حنظلة
اللعنة على الكتابة! إنها مصيدة الجميع سواء كان دافعها إدمان الالتزام والوعي، أو إدمان الذات الفردية وارتزاق المرأة بنهديها، والرجل بسقوطه. وإدمان النوع الأول، في وثائق التجربة البشرية، سببه خيار الالتزام بالمعنى، في حادثة الوجود، واحترام الهوية الإنسانية للبشر. والنوع الثاني هو خيار العيش في همجية الذات المتمدنة، وانحراف الحيوية البشرية نحو الحيوانية. الأول يمثل حركة الإنسان في التطور، وحركة صعود الذات الاجتماعية، عن طريق الأداء الاجتماعي الملتزم. والثاني يمثل حركة السقوط المتكررة على فرشة السيرك، ليحقق الصعود الفردي، المتمثل في امتهان الذات، سعيا وراء نجومية القرد المدرب، ولذة الثراء الفاحش. إذن هما في النهاية حركتان اجتماعيتان، تختلفان في الآليات والأهداف. ولكن هذا الاختلاف بالذات، هو الفرق الوحيد بين الإنسان والإنسان القرد. هذا يعلو اجتماعيا بوعيه وحركته الصاعدة وأدائه الملتزم، وذاك يعلو اجتماعيا بالتخلي عن شرفة الالتزام والشرف الإنساني المتعبة , ليجلس على خازوق التبعية المريح للآخر.
هذان الكائنان العالميان لا يستطيعان العيش سوية في عالم واحد. يجب أن يستمرا في الصراع يتبادلان مواقع الجدل حتى تستقر السيادة لأولهما على حق الوجود، أو لثانيهما على حق العيش المرفه. وضعيتان تمثلان تحالف البشر والحرية والقيمة الإنسانية من ناحية، مقابل تحالف الشرطي واللص والكاهن من الناحية الأخرى. وبمعنى يليق بموضوع المرحلة،تحالف البشر مع إنسانيتهم ضد العولمة الغربية الصهيونية، مقابل تحالف الإنسان القرد مع أمريكا والغرب والصهيونية، ضد إشكال الحرية…. العدو الجدلي للشرطي واللص والكاهن. ولا يحاول أحد ممن لم يتخذوا قرارا بعد إلى من ينضمون، أن يخدع نفسه بوجود معادلات بينية ضمن هذه المعادلة. قد يكون هناك درجات لونية في كل جانب من الجانبين، سيتكفل بحلها جدل الوعي الاجتماعي في الجانب الأول، وجدل صراعات المصالح الفردية في الجانب الآخر، ولكن الجوهر هو اتجاه الوعي لكليهما. وعي ضرورة القيمة في الحياة لدى الإنسان، ووعي ضرورة التخلص من القيم لدى الإنسان القرد. ويتمثل هذا في مستنقع المرحلة الحالية، بوعي الشعوب لحتمية التحرر من الاستبداد من ناحية، ووعي الغرب لأهمية الاستبداد، في استمرار فوقيته في جميع المجالات. ولكن ما الجديد في هذا ؟ إنها حكاية التاريخ المتدحرجة. ولا جديد جوهريا. إنها ذات الغولة التي كانت تختطف الأطفال عن مائدة العشاء عبر كل العصور لتقدمهم عشاء لأطفالها. الجديد أن الغولة التي بلغت عنفوان قوتها في هذا العصر، أصبحت تسمى الليبرالية الحديثة، بعد أن كانت تتزيا وتتسمى بأسماء أكثر مباشرة وسهولة، وأنها، هذه المرة، قررت غزو خزائن الدنيا دفعة واحدة، بدل غزو الموائد المفردة. ومن أجل ذلك قررت إجراء بعض التعديلات على وعي الكينونة البشرية، بحيث يقوم الناس بتقديم أطفالهم للغولة وأولادها طوعا من خلال نظام عالمي للعبودية البناءة، يقوم على الديموقراطية النسبية، أسمه العولمة. هذا كل ما في الأمر، وما تبقى هو مجرد شيطنات عملية تخدم الهدف ولا تغير الجوهر. نظام مركزي واحد للاستبداد الغربي والصهيوني، أي للغولة التاريخية ذاتها، تحت اسم الليبرالية الحديثة. و ” الحديثة ” هنا تؤدي دورا إيهاميا يشبه مسلة حتشبسوت، أيضا مع بعض التعديلات الإيحائية، لزوم التغرير بستين في المئة من الشباب في العالم الذين التصقوا كالناموس بشبكة الإعلام الجنسي والسيكيولوجي العنكبوتية التي تعيد الآن صياغة البشر.
والذي يحمل سلاح الثورة اليوم، ويسيطر على الساحات هو الإنسان القرد. أي الليبراليون والكهنة. لقد استطاع هذان الحليفان الأزليان وسيدهم الصهيونية العالمية، تخريب وعي مئات ملايين البشر الذين تحولوا من وعي الثورة إلى وعي الإصلاح الديموقراطي، أي عولمة الاستبداد بالديموقراطية النسبية.
الليبرالية الحديثة، كرؤية عملية خالصة، هي فلسفة عدمية، حولت القيم الإنسانية إلى مسخرة فكرية مثيرة للاستهجان، وقام الكهنة بتدمير السوية العقلية للوعي، وصاغت الصهيونية عقل الكهانة الجديد للاستبداد العالمي، كما صاغت عقل الكهانة القديم له. وشكل هؤلاء معا قوة العصر الاستثنائي الجديد لطفرة التكنولوجيا الحديثة، وكونوا بفوائض الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافة التلقينية الخاصة،آليات لي الذراع لمعظم مجتمعات البشر والأفراد. وكان أكثر هذه الآليات مباشرة في التأثير ولي الأذرع، بعد الضغط بالمجاعات،هو إيقاظ سيكيولوجيات الوعي الدفينة، لدى جماعات الوعي السطحي التي تشكل الكثرة، لتحويلها بالتلقين إلى قطعان من البشر القرود، يمدون سوق الجريمة الغربية بالفتن الطائفية،والعصبيات، في مجالات السياسة والثقافة الفكر والإعلام والتناحر الدموي. هؤلاء الشبيحة الذين يشكلون بأعدادهم الهائلة، شبكة يغطي تأثيرها كل مناحي الحياة، هم الأذرع المحلية لجيش ” الخلاص ” الليبرالي، الممتدة في كل شوارع وأزقة الحياة الاجتماعية للشعوب.
وجيش الشبيحة الكوني هذا، في أخفض مستوياته، عمال مياومة يأتي بهم متعهدون محليون،” لتعمير” المظاهرات بالضجيج والعدد، وإجبار السابلة بالرذالة على المشي في المظاهرات، ونشر الشائعات، وكومبارس لشبيحة الإعلام. وهم يستحضرون، بطبيعة المهام، من عالم الحثالة السفلي، الذي كونته البطالة والمخدرات والغربة عن الحياة العامة.
وفي أعلى مستوياته هو ملوك ورؤساء وأمراء وأميرات ووزراء وسفراء، يؤدون مهام إعلامية عن طريق التصريحات الملغمة، ويهيؤون الأجواء للجريمة العالمية في بلادهم وبين شعوبهم. هؤلاء جميعا وبدون استثناء، مرتبطون وظيفيا، بعضوية المصلحة والسلامة الشخصية والسيادية، بأجهزة مخابرات الدول الغربية والصهيونية، ارتباطا حميما وذليلا حتى فقدان الحواس.
والعمود الفقري عددا وتأثيرا لجيش الخلاص، هم من الطبقة الوسطى بكل تمظهراتها الإجتماعية. وهم شبيحة الإعلام والفكر والثقافة والفن والدين. وهؤلاء شبيحة نظاميون ومنظمون في شبكات للتعاقد، يديرها جواسيس محترفون، داخل مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، والسفارات، وأوكار الثقافة والأكاديميا الليبرالية، وأسواق الاقتصاد السوداء. وفي الغالب هم ضحايا سيكيولوجيون لطبقتهم ممن يعانون من إحباطات السيرة الذاتية الشخصية أو الأسرية للطبقة المتوسطة، أو من عقد النقص، أو الجنس، أو الشبق المرضي، الذي يوليه الإعلام الليبرالي أهمية خاصة، لدى شبيحات الفضائيات الإعلامية، ولدى شبيحات الفيسبوك الموجهه للعالم الثالث. ولكن يبقى أن هؤلاء هم الأخطر لاتساع التأثير الشعبوي والنخبوي على أهم مواقع الوعي العام، وهي الثقافة والفكر والإعلام. ولقد كان دور هذه النخبة للإنسان القرد، حاسما في تدمير الوعي في أوطانهم. لقد صاغتهم صناعة المسخ الكوني الليبرالي، من فئران المطابخ، ودراويش الجنس، ومجانين الإثراء السهل، والفقهاء، والأكاديميين، ومرضى السيادة من عتاة العملاء المخضرمين، مثل عمرو موسى الذي سيخلف مبارك في مصر، وبرهان غليون الذي سيخلف الأسد في سوريا، والروبوط – ويجب النظر في ذلك جديا – مصطفى عبد الجليل. فهم يشكلون الطلائع والقيادات الميدانية المعلنة لشبيحة الإعلام والثورة، وحقوق الإنسان، والفن، والإفتاء، والأمم المتحدة، ومجلس الأمن، في كل بلدان العالم. وهم يستخدمون الآن في ساحة التبول العالمي العربية، ولكنهم لا ولن يقتصروا عليها فقط.
هذه الصورة، إن صحت لديكم، وهي صحيحة رغما عن أنوفنا جميعا، تظهر حالة الضعف التي وصل الإنسان إليها أمام الإنسان القرد. الأخير الآن هو سيد العالم، يملك أن يشبع ويجيع، ويحيي ويميت، ويحدد مصائر الأفراد والجماعات والشعوب والسيادات المحلية، وهو جالس في وكره السيادي الغربي،
بعيدا عن الحدث. يطلق العنان للشبيحة، في أي مكان على خريطة نفوذه الميداني، فيخرجون من قماقم الخفاء إلى العلن، وتبدأ الثورة. هذا هو الواقع العالمي اليوم. ولا يملك أحد إخراج الإنسان من هذا المستنقع سوى الشعوب، لأنها الوحيدة القادرة، على تدمير الشبكة العنكبوتية في لحظة وعي واحدة. فإذا استطاعت أن تدخل ساحة المبادرة الميدانية، وتطلق عنان ” شبيحتها ” التحرريين فستختفي شبيحة الإنسان القرد، وتتساقط كأرصاد السحرة وتختفي في الهواء، لأنها كائنات هلامية مسممة بعقاقير الإيهام، لا تستطيع العيش إلا في مستنقعات الخوف والجهل والتجاهل. ومن المستحيل وجود شعب خائف أو شعب جاهل أو شعب متجاهل. هؤلاء يوجدون على هيئة أفراد فقط، لأن هذه الظواهر هي أمراض فردية لا تصيب الشعوب لآن الشعوب جسد للمعنى. فإذا تحول هؤلاء الأفراد إلى شعب في مبادرة غضب جماعية للوعي مما يجري، وإذا اقتنعوا أن الخوف والتجاهل هو المشكلة وليس الخلاص، فسوف يهربون بالتلقائية، من أوهام الخوف والجهل إلى بعضهم بعضا، ليجدوا في الساحة العامة جسدهم الجماعي، الذي سيرون أنه لا يعرف الخوف ولا الجهل ولا التجاهل أبدا. هل سمع أحد عن كلب هاجم شعبا ؟ كذلك هم الشبيحة! مجرد كلاب تهاجم الأفراد.
ليس هناك مخرج من الضياع والحيرة، سوى المحاكمة الموضوعية للأمور. هل يمكن منطقيا أن تتفق مصلحة أي شعب في العالم مع مصلحة أمريكا والغرب والصهيونية ؟ وبمباشرة أكثر، هل يمكن ألا تتناقض مصلحة هؤلاء مع مصلحة أي شعب في العالم ؟ كيف ؟ هل يستطيع العقل الواعي وضع صورة ولو خيالية لمثل هذا الاحتمال ؟ فإذا لم يستطع، فهل ظل خيار سوى التسليم بالعبودية، أو الحرب الشعبية ضد شبيحة أمريكا في كل مكان في العالم ؟