عادل سمارة
ليس غريباً، لا بل ضرورياً، هذا الانقسام العربي تجاه ليبيا إلى فريقين، فهو الانشقاق بين:
- فريق ارتبط بالاستعمار واستدعاه لاحتلال الوطن، يسانده كثيرون يرون الاستعمار هو الوضع الطبيعي للعرب مأخوذون باستدخال الهزيمة إلى حد اللاوطنية، وحتى لو قاوموا في لحظة ما، فاستدخال الهزيمة كإيديولوجيا يشدهم في النهاية.
- وفريق يدافع عن الوطن إلى جانب أنظمة وطنية ديكتاتورية. وهو الفريق الذي لا بد من تجاوز موقفه لما هو أبعد وأعمق واعلى. هذا الفريق على وطنيته ليس الخيار العروبي.
لعل الانقسام درس في منتهى العمق والعبرة. فتأييد الغزاة الراسماليين الذين اعتادوا ولا يخفون أنهم جاءوا من أجل النهب هو إعادة ميدانية لخطاب العنصرية الراسمالية البيضاء بأن الشرق كتيم لا يتغير إلا بعامل خارجي يقتحم “سكونه المفترض” ويولج فيه الروح نيابة عن الله. وهذا يفرض تساؤلاً كبيراً في موقف كل من أيد ما يسمى المجلس الانتقالي الليبي بما هو نخبة من العملاء تستخدم جمهوراً من البسطاء حتى الغوغائية وكله تحت مسمى الثورة. وقد لا تبخل علينا الأيام لتكشف أن كثيراً ممن ايدوا وهنأوا مجلس التوابع والعملاء في ليبيا، أن هؤلاء ربما ارسلوا كوادرهم لتثقيف وتدريب ثوار الناتو. فلا يمكننا تناسي القاعدة الأساسية في تاريخ علاقة الغرب الراسمالي بالوطن العربي، وإن بقيت خطاباً مخفياً، قاعدة تحالف في قمة “العالميات” بقيادة عالمية راس المال. يقوم تحالف عالمية الإسلام السياسي وعالمية اليسار المتغربن مع عالمية راس المال على الحلم بالسلطة بما هي مدخلاً للثروة ورغبة التوسع والتعبئة السياسية بالحقد على الأمة العربية، من مراجع ومرجعيات قوميات قديمة تتلحف بالدين. هذا شأن ومرجعيات يسارية ليست أممية وإنما تعيش تحت عباءة الإمبريالية عبر وساطة اليسار الأبيض. يعلم ويقبل هؤلاء العرب بالجلوس على الأرض المحيطة بطاولة “اقتصاد التساقط” بحيث:
- يتحكم الغرب الراسمالي بالوطن الليبي بكل ما فيه، وطن مُهدىً للعدو. حتى لو استغبى الأمة من يحذر الليبيين من العدوان الأميركي المتوقع! كل هذا وهو متوقعاً!!!
- ويعطي هؤلاء سلطة شكلية وبعض فتات المال كما هي حال خليج النفط. هو الغرب نفسه الذي تستدعيه قوى كثيرة في الصومال مثلاً لاستعمارها ولا يذهب، فليس هناك ما يُنهب!
أما التصدي للغزاة فيشكل مختبر تدريب مقاوم لما هو حاصل ولما سيأتي، إنه مختبر تصنيع قوى الدفاع عن الوطن. هي الحرب المركَّبة أهلية ووطنية/قومية بمعناها الأصيل، دفاع شعبي، شريطة ان يكون واعياً، ضد نخب ترتبط بالغزاة واللصوص الدوليين.
قد نوجز حال ليبيا على النحو التالي:
إنه الصراع بين نظام ألغى المواطنة، أو عجز عن تحقيقها وتكريسها في المجتمع، وأنفق الثروة الوطنية في سبيلين:
- سبيل بناء ليبيا بلا فقر وبلا مديونية وبلا تبعية اقتصادية
- وسبيل التفريط النسبي بالثروة سواء:
- في مشاريع تسليحية لا تحملها بنية البلد
- أو الإنفاق على إفريقيا سلباً برشوة بعض أنظمتها أو إيجاباً بمحاولة إقامة صندوق نقد إفريقي. (واليوم يقف قادة إفريقيا أمام فرز تبعيتهم للغرب أم لا. أمام اختبار واختيار صعبين حول الاعتراف بمجلس العملاء وتشريع احتلال ليبيا ونهب أرصدتها وترك بقايا للنخبة المتعاونة هذه. وفي الحقيقة لا نعتقد أن أكثرهم سوف يصمد حتى لو رغب رغم أنهم متماسكين حتى اللحظة، مقابل أنظمة عربية تشارك الغرب احتلال ليبيا كما فعلت في العراق.
صراع بين هذا النظام، وبين فريق منشق قرر التفريط بالوطن مقابل تفريط نظام القذافي، التفريط بحرية الوطن مقابل قمع المواطن، لكي يصل هؤلاء إلى السلطة تحت عباءة الاستعمار ليأخذ حلف الناتو بيدهم ضد نظام العقيد القذافي[1].
من الذي لا وطن له؟
هل حقاً قصد ماركس ان “لا وطن للعمال”؟ أم كان يعني وجوب النضال العمالي في كل مكان وليس في وطنهم الأم فقط كي يرثوا الأرض كلها لأن العالم وطنهم هم. هناك قراءات كثيرة لهذا القول. منها قراءة الشيوعية المتصهينة في الوطن العربي، التي اختبأت وراء هذا الخطاب الواضح والثوري لتنشىء خطاباً حزبياً مخفياً وخطيراً هو الاعتراف بالكيان الصهيوني ومنحه فلسطين، وإن لم يشبع فأكثر. ثم جاءت البرجوازية الكمبرادورية العربية لتكرس هذا الإعتراف رسمياً وحكوماتياً سواء علانية كمصر والأردن وسلطة اوسلو-ستان أو لا مباشرة حال السعودية وقطر والإمارات وكل الخليج المتآكل بالنفط.
هناك قراءات عديدة لمقولة ماركس هذه. قراءات في الفلسفة وفي السياسة بشكل خاص. منها قراءة ميخائيل أدورنو المحفوز بروح اليهودية الصهيونية الذي يرى ان فكرة “المنزل ـ الوطن” قد تلاشت في القرن العشرين. ما أخطر هذه المابعدية في عصر العولمة وتغوُّل راس المال ليحتل كل الكوكب وما اقربها إلى المقولة الإمبريالية، مقولة المركز: “أن العالم اصبح قرية واحدة”! هل حقاً لا حاجة ولا معنى للوطن! وسواء قصد أدورنو متابعة خط ماركس في الأمر، أم توظيف ذلك لمصلحة الصهيونية في اغتصاب فلسطين بحيث يقزِّم مسألة الوطن في نظر العرب والفلسطينيين، فإن قراءات عربية لموقفه هذا ورَّطت مفكر مثل إدوارد سعيد في الوعظ بقبول الكيان الصهيوني في فلسطين على أرض فلسطين. أما عالم القرن العشرين واقعياً، فلم يقدم ما يؤكد مقولة أدورنو، بل يقدم يومياً ما ينسفها ويجعل منها حصان طروادة ليتحكم المركز بكل اوطان الأمم الفقيرة عبر أكذوبة العالم قرية واحدة، التي هي جوهرياً مساحة مفتوحة للمركز في نهب المحيط.
إن تحطيم مفهوم الوطن هو مشروع خبيث لتحويل الوطن إلى مكان يتركه المرء غير آسف، وهذا موقف كل عربي يعترف بالكيان، ويدعم إعادة استعمار ليبيا، ويهاجم الاحتلال الأميركي للعراق ولكن يؤيد نظام الحكم العميل تحت حراب الولايات المتحدة! يا لها من تناقضات تصل حد الفظائع! إن تحويل الوطن إلى مكان هو الذي أجاز تابيد اللجوء الفلسطيني، وهو الذي يبرر الاحتلال الايراني للأهواز، والهيمنة الإيرانية على العراق الذي بنظرهم مكانً والاحتلال التركي لأجزاء من سوريا، واليوم احتلال ليبيا. ولكن، لماذا يريدون للوطن العربي وحده ان يصبح مكاناً فقط؟
وإذا كانت قراءة إدوارد سعيد فلسفية لأطروحة أدورنو وهو ما ينم عن فشل سعيد في قراءة السياسة على ضوء الفلسفة، فإن كثيراً من العرب قد قرأوا، أو لم يقرأوا، مقولة ماركس هذه ليأولوها إلى ما يبرر الخيانة، أن:”لا وطن للعملاء”. لا شيء يستحق الإخلاص له والدفاع عنه. وهو ما جعل استدعاء الاستعمار أمراً طبيعياً في العراق واليوم في ليبيا، وكان اساساً في فلسطين..
إن أخطر ما مر على الأمة العربية هو ذلك التنازل عن الأرض على مدار القرن العشرين وامتداده لبدايات هذا القرن. لقد وصل الأمر إلى حفاظ كل الأمم على أوطانها، ومطالبتها للعرب بالتخلي عن وطنهم؟ وكانهم يقولون لنا، أن لا وطن للعملاء. لا بل أبعد، اي لا وطن للبدو. هل هي تلك النظرة إلى العرب بأنهم شعب مرتحل على مدار التاريخ؟
إن الحيلولة دون استرجاع الدولة المركزية العربية، ومن ثم تفكيك حتى الدولة القُطرية العربية هو إصرار من المركز الراسمالي على أن: لا دولة في الأرض العربية. وهنا يتراكب مجدداً مع موقف إسلاميين يدعون إلى أمة إسلامية ضد الأمة العربية وموقف كوزموبوليتانيين شيوعيين يقفزون عن الحقبة القومية إلى سراب أممي لا يقوم دون ارضية الأمة والقومية.
إن إحدى مقومات أن:”لا وطن وبالتالي لا دولة للعرب” هو الوضع الريعي لكيانات الخليج النفطية. فالأنظمة هناك مدرسة خبيرة في استخدام الدين لنفي الوطنية والقومية. أنه التثقيف بأن الحياة هي الدين الذي تصوغ طقوسه السلطة السياسية المحلية والمؤسسة الدينية وهي طقوس تربط الناس بالسماء وتبعدهم عن الأرض. وهو ما جعل امتلاك الغرب لأرض الجزيرة والخليج أمراً طبيعياً وعادياً لا يستفز سوى قلة واعية تتم إبادتها أولا بأول. لعل أفضل الشواهد انتفاضة ناصر بن سعيد وجيهمان. هذه حالة أن لا وطن للرَيْع. بل إن النفط، كما يجادل كثير من الناس العاديين في الخليج: “النفط لمن اكتشفه”!
إذن لا وطن للعرب، أو وطن العرب ليس للعرب، أو استبدال نظام الوطنية اللاديمقراطية واللامواطنة بسلطة اللاوطن. هذا هو جوهر المشروع الذي بدأ في فلسطين المحتلة ومن ثم العراق واليوم ليبيا وغداً سوريا واليمن…الخ. إن التفريط بالوطن هو في حده الأدنى تسليم أداة الإنتاج للمستعمِر، ومن ثم العيش العبودي طبقياً في كنفه وليس في وطنه، اي انقسام الأمة إلى طبقتين:
- نخبة عميلة تحكم نيابة عن الاستعمار وليس عن الشعب.
- وأكثرية شعبية تعيش حياة القطعان.
وحده التفريط بأداة الإنتاج هو الذي يُفضي إلى عدم التوجه الإنتاجي ويقضي على اية محاولات إنتاجية وتنموية، وهو الذي يكرِّس اللاوطنية، ويجعل استدعاء الاستعمار أمراً عادياً بل حتى إنجازاً.
يفتح هذا النقاش على أمر آخر مفاده: ألهذا السبب دأبت انظمة النفط والوهابية على احتجاز ذاتي للتطور وعلى احتجاز التبادل البيني العربي؟ ألهذا السبب وضعت الجزيرة والخليج كقاعدة انطلاق أمريكي أطلسي لتدمير مصر الناصرية والعراق واليوم ليبيا وسوريا؟
يتضمن خُلو أي بلد من الأرضية الإنتاجية والتوجه التنموي تركيز روح فردية يكون فيها الفرد فرداً في قطيع وليس في بنية عضوية. هذا شأن الفردية في مجتمعات غير منتجة، وهذا ما يختلف عن الفردية في المجتمع المترسمل حيث الفرد جزء من مجموع، له حريته الفردية الواضحة، ولكن هذه الحرية لا تصل حد اللاوطنية.
[1] يمثل هؤلاء ومن ايدوهم ودعموهم وهنأوهم ما كتبه ماركس عن حكومة تاليران في فرنسا في كتابه 18 برومير أن المة كالمرأة، لا يُغتفر لها إيقاع أول شخص بها،…. وما قالته سيدة لأحد أمراء/لصوص النفط العرب حين ضاجع غيرها: “طال عمرك/ ما زلت غضة”!