشؤون الاخلاقية، بل ان السؤال الوحيد الذي يتوجب على المؤتمر معالجته هو: اذا كانت المصالح المتبادلة تسمح للولايات الجنوبية لتكون جزءاً من اتحاد الولايات الاميركية المنوي تأسيسه (والذي سيُسمى مستقبلا الولايات المتحدة الاميركية).

[13] Democracy and Class Society, p. 45.