رقص تركي على حبال المنطقة… والنتيجة؟

العميد الدكتور امين محمد حطيط

يكاد الكثير من المراقبين والباحثين في سياسات دول المنطقة واستراتيجاتها يحارون في تصنيف الدولة التركية وتحديد موقعها الصحيح على هذا المسرح الاستراتيجي المشرقي مع اربطه بالمسرح الاوسع دوليا. فتركيا – حزب العدالة او التنمية برعت في السنوات الخمس الاخيرة في اطلاق المواقف المتناقضة في والزمان والمجلس ذاته. تلغي مناورات مع الناتو لان اسرائيل ستشارك فيها ثم تنفذ وفي الاسبوع نفسه مناورات مع اسرائيل وتشترط حجبها عن الاعلام، ترفض التدخل العسكري في ليبيا من اي جهة جاءت ثم تشارك بصيغة او باخرى في خطة الناتو العسكرية التي اودت بنظام معمر القذافي، تغضب لاهانة سفيرها في اسرائيل ثم ترفض التعامل بالمثل او اتخاذ موقف يؤلم الدبلوماسية الاسرائيلية، وقبل ذلك تعلن وتشهر استراتيجتها القائمة على قاعدة “صفر مشاكل” ثم تتوجه الى الميدان بعد “التصفير” الى انتاج مشاكل جديدة مع احياء ذاكرة الاخرين بما كان من مشاكل معها ما يمكن من القول بان ادعائها ب “صفر مشاكل” انقلب الى “صفر ثقة” تؤدي الى شل علاقاتها بدول المنطقة ومكوناتها السياسية والاثنية وتجميدها خلافا لمقتضيات استراتيجية الانخراط في المنطقة والاقتران الاستراتيجي بدولها مع ما يفرضه من نسف المشاكل القائمة وبناء الثقة الثابتة والتراكمية.

أ‌. والان وبعد المواقف التركية من سوريا واسرائيل فضلا عن ايران والقضية الفلسطنية، يبدو السؤال الملح: اين تركيا في موقعها الحقيقي؟ وهنا لا نرى الاجابة صحيحة الا بالتعمق في المواقف التركية دون الاكتفاء بالتوقف عند ظاهر الكلام وسطحية المواقف.

1) مع استراتيجتها الجديدة اظهرت تركيا اهتماما بالقضية الفلسطنية الى الحد الذي فيه ظن البعض ان فلسطين ستحرر على يد الاتراك وحدهم تقريبا وكانت المواقف الاستعراضية التركية في الاروقة الدولية او في مياه المتوسط وضفافه توحي “بانتفاضة تركية” على التاريخ التركي في العلاقة مع اسرائيل، لكن وبدون عذر مفهوم تراخت تركيا ولاشهر طويلة عن المطالبة الجدية بدماء ابنائها الذين قتلوا بيد اسرائيلية على سفينة تركيا ولم تطرد سفير او تقطع علاقات دبلوماسية او سواها، لكنها امتنعت لاحقا عن تكرار تجربة اسطول الحرية لتوحي عمليا لاسرائيل بانها استوعبت العملية التأديبية وتعد بعدم تركرارها، ثم وتعود وتطرد السفير الاسرائيلي بعد اشهر طويلة.

2) ومع استراتيجيتها الجديدة انفتحت تركيا على سوريا التي تلقفت المسعى وشرعت الابواب وتناست التاريخ وبنت للمستقبل معولة على ان تصبح تركيا عمقا استراتيجيا مضافا الى عمق اخر باتجاه الشرق في ايران، ولكن وما ان تحرك بضعة مئات من المواطنين السوريين في شوارع درعا حتى انقلب الموقف التركي ضد سوريا بحيث بدت تركيا تمارس سلوك “الاستذة” والامرة على النظام السوري كانه نظام قاصر فاقد الولاية على النفس ومنعدم السيادة، ورغم ان سوريا افرطت في محاولة استيعاب المواقف التركية حتى لا تتسرع في خسارة صديق او حليف استراتيجي محتمل تفرض الجغرافيا افضل العلاقات معه، رغم هذا استمرت تركيا في لعب دور “عدائي” ضد الدولة السورية ونظامها دور تجلى في المواقف السياسية العلنية، واحتضان ما يسمون انفسهم معارضة سورية، ثم تبني مشروع تنظيم الاخوان المسلمين الذين يسعون بدعم اميركي الى الاطاحة بالنظام السوري القائم، ولم تتورع تركيا في عملها ضد سوريا عن دعم الحركات المسلحة وتوفير الملاذ الامن لاشخاصها وعائلاتهم عبر اقامة المخيمات فضلا عن التلويح بالتدخل العسكري ضد سوريا، وهو التدخل الذي ما كان ليصرف النظر عنه الا التهديد الايراني الحازم برد فعل قاسي يشمل كل المساحة التركية وما عليها من قواعد اميركية واطلسية.

3) ومع استراتيجيتها الجديدة انفتحت تركيا على ايران الى الحد الذي اتخذتها ايران فيه “وسيطا مأمونا” في المباحاثات الدولية حول الملف النووي السلمي الذي تعمل فيه، وكانت تغالي تركيا المرة تلو المرة باظهار حرصها على الامن الايراني والعلاقات البينية مع ايران كونها دولة مشرقية جارة لها ودولة اسلامية تتقاطع مع حزب العدالة والتنمية باحترامها وعملها بالشريعة الاسلامية. لكن الموقف العملي الاخير والمتجسد بقبول تركيا نصب الدرع الصاروخي الاطلسي على اراضيها نسف كل الكلام المعسول، اذ انه في الوقت الذي رفضت فيه دول عدة في اوروبا الشرقية منضوية في الحلف الاطلسي استقبال منظومة الرادارات العملاقة كجزء من الدرع الصاروخي ذاك، قبلت تركيا اقامة تلك المنظومة على اراضيها و لجأت الى حركة مسرحية تثير بها دخانا سياسيا تعو عليه لحجب هذا القرار الاستراتيجي البلغ الاهمية والخطورة على امن المنطقة وطبيعة النزاعات العسكرية المستقبيلية حولها. اذ انه من المضحك والمثير للسخرية ان تحاول تركيا اقامة التوزان بين قرار تكتيكي مرحلي يمكن العودة عنه في اي لحظة و يتمثل بطرد السفير الاسرائيلي من انقرة (ونعتقد انه سيعود في مهلة لن تتجاوز الاشهر الى السنة) وبين قرار استراتيجي يتمثل في نصب الدرع الصاروخي ضد كل من روسيا وايران و سوريا لحماية اسرائيل والمصالح الغربية. وتعلم تركيا ان الدرع الصاروخي هذا عندما يكتمل تفعليه سيشكل دافعا للغرب لمهاجمة ايران بعد ان يطمئن للمنظومة الدفاعية التي تحميه من الصواريخ الايرانية.

ب‌. بعد كل هذا نسال ما هي حقيقة تركيا ومواقفها واهدافها، وهنا نرى الاجابة سهلة انطلاقا من المواقف والسلوك العملي بعيدا عن الخداع والاستعراض الكلامي ويمكننا القول:

1) ان تركيا عضو اساس فاعل في الحلف الاطلسي (الناتو) ينفذ ما يقرره الحلف بقناعة تامة وليس نتيجة قرار الاكثرية وانصياع الاقلية لان نظام الحلف قائم على مبدأ القرار بالاجماع، ما يعني انه يكفي الرفض التركي حتى يمتنع صدور اي قرار.

2) ان تركيا الاطلسية وافقت على كل ما طلب ويطلب منها في اطار الحلف الاطلسي بما في ذلك المفهوم الاستراتجي العام للحلف والمعتد لعقد من الزمن يبدأ ب 2010، مع العلم بان هذا المفهوم يعتمد استراتيجية التدخل في الشرق الاوسط بالقوة الناعمة التي تتضمن انتاج الازمات والفتن الداخلية لبلدانه المعارضة للسياسة الغربية، وصولا الى تغيير الانظمة، او تجميدها او حملها على الانكفاء الى الداخل بعيدا عن قضايا المنطقة وهمومها. وبالتالي تلعب تركيا في هذا المجال دور طليعة او راس القوى المتدخلة و بهذا يفهم دورها في جسر الشغور وتلويحها بالحاقه بالتدخل العسكري الكامل في سوريا.

3) ان سياسية تركيا تجاه اسرائيل مهما تقلبت تبقى محكومة بسقف التحالف الاستراتيجي الذي تقوده اميركا، وان الصراخ والتهديد والمد والجزر في العلاقة لا يعدو كونه تقلب في علاقات الافراد في البيت والعائلة الواحدة المتماسكة. وبهذا نفهم طرد السفير الاسرائيلي من انقره على اساس انه “سورة غضب مزيفة” تخفي مناورة للتغطية على حقائق يراد حجبها.

4) ان تركيا ذات طموح اكيد بان تسيطر على المنطقة متكئة على فئات محلية سبق لها ان تحالفت مع الغرب واعادت تحالفها اليوم معه، وبهذا يفهم احتضانها للاخوان المسلمين الذين ستتخذهم اداتها في السيطرة، ولتكون هي يد الغرب في الامساك بالمنطقة.

وبعد هذا نعود الى السؤال: هل ستنجح تركيا في مهمتها الاطلسية؟

قبل الاجابة نسجل بان تركيا استطاعت ان تحدث خرقا كبيرا في العامين الماضيين لكن افتضاح امرها في سوريا، وعجز الغرب عن الاطاحة بالنظام السوري سيرتد على تركيا خسائر استراتيجية وفق ما تتوقع واكثر مما تحتمل وستجد تركيا نفسها انها لم تكن لاعبا محترفا على حبال السياسة الشرق اوسطية، وبالمقابل ستبقى قافلة منظومة المقاومة التي جاءت تركيا لتقطع الطريق عليها ستبقى مستمرة في مسيرتها لتمنع المشروع الغربي الذي تعتبر تركيا احدى ادواته، لتمنعه من تحقيق اهدافه ضد مصالح شعوب المنطقة.

:::::

نشرت في “البناء” اللبنانية، بتاريخ 992011