(قراءة الكذبة من خلال الوثائق الاساسية)
(الجزء الثالث والأخير)
مسعد عربيد
(6)
الطابع العرقي للدستور:
الدستور كوثيقة عنصرية
العبودية في حقبة الكولونيالية البريطانية
جاءت القوانين التي حكمت المستعمرات البريطانية ومنها اميركا لتحقيق غايتين:
الاولى: ترسيخ فوقية وتأبيد هيمنة طبقات التجار وكبار الملاكين.
والثانية: قمع الطبقات العاملة والدنيا وصغار المزارعين (السود والبيض على حد سواء) للحفاظ على مصالح النخبة التي كانت تمارس سلطة إسمية في خدمة بريطانيا العظمى.
لم تكن اميركا في تلك الفترة بلد الديمقراطية السياسية او الفرص الاقتصادية حتى للاغلبية البيضاء التي كانت ايضا مهمشة وفق قوانين وشروط حق الملكية التي فرضتها الهيمنة الكولونيالية البريطانية على البلاد. ففي المستعمرات الجنوبية (التي سُميت بالولايات الجنوبية بعد الاستقلال وإعلان الولايات المتحدة الاميركية)، أحكمت الارستقراطية الزراعية المالكة للعبيد سيطرتها على مرافق الحياة العامة ومقاليد الحكم وصنع القرار. أما في الولايات الشمالية والتي نشأت بالاصل من اجل الحفاظ والدفاع عن الحريات الدينية، فلم يكن للديمقراطية اي أثر.
شكّل المناخ الاجتماعي والسياسي “للحرب الثورية” والنضال من اجل الاستقلال عن بريطانيا وجملة الافكار والايديولوجية الثورية والتحررية التى تنامت عبر العقود التي سبقت تلك الحرب، كل هذه شكّلت تحدياً سياسياً واخلاقياً للعبودية وتجارة الرق من افريقيا، كما شكّلت محكاً لمصداقية إدعاءات الحرية والديمقراطية والمساواة التي قام عليها خطاب التحرير والاستقلال عن بريطانيا. ومع حلول عام 1780، اي بعد اربعة اعوام من اعلان الاستقلال عن بريطانيا، أخذت بعض الولايات تتجه نحو تحرير العبيد. الا ان اغلبية القادة السياسيين المتحدرين من طبقات كبار التجار واصحاب المزارع لم تكن ترغب في تحرير السود الاميركيين ومنحهم الحريات والحقوق الديمقراطية، وفضلت الابقاء على التراتبية العرقية والاجتماعية القائمة على التسلسل العرقي والطبقي والموقع الاقتصادي اي التمايز الطبقي والتمييز العنصري. وقد انعكست مواقف هؤلاء على صياغة دستور الدولة الاميركية الناشئة، مما يعني ان دستور البلاد حنث بوعود الديمقراطية والحرية والمساواة لكافة الاميركيين وعزز، على النقيض من ذلك وبشكل مباشر، قوانين التمييز العنصري والفصل العرقي بين البيض والسود.
ففي تناقض صارخ مع مبادىء الديمقراطية والحرية نرى ان الدستور يؤكد على نظام حكم تمثيلي وديمقراطي من جهة، والسماح بتجارة العبيد من جهة اخرى. ولا يمكن تفسير مثل هذا التناقض الا بالعودة الى المصالح والعلاقات الطبقية والعرقية والسياسية التي كانت قائمة بين البيض والسود في الفترة الواقعة بين منتصف ونهاية القرن الثامن عشر والتي شهدت استقلال اميركا وولادة الوثيقتين الاساسيتين للدولة الجديدة: اعلان الاستقلال (1776) والدستور الاميركي ( 1787).
حقبة ما بين الاستقلال والدستور:
زخم الحرية ام تأصيل العبودية… تحرير الانسان ام تحرير الرجل الابيض؟
بعد ان خمد لهيب الرطانة السياسية المطالبة بالاستقلال عن بريطانيا وتحقيق الحرية والديمقراطية، اخذت النخبة الثرية تتسائل عن جدوى ايديولوجية الشعارات والمطالب الديمقراطية، وعما اذا كانت المطالب هذه قد ذهبت الى حد بعيد او أبعد من المتوخى؟ وهل من الضروري حقاً إلغاء العبودية؟ وهل يحق للسود الملاكين (الذي حصلوا على حق الملكية) ان يمارسوا حقوق الترشيح والانتخاب؟ وبدت الاشكالية وكأن المقصود بخطاب التحرير والحرية والمساواة خطاب الثورة ضد الكولونيالية البريطانية، كان تحريراً للرجل الابيض لا تحريراً الانسان؟
احتدم هذا الجدل على مدى سبع سنوات سبقت كتابة الدستور (1780-1787) وتنامت الحركات المطالبة بتحرير العبيد وتمسك بعض القادة السياسيين بشعارات محو العبودية “ولو بشكل تدريجي”.[1] اما بعض كبار القادة السياسيين فقد أخذوا بالتصريح بالسر والعلن بمعارضتهم لمبادىء الديمقراطية في تحرير السود. و كان أبرزهم جورج واشنطن، الرئيس الاول للولايات المتحدة الاميركية، والذي كان آنذاك “يملك” ما يزيد عن (200) عبداً. كما شكى بعضهم من “ضعف إنتاج العبيد” و”تخريبهم للمتلكات”. حتى الليبراليون اخذوا ينضمون الى صفوفهم ويشككون بالذرائع الديمقراطية لتحرير العبيد. ففي حين واصل جفرسون ـ احد كبار مؤلفي الدستور ـ التباكي وذرف الدموع على إستمرار العبودية، نراه يصرح علنا بمواقف عنصرية وتمييزية ضد السود ويحاجج ان للسود “رائحة قوية وغير مرغوبة” وبانهم يحتاجون الى قدر من النوم “اقل من البيض”، بل ذهب الى حد الفتوى في مسائل الحب والجنس فرأى ان البيض “اكثر حناناً ورقة” بينما كان تعبير السود عن الحب “اكثر منه رغبة جنسية”.[2]
حل “المسألة الزنجية”: الاستعمار الاسود
أخذ بعض الليبراليين البيض في حيرتهم وخشيتهم من انفلات الاوضاع، يبحثون عن حل لما اسموه آنذاك “المسألة الزنجية” The Negro Question وللحفاظ على التزامهم بالمبادىء الانسانية والديمقراطية التي كانوا قد أطلقوها آنذاك. كان هؤلاء يدركون بلا شك ان تحرير العبيد سوف يستلزم، في الجوهر، التحرير الكامل للعلاقات بين العرقين (الابيض والاسود)، وهو ما سيهز العلاقات الاجتماعية والمدنية من جذورها، الامر الذي كان يصطدم دوماً بالفوقية البيضاء ـ الحاجزالذي تنهار امامه كل المبادئ الديمقراطية.
كانت الغاية من كل هذه الاطروحات إغلاق الباب امام الاندماج بين العرقين من خلال تعزيز ايديولوجية إستحالة إندماج السود في المجتمع الابيض. وقد يبدو طريفاً، وان لم يكن اقل دلالة، ان ظهرت بين هؤلاء الليبراليين البيض اطروحات “الاستعمار الاسود” اي اعادة السود من اميركا (ومستعمرات الكاريبي والاميركيتين) الى افريقيا ليستعمروا القارة.[3] فمن ناحية، كان الليبراليون البيض ينوون من وراء اعادة السود المحررين الى القارة الافريقيةإظهار انسانيتهم نحو السود (مما يعزز مواقفهم الديمقراطية)، ولكنهم كانوا يسعون في الوقت ذاته الى التخلص من بعض السود والخطر الكامن فيهم من جرّاء قيامهم باعمال الشغب والعصيان، وهكذا حسبوا ان هذا الحل سيتيح لهم ضبطاً افضل للسود الباقين في المجتمع الابيض.
كيف اصبح الافريقي الاسود ثلاثة اخماس الانسان؟
كانت العبودية وتجارة الرق من أكبر التحديات التي واجهت المؤتمرون، وقد شكل “تمثيل” العبيد الافارقة في المؤتمر إشكالية خلافية احتدم النزاع حولها وتمحورت حول السؤال التالي: هل يكون العبيد “جزءاً من السكان” وبالتالي يجب ضمانة حقهم في انتخاب ممثلين لهم في الكونغرس الاميركي، او انهم مجرد “ملكية” اي سلعة وفي هذه الحالة فانهم لا يتمتعون بحق التمثيل؟
™ حاجج موفدو الولايات الجنوبية التي تشمل عدداً كبيراً من العبيد ان العبيد يجب ان يعتبروا “اشخاصاً” من حيث تمثيلهم في الكونغرس، اما اذا كانت الحكومة الجديدة المزمع تأسيسها ستفرض ضريبة يتم تقديرها بناءاً على التعداد السكاني فانه يجب اعتبار العبيد “ملكية” (وفي هذه الحالة لن يدخل العبيد في تعداد السكان فتكون الضريبة التي يتوجب على الولاية دفعها للحكومة الفيدرالية أقل).
™ اما موقف وفود الولايات التي ألغيت فيه العبودية او حيث أوشكت هذه على الاختفاء، وحيث كان تعداد العبيد قليلاً، فلم يكن مختلفاً في الجوهر ولا أقل وحشية واجحافاً، فحاججوا، وفق مصالحكهم المادية، بان العبيد يجب ان يدخلوا في التعداد السكاني عند حساب مقدار الضريبة (لان تعداد العبيد في تلك الولايات كان قليلاً مما يعني ان الضريبة المفروضة ستكون ايضاً ضئيلة)، ولكن لا يجب ادخالهم في معادلة التمثيل السياسي في كونغرس الدولة الديمقراطية الجديدة.
واذا ما ادركنا ان العبيد ساهموا بدور هام في النضال من اجل الديمقراطية وتعزيز ثقافتها بعد قيام الثورة الاميركية، وانهم شكلوا آنذاك خُمْس سكان الولايات المتحدة، وان اغلبتهم كانت تسكن في الولايات الجنوبية (حيث شكلوا 40 % من تعداد السكان)، فان الاصطفاف الطبقي لمؤلفي الدستور وفق مصالحهم المادية في صياغة هذه الوثيقة يصبح جلياً ويؤكد ان الموافقة على الدستور كانت مشروطة باشباع المصالح والاحتياجات المادية والطبقية لكافة الاطراف على تنوعها وتناقضها. هكذا جاء اعتبار العبد الاسود (3/5) ثلاثة اخماس الشخص الحر (الانسان) كحل توفيقي لحسم الخلاف والمضي قدماً في إقرار الدستور والتصديق عليه دون اعاقة.
“الديمقراطية” في تجارة الرق
اما المسألة الاخرى التي أثارت نزاعاً داخل المؤتمر الدستوري، والتي توصل المؤتمرون الى حسمها بحل توافقي هذه المرة ايضاً، فكانت تجارة الرق. ففي حين طالبت عشر مستعمرات (وهي الولايات التي كانت قد ألغت العبودية) من اصل ثلاثة عشر بتحريم هذه التجارة، اصرّت الولايات الثلاث الاخرى (ولايات واشنطن وكارولاينا الشمالية والجنوبية) على الاستمرار فيها وعارضت إستصدار اي قانون او مادة دستورية تحرّمها مهددة بالانسحاب من المؤتمر اذا لم ينصاع المؤتمرون الى رغباتها.[4] وقد تمثل الحل التوافقي في ان يفوّض المؤتمر صلاحية البت في الامر الى الكونغرس الاميركي شريطة الا يتم إتخاذ اي قرار بهذا الشأن قبل عشرين سنة اي ان تظل تجارة الرق “وإستيراد العبيد” مسموحاً بها حتى عام 1808 والا يقوم الكونغرس بتحريمها قبل ذلك العام. وقد نصت المادة (1) البند (9) من الدستور صراحة على ان “هجرة واستيراد مثل هؤلاء الاشخاص” سيظل مسموحاً بها وان الكونغرس لا يملك صلاحية تحريمها حتى عام 1808. ومن دون الدخول في تفاصيل الجدل الكبير حول تفسير هذه المادة فانه من الواضح:
· أن الهجرة والاستيراد كانت تعني استرقاق العبيد واستحضارهم عنوة من افريقيا الى اميركا.
· وأن المقصود بمفردة “الاشخاص” كان العبيد السود القادمين من افريقيا حيث اعتقد كثيرون ان استخدام مفردة “عبيد” لا تليق بوثيقة تطالب بالحرية والديمقراطية.
وبغض النظر عن التفسيرات والتبريرات فانه من الواضح ان الدستور قد شرعن عبودية السود وتجارة الرق وان “الجمهورية الناشئة” سوف تشجع استحضار العبيد من افريقيا، إضافة الى المادة الثانية بند 2 التي تنص على إلزام العبيد الفارين بالعودة الى أسيادهم.
ولعل الوقائع التي تلت انعقاد المؤتمر الدستوري تؤكد ذلك بوضوح:
· فقد ارتفع عدد الزنوج الافارقة في الولايات المتحدة بين عامي 1780-1820 الى ثلاثة اضعاف.
· وزادت نسبة السود في ولاية فرجينيا بين عامي 1790 و 1800 بـ 17,8 %، وفي كارولاينا الشمالية بـ ( 32% ).
· “إستوردت” ولاية كارولاينا الجنوبية بين عامي 1803 – 1808 وبشكل قانوني (40) ألف “عبد افريقي”.[5]
هل كان هناك بدائل أخرى؟
يقدم منظرو الراسمالية العنصرية في اميركا سيلاً من الذرائع لتبرير مواد الدستور ـ التي حافظت على التمايز الطبقي السحيق وعلى العبودية وتجارة الرق وأبقت على التمييز العنصري ضد السود ـ بحجة مقتضيات المرحلة التي كُتب فيها الدستور. إلا انه على الرغم من هذه التبريرات، فان السؤال يظل: اذا كان مؤلفو الدستور حقاً دعاة حرية وديمقراطية، واذا كانوا قد احرزوا للتو انتصارهم على الاستعمار البريطاني واستقلالهم وإقامة دولتهم الجديدة، فهل كان امامهم بدائل اخرى في صياغة هذا الدستور والخروج بوثيقة تحفظ ولو شيئاُ يسيراً من القيم العليا التي طالبوا بها.
قد يبدو التساؤل في هذه القضية مثالياً او واهماً. فرأس المال ليس بصدد التنازل او التضحية باي من ارباحه ومكاسبة لدواعٍ اجتماعية او انسانية. وفيما يلي بعض البدائل[6] (نوردها على سبيل المثال لا الحصر) والتي كان بامكان مؤلفي الدستور الوصول اليها:
1) كان بمقدور الاجزاء الغربية من البلاد اقامة سوق عمالة حرة حيث ان التوسع الاقتصادي والسياسي في هذه المناطق لم يكن معتمداً على العبيد كمصدر للعمالة.
2) كما كان بالامكان تشريع مواد في الدستور تقضي بمحو العبودية بشكل تدريجي وان ينص الدستور على اجراءات تكفل ذلك مقابل ان تقوم الحكومة الفيدرالية بتقديم تعويضات لملاك العبيد كما فعلت الحكومة البريطانية في بعض المستعمرات في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
3) كان بمقدور الدستور، كوثيقة ديمقراطية ان يحرم “استيراد العبيد” وان يصبح هذا القانون ساري المفعول فور النصديق على الدستور وانشاء صندوق لدعم الهجرة الحرة من افريقيا بدلا من السماح بتجارة الرق حتى عام 1808.
4) وكان جديرا بالدستور ان يمنح العبيد السود الحقوق والامتيازات التي يضمنها الدستور اسوة بالاميركيين البيض.
خاتمة
حاولت في هذه المقالة تسليط بعض الاضواء على الابعاد الطبقية والعنصرية والعرقية للدستور الاميركي بالرغم من الرطانة عن الديمقراطية والحرية التي أتى عليها او نسبوها اليه، وقصدت التدليل على ان اهم هذه العوامل والابعاد يكمن في الانتماء الطبقي والمصالح الطبقية لمؤلفي هذه الوثيقة وموقفهم من العبودية وتجارة الرق، ذلك الموقف الذي جاء متناسقاً مع مصالحهم التجارية والاقتصادية. ليس القصد هو تشويه وثيقة الديمقراطية الاميركية لتحقيق أمرٍ في نفس يعقوب او لمأربٍ ما، بل تقديم محاولة لفهم هذه الوثيقة في سياقها المنطقي والموضوعي والتاريخي وما خلّفته من آثار بعيدة المدى على المجتمع الاميركي والانسانية ما زالت حاضرة حتى يومنا هذا. وبناءاً عليه، يمكننا القول بايجاز ان الدستور الاميركي لم يكن نتاجاً للامتيازات والمصالح الطبقية للاغنياء فحسب، بل كان في مواده وفي المناقشات والمداولات التي دارت حولها تعبيراً عن ساحة الصراع الطبقي ذاته، ذلك الصراع الذي ما زال محتدماً حتى يومنا هذا وسيظل كلما أمعنت حكومة راس المال في حربها ضد فقرائها وطبقاتها الشعبية داخل اميركا[7]، وفي حروبها الامبريالية ضد شعوب العالم، وكلما توحش الاقتصاد الراسمالي في جشعه وسعيه نحو الربح والهيمنة.
لقد تجاوب مؤلفو الدستور مع مصالحهم ونواياهم (الطبقية والنخبوية) وبذلوا قصارى جهدهم كي يعيقوا تحقيق السيادة الشعبية وحكم الشعب وضمانة حقوقه ووصوله الى السلطة (وهي المبادىء والاهداف التي دعا اليها الدستور). وقد نجحوا بفضل نهجهم وخطابهم البراغماتي ان يضمنوا الاجماع على الدستور كوثيقة تحكم الدولة الجديدة. ولم تكن تعوزهم الرؤية النافذة ولا الدراية بان مثل هذه الوثيقة سوف تكرس في مستقبل الايام نقيض ما تدعو اليه وتطالب به وسوف ترسخ التمايز الطبقي وتبقي الاغلبية الشعبية في المواقع الاقتصادية الدنيا مبتلية بالفقر والعوز والمرض. وليس في هذا الامر ما يدعو الى الاستغراب، فهذا لم يكن يعنيهم اصلاً.
قد يقول رأي ان هذا الدستور جاء في سياق تاريخي مختلف ويفتقر الى الراهنية في الواقع الاميركي اليوم، وأن مواده جاءت لتقدم حلولاً لاوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية في حقبة حرجة من التاريخ الاميركي إتسمت بتحديات الحرب مع الكولونيالية البريطانية وإنجاز استقلال الوطني وسيادة الدولة الاميركية الجديدة. وقد تذهب اطروحات اخرى في الرد على نقد الدستور، الى انه (الدستور) وثيقة حية قابلة للتغيير والتعديل والتعامل مع متغيرات الواقع وروح العصر. وهذا صحيح، فقد اجريت على الدستور، عبر القرنين الماضيين، تعديلات عديدة وجوهرية (مثل حق الانتخاب للمرأة والسود والفقراء وغيرها). الا ان هذه الاطروحات تقوم في الجوهر على قراءة سردية وشكلية للدستور ولا تقدم سوى فهما كسيحاً وتحليلاً مكيانيكاً له يعجز عن تفكيك اكاذيبه، والاهم انها تتجاهل التناقض الاساسي في المجتمع الاميركي (في تلك الآونة وفي الوقت الحاضر ايضاً) وهو التناقض بين الديمقراطية (كرطانة سياسية) والاستغلال بكافة اشكاله وغياب العدالة (الاقتصادية) والذي يعكس الاصطفاف الطبقي في المجتمع.
قد يبدو مقبولاَ لدى الكثيرن، هذا الجدل الذي يعتبر الدستور جزءاً من الماضي. الا ان الحجة التي تقول إن الدستور قد وُلد في حقبة معينة وجاء بالتالي معبراً عنها، لا تجيب على العديد من الاسئلة والاشكاليات الممتدة على مساحة التاريخ الاميركي منذ تلك الآونة حتى يومنا هذا، كما انها لا تفسر الوقائع الماثلة امامنا. ويمكننا في هذا الصدد إيجاز بعض الملاحظات:
™ ان اميركا ترى ذاتها، وتريد العالم ان يراها ايضاً، كامتداد للغرب وللحضارة الغربية. ومن هنا جاءت الرابطة الاوروـ اطلسية بابعادها الثقافية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إلاّ أنه يظل من العسير تفادي المفارقة التالية: ففي الوقت الذي كانت فيه اميركا تناقش مواد دستورها، كانت اولاوبا قد اجتازت حقبة التنوير التي استمرت عدة قرون وهزّت الكثير من المفاهيم والقيم والافكار في كافة مجالات الادب والفن والعلم والدين والسياسة والمجتمع.
™ ان صياغة الدستور الاميركي، وكل ما دار حوله من جدل، تزامن مع حقبة شعارات الحرية والمساواة والاخوة التي جاءت بها الثورة الفرنسية (1789) اي عامين بعد التصديق على الدستور الاميركي وكانت فرنسا واوربا برمتها تمر بمخاض هزّ المجتمعات الاوروبية (الغربية) وقلب نُظم القيم وانظمة الحكم التي كانت السائدة آنذاك. أما في اميركا فقد أبقى الدستور على العنصرية والتمييز العنصري والتمايزات الطبقية والعرقية والاثنية التي ما زالت متفاقمة حتى يومنا هذا، وهناك من الدلائل والمشاهد ما لا يخفى على احد. ولا نقصد هنا ان نتجاهل أشكال التمايزات والتناقضات في المجتمعات الاوروبية فهذه موجودة وعميقة كما في كافة المجتمعات الراسمالية، بل نود ان نشير الى خصوصيات الغرب الراسمالي الاميركي وتميزه حتى عن الغرب الاوروبي من حيث النشأة ومسيرة التطور الاجتماعي وصولاً الى الزمن الراهن.
™ صحيح ان العبودية وغيرها من ممارسات التمييز العنصري قد الغيت رسمياً وقانونياً في الولايات المتحدة، الا ان أخطر ما تبقى هو حماية الدستور الاميركي للملكية الخاصة وهي جوهر الراسمالية والسبب الجذري في استمرار الاستغلال، لان تكريس الملكية الخاصة يشرعن “الحق” في استغلال الاغلبية لصالح القلة.[8] وبهذا المعنى، فان الدستور يضمن استغلال الانسان لاخيه الانسان ويؤبد إستعباده ايضاً. فمن دون الحفاظ على حقوق الفقراء والمهمشين الذين يشكلون الاغلبية الشعبية والسكانية فانه لا يمكن الحديث عن حرية او ديمقراطية او عدالة اجتماعية واقتصادية.
قد تتوهم أغلبية الشعب الاميركي، ومعها مَنْ صدق الكذبة خارج اميركا، انها امام وثيقة دستورية متألقة في مفرداتها وعباراتها وامام ديمقراطية سياسية لفظية جميلة. الا ان هذا لا يسد الجوع، ولا يشفي المرض ولا يوفر الديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية. ولعلنا نخطىء اذا حسبنا اننا قد وصلنا الى قاع البئر، فالراسمالية لم ترفع الستار بعد عن ابشع مشاهدها وما زالت تخبىء الكثير من الكوارث لاميركا وللبشرية جمعاء. والى حين التغيير الجذري والاطاحة بالراسمالية كنظام إستغلالي وحشي والتوجه نحو الاشتراكية، فان الدستور الاميركي سيظل وثيقة متميزة للغني ولراس المال تحمي مصالحه بامتياز، اما بالنسبة لاغلبية الشعب الاميركي، فانها تظل وثيقة خادعة منحازة وخبيثة تخفي في سراديبها الاعيب لم يرى العالم حتى اللحظة إلا جزءاً منها.
تجوب اميركا الكرة الارضية وتخترق شعوب العالم لفرض “الديمقراطية” عليهم “وتدريب ابنائهم وتمكينهم” من اجل بناء صرح الحرية والديمقراطية وحكم القانون، وهي في الحقيقة البلد الذي يفتقر الى الديمقراطية اكثر من اي بلد آخر. ومن هنا جاءت هذه المقالة بحثاً في دهاليز الكذبة التي دامت اكثر من قرنين وما زالت تتكرر على مدار الساعة، حتى صدقها العالم بأسره. ولذلك كله، فان المهمة الملحة والجديرة بمستقبل الانسان تظل في تفكيك الديمقراطية الاميركية ونقدها وتقديم تحليل أمين لركائزها الزائفة.
بعض المراجع الهامة:
Bob Avakian, Democracy: Can’t We Do Better Than That? Banner Press, Chicago, USA, 1986.
Bernard Bailyn, The Ideological Origins of the American Revolution, The Belknap Press of Harvard University Press, USA 1992.
Democracy and Class Society, edited by Andy McInerny, PSL San Francisco, USA, 2008.
Manning Marable, The Great Wells of Democracy: The Meaning of Race in American Life, BasicCivitas Books, New York, 2002.
Manning Marable, Black Leadership, Columbia University Press, New York, 1998.
Manning Marable, Black Liberation in Conservative America, South End Press, Boston , USA, 1997.
Howard Zinn, Voices of a People’s History of the United States, Seven Stories Press, New York, USA, 2004.
[1] اقترح جفرسون عام 1784 ابقاء العبودية خارج الاجزاء الغربية من البلاد، الا ان الكونغرس صوت ضد هذا الاقتراح. كما فشلت الجهود المعادية للعبودية والمطالبة بمحوها في ولادية ديلاوير وصوت المجلس التشريعي للولاية ضدها عام 1786.
[2] Manning Marable, Black Leadership, Columbia University Press, New York, 1998. p. 6.
[3] ظهرت عام 1787 محاولات لنقل السود المحررين من نوفاسكوتيا وانكلترا الى سواحل غينوا العليا (المرجع السابق).
[4] فعلى سبيل المثال حاول توماس جفرسون إدخال مادة في احدى مسودات اعلان الاستقلال لادانة للملك جورج الثالث لاستحضاره العبيد من افريقيا الى المستعمرات البريطانية، مع انه كان كان مالكا للعبيد حتى موته. الا انه كان يدرك قيمة وأثر مثل هذه العبارت على كسب مودة الشعب وتأييد الجماهير. الا ان النسخة الاخيرة من اعلان الاستقلال، بدلا من الفقرة اعلاه، اتهمت الحكومة البريطانية بتحريض العبيد ليتمردوا على حركة الاستقلال ودعم الهنود في مطالبهم ضد المستوطنين البيض: لقد عمل الملك على تحريض “الهنود المتوحشين عديمي الرحمة” ضدنا. راجع Democracy and Class Society, p. 44.
[5] راجع فصل
“The Racial Character of the U.S. Constitution” in Black Leadership by Manning Marable.
[6] في رؤيته للبدائل، يؤكد البروفسور الراحل مانينج مارابل، استاذ التاريخ في جامعة كولومبيا في نيويورك، على سبيل المثال، انه كان بإمكان صانعي الدستور الوصول الى وثيقة اقل عنصرية واكثر انسانية. الا ان الدستور، حسب قوله، كان النهاية بالنسبة للاميركيين السود لا بداية لحركة اجتماعية ديمقراطية تنادي بالمساواة بين البشر. المرجع السابق ص 10.
[7] وهي حرب يومية ضروس ولا يجوز التقليل من اهميتها امام الحروب الامبريالية الاميركية ضد شعوب العالم. فللحرب ضد الشعب الاميركي ساحات متعددة ودامية وما تفتأ تزداد تناسلاً مع تفاقم الازمة الاقتصادية وتشمل هذه الساحات، على سبيل المثال، الفقر والجوع والبطالة وغياب الرعاية الصحية لملايين الاميركيين وإفلاس نظام التعليم وتهاوي مستويات رعاية المسنين وغيرها الكثير.
[8] لعله امر يحمل دلالة عميقة ان الدستور الاميركي (1787) أخذ العبارة الشهيرة التي وردت في اعلان الاستقلال (1776) والتي تنص على “الحياة و الحرية والسعي وراء السعادة” وحورها لتقول: “الحياة والحرية والملكية”.