عادل سمارة
ملاحظة: سُئلت عن مقالتي قبل الأخيرة حول الخطاب المخفي بأنني افتح معركة أو أكثر وهذا مباعدة عن المرونة. ومع تقديري للنوايا الطيبة، أود الإشارة إلى أن المثقف المشتبك يختلف عن كثيرين في أمور منها:
- المشتبك لا يرتبط بنظام حكم محلي أو معادي ولا بحركة لها حسابات أنظماتية، ايا كانت تلك الأنظمة ولا يُعلي الصداقات الشخصية على واجبه تجاه الوطن.
- المشتبك لا يقيده ماضٍ مرتشي، ولا تنقُّل من راشٍ إلى آخر.
- المشتبك يوجهه عقل نقدي وموقف نقدي ملتزم بحق الطبقات الشعبية العربية في التحرر والوحدة والاشتركية.
ليبيا في عين المرحلة
من أجل فهم ابعاد العدوان على ليبيا، لا بد من ربط ذلك بتطورات النظام الاقتصادي العالمي وأزمته في المركز الراسمالي على وجه الخصوص. وربطه كذلك بالقوانين الرئيسية لراس المال وخاصة فوضى الإنتاج والأزمة في جانب العرض، وتحديداً قانون الانسحاب والغزو. سيكون لنا في هذه حديثاً ما. لكن ما يهمنا هو الإشارة إلى القانون الأخير، الانسحاب والغزو ليس لتفرده على الأخريات وإنما لدرجة انطباقه في اللحظة على الصعيدين العالمي والعربي، هذا وإن كان هذا القانون نفسه قد استنتجه ماركس في حينه فيما يخص الاقتصاد الوطني لدولة الواحدة، او للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة.
ملخص هذا القانون أن راس المال يبحث دوماً عن الربح الأقصى حسب ماركس، وهو ما نود تصعيده للقول : في بحثه عن الربح اللامحدود، وهذا ليس للتدليل على شره راس المال بقدر ما هو للتأكيد على أن الإصرار على الربح اللامحدود سيقود إلى انفجار النظام الراسمالي نفسه إما عبر الصراعات بين دول المركز أو عبر تفجير ثورات شعبية في بلدان المحيط لصد هذا التغوُّل وذلك خاصة لأن اللامحدودية لا بد تقود إلى إشكالية من ضمنها فوضى الإنتاج مما يعيد تشابك قوانين الراسمالية لتعمل مع بعضها البعض.
في سياق البحث عن الربح الأقصى، فإن راس المال ينتقل، كمشاريع، من المناطق التي توفر ربحاً متدنياً إلى تلك التي توفر ربحاً أعلى أو أقصى. وحالة أو مناخ التنقل هذا هو إشارة إلى وجود خلل في أداء الاقتصاد، أو لنقل ازمة التي تلعب دور قوة طاردة من منطقة جغرافية إلى أخرى ومن قطاع إنتاجي إلى آخر ومن قطاع معلوماتي إلى آخر طبقاً لتطورات الاقتصاد العالمي حديثاً. وفي سياق هذا الانتقال يجسد راس المال فوضى الإنتاج لأنه حيث تتركز رؤوس الأموال (الاستثمارات) في القطاع/ات والمنطقة/المناطق التي تحقق ربحاً أعلى ويتجسد خلال ذلك كل من قانونَيْ المنافسة ولاحقاً الاحتكار وابتلاع المشاريع الصغيرة للكبيرة.
بوسعنا القول إن قانون الانسحاب والغزو قد فرض نفسه منذ منتصف ستينات القرن الماضي، القرن العشرين، اي بعد بدء التباطؤ في أداء الاقتصاد الراسمالي في المركز خاصة، وتبين ذلك في تدني معدل الربح. وقد ترتب على هذا قرارات وسياسات راسمالية كثيرة داخل دول المركز وقد طُبقت تدريجياً ومنها خاصة:
- اعتداء راس المال على مكتسبات العمال من حيث الأجور والحقوق
- كسر ظهر النقابات العمالية (اوضح مثال دور تاتشر في تحطيم نقابة عمال مناجم الفحم في بريطانيا)
- فرض سياسات الخصخصة وتصفية القطاع الحكومي (مغادرة الكينزية) والانتهاء إلى اللبرالية الجديدة وعدم التضبيط.
- زيادة تشغيل العمالة المؤقتة وخاصة النسائية
- تقليص عمالة النساء عمالة كاملة
- صدور فتاوى الكنيسة بنصح المرأة أن تكون أما جيدة بانحصارها في تربية الأولاد.
وقد كان لهذا القانون تجليه على الصعيد العالمي، وهذا بمعزل عن مجادلة البعض بأن النظام العالمي ليس سوقاً واحدة لنظام سياسي واحد، إلا أن ما يهمنا هنا أن حراك راس المال يتم وكأن العالم محكوم بنظام سياسي واحد. نقاشنا هنا أن راس المال في المركز بدأ يغزو المحيط بالمشاريع الإنتاجية وليس فقط لنهب المواد الخام واختراق الأسواق وتصدير راس المال، فكان تصدير راس المال العامل الإنتاجي إلى بلدان المحيط وذلك بحثاً عن عمالة رخيصة، وبلا حقوق من جهة واقتراباً من اسواق مرتبطة بهذا الراسمال من جهة ثانية.
راى كثير من الاقتصاديين في هذا انتقال بلدان من المحيط إلى درجة التصنيع المرسمل مغفلين ان كل هذا تم ضمن التقسيم العالمي للعمل على أرضية مركز محيط لأن المركز حريص على أن يحاول المحيط التكيف واللحاق دون السماح له بلحاق حتى نسبي حقيقي إلا مضطراً، كما حصل في حالات محدودة في الصين والهند والبرازيل.
بيت القصيد في حديثنا هذا هو أن المركز وقد نقل صناعات معينة إلى المحيط مقوداً بقانون الانسحاب والغزو ومطبقا هذا القانون على صعيد عالمي، إنما قام بذلك ضمن التوسع الرأسمالي المحفوز بالأزمة أولاً ومن ثم بميل راس المال إلى التوسع الطبيعي.
ورغم أن هذا التوسع قد عاد على المركز بارباح عالية إلا أن المركز عانى من أزمات اقتصادية في تسعينات القرن الماضي والتي للمفارقة تواكبت مع تفكك دول الاشراكية المحققة. وهو التفكك الذي كان يبشر بازدهار الراسمالية. وهذه الأزمات هي التي دفعت الراسمالية وخاصة الأميركية إلى “الهجوم الدفاعي” في السوق العالمي: الهجوم الذي تجلى في احتلال العراق وتدمير يوغسلافيا كدولتين خارجتين من تحت عباءة راس المال. هو هجوم لأنه هدف إلى التهام نفط العراق في حقبة الأزمة في جانب العرض، وهدف إلى توسيع دور الولايات المتحدة في أوروبا الشرقية. وهو دفاعي لأنه استخدم التفوق العسكري الأميركي في توسيع الأسواق التي لم تعد الصناعات المدنية الأميركية قادرة على المنافسة فيها، فهو دفاعي في وجه المنافسة الأوروبية لأميركا وكذلك المنافسة من البلدان المصنعة حديثاً.
إن العدوان على العراق ويوغسلافيا وافغانستان هو انعكاس لسلسلة ازمات متلاحقة في المركز. كان وعد بوش للأميركيين بأن العدوان على العراق سوف يعود عليهم بالنهب الكبير وأن تكاليف الحرب سوف تسددها مسروقات النفط العراقي. وكان هذا الحساب صحيحاً لو كان الشعب العراقي قد استسلم للغزاة. ولكن المقاومة العراقية قد أغرقت اقتصاد الولايات المتحدة في عجز مالي لم يسبق له مثيلاً.
وهو العجز الذي كان تجليه الأكبر في الأزمة المالية الاقتصادية في المركز والمحيط عامة. وهي الأزمة التي ما تزال تتفاعل وتتعمق. وعليه، يمكن القول إن غزو ليبيا هو نموذج آخر على قانون الانسحاب والغزو، ولكن هذه المرة ضمن تكتيك مختلف هو الهيمنة الثالثة اي:
- إحتلال ليبيا بالعملاء الليبيين
- تقليص نفقات العدوان الراسمالي الغربي
- إغتصاب ارصدة الدولة الليبية المقدرة ب 167 مليار دولار
- وتقاسم الأرض والثروة الليبية بين ضواري الإمبريالية تطبيقاً لمقولة ماركس : “تآخي اللصوص”.
إن غزو ليبيا هو تطبيق لنفس قانون الانسحاب والغزو على الصعيد العالمي. نعم، في هذا السياق يجب أن نرى الغزو الراسمالي ل ليبيا.
واستفادة من مأزق العراق، فقد كثَّف الأطلسي ولا زال عدوانه الجوي على ليبيا وزود العملاء بالأسلحة على الأرض حتى باضخم من قدرتهم على استخدامها كي يقضي على احتمالات نشوء مقاومة في ليبيا تكرر ورطتهم في العراق.
استهداف الأمة العربية
لا حاجة لإثبات أن الناتو هو الذي احتل ليبيا. فلا حاجة لمزيد من الشواهد على أحداث تعلن عن نفسها. هي ثورة وثوار الناتو المضادة. وعليه، فالأهم اليوم هو: تثبيت قضيتين:
الأولى: أن الغرب الرأسمالي ما زال وسيبقى يستهدف استراتيجيا الأمة العربية، ويمر هذا الاستهداف أحيانا بمنعرجات تخفي مقاصده ويغلفها بخطاب مخفي كذلك. أما استهداف كل المسلمين، فأمر أقرب إلى التخريف. هل يستهدف الغرب الراسمالي الوهابية السعودية؟
والثانية: الشغل لبناء حركة عروبية وحدوية اشتراكية للعرب وغير العرب ما خلا الصهانية، حركة ما فوق قطرية، وخلال هذا ايضاً يمر هذا الطرح بلحظات يقف فيها مع الأنظمة غير الخائنة والتي تحاول الدفاع عن أقطارها، وليس للتوقف هناك من جانبنا بل لمواصلة الشغل القومي الوحدوي.
أما ونحن في الحالة الليبية، فقد بدأت اليوم المقاومة الليبية لتنضم إلى كوكبة المُستقبل العربي مجسدة في أن:
- وطناً تحت الاستهداف يشترط
- أن الحياة مقاومة
وهذا المناخ الذي يراه البعض اسوداً هو مناخ يختزن ضوءاً لا حدود له. فهو يفرز ما هو أعلى من نظام العقيد القذافي، إنه توسيع وتعميق الوعي العربي بالمقاومة. وأعلى من ممانعة النظام السوري.
لا نخجل قط في تفضيل هذين النظامين على التوابع الذين عاشوا ويعيشون في أكناف الراسمالية العالمية الدموية. ولا نخشى من دفعهما إلى الأمام، طالما يُدافعان عن الوطن، كي يلحقا بأطروحتنا المتركزة في خلق مستقبل عربي للطبقات الشعبية، مستقبل اشتراكي وحدوي. وكلما اشتدت الحرب كلما توفر لنا مناخ جديد نمى وتصالب وعيه بالمراس الميداني والفكري.
وستبدي الأيام، والأيام هي اجزاء بل مكونات التاريخ، إن المقاومة الليبية أفضل وأجدى للطبقات الشعبية العربية من النظام الوطني الرسمي في ليبيا. وكما أكدنا في أطروحتنا “التنمية بالحماية الشعبية” على وجوب شد الأنظمة الوطنية إما إلى الانزياح او تطويع نفسها للحاق بالتنمية بالحماية الشعبية، نؤكد الآن أن على الأنظمة الوطنية اللحاق “بالمقاومة بالحماية الشعبية”.
هذا المسلك الصعب لن يفهمه الكثيرون من المثقفين/ات الذين تعودوا التلطي بالأنظمة حتى الوطنية منها، فما بالك بمثقفين/ات يعتاشون على فلوس أنظمة الغرب الراسمالي او الأنجزة أو المنح الأكاديمية التي تُعطى لهم مقابل تحولهم لمخبرين، أو أعضاء كنيست علقوا عضويتهم، أو عرب يعيشون في الكيبوتسات، أو أكاديميين يخدمون في جيوش “خزانات الفكر Think Tank. ومع تفجر الأزمة في سوريا وفي ليبيا، تماماً كما حصل حين اغتصاب العراق، هرول مثقفو التبعية بانواعها لاستقبال الغزاة! هل هذا صدفة ام أن هؤلاء كانوا مخترقين ومرتبطين منذ عقود؟
التجربة الليبية محكَّ اشد واوضح من التجربة السورية، تحديد المواقف فيها اسهل، بل إن تحديد المواقف منها ضرورة أرغمت المتخفين وراء خطاب شكلاني على إبراز خطابهم المخفي، والخطاب ليس مجرد لغة، إنه أرضية فكرية سياسية لمشروع مادي. وهذا يطرح سؤالاً هاماً:
حين يشتد الخطبُ على الوطن، ويصطف التوابع (العلنيون والسريون) بوضوح ضد الوطن، هل نخجل من موقفنا!
حين يأتي راس المال بالتكنولوجيا والحديد للذبح والنهب، وحين يفتح له توابعه ابواب القدس ومكة وبغداد دمشق وطرابلس، هل تسمح اللحظة بالصمت او الحياد؟
الاشتباك هو موقف المثقف النقدي المشتبك. هو المشتبك مع العالميات العدوة الثلاثة. وهذا قد يثير كثرة من البسطاء والطيبين الذين لا يقرأون الخطاب المخفي في السياسة والإيديولوجيا. ولا يعوزهم سوى بعض الصبر والتعمُّق. إن التركيز على مخفيات الخطاب أمر اساسي للتاسيس والتأصيل لمستقبل جديد لأمة موحدة.
لقد حللت مواقف هذه العالميات في كتابي “دفاعاً عن دولة الوحدة وتفكيك الدولة القطرية”، وها هي أحداث ليبيا تعيد وجوب التأكيد على موقف هذه ربما لسبب فريد، وهي انكشاف الخطاب المخفي أو قرب انكشافه، فلا أقل من أن نقاوم هؤلاء!
ليست العواصف التي يمر بها الوطن العربي اليوم عواصف متولدة من الخارج فقط كما كان في كثير من الأوقات، بل متولدة كذلك من روح عروبية نهضوية، لذا، ننتقل من الإملاء والخنوع إلى المقاومة، وهذه لحظة فارقة. هي قاطرة تاريخنا الجديد، صراع مفتوح ومتعدد. صحيح أن هناك ضحايا بالملايين بدءا من العراق والصومال وسوريا وليبيا ومصر واليمن ولا توقف. ولكن الوطن العربي باستثناء الجزائر وجنوب اليمن لم يشهد تضحيات تحريرية في المستوى المطلوب. هذا وكأن التاريخ يقول لنا، لقد اختزنتم دماء كان يجب أن تُبذل كي تتحرروا.
إن ما يقوم به الغرب الراسمالي هي حرب على الأمة العربية وهي حرب طبقية في جوهرها بامتياز وإن بدت محض قومية، يخدمها إلى جانب عدوانية راس المال هذان حرب تقودها مصالح الشركات الكبرى (شركات ضد شعوب)، نعم يخدمها تخاذلان:
- تخاذل طبقات تابعة ومتخارجة ومستفيدة من علاقتها التحالفية بعمق مع الإمبريالية، آخر طبعاتها “ثوار الناتو” ومن يباركونهم.
- وتخاذل المجتمع المدني الغربي الذي يتعّيَش على ما يُنهب من أمتنا خاصة.
في خضم هذه الحرب والفوضى متعددة الرؤوس التي صاحبتها يتم زج خطاب خبيث وخطير جوهره قيام أفيون الشعوب (الإعلام) بصياغة أكاذيب طبقا لمصالحه هنا أو هناك مما يقود إلى تضليل هائل للكثيرين، بينما العدو في مركزه في الغرب الرأسمالي لا يضيع البوصلة والتي يوجهها دوماً إلى قطع اي تماسك وحدوي عربي بل زيادة التفكيك والتجزئة وخلق الكيانات الهشة. هذا بيت القصيد.
وإذا كانت التطورات والثورات والحراك واستشراس الثورة المضادة في الوطن العربي تؤكد أن هذا الوطن لن يبقى كما كان، فلا سلفية في التاريخ، فإن تطورات النظام العالمي، وبتاثير كبير لما يجري في الوطن العربي لن يبقى كما كان ايضاً.