عادل سمارة
فلسطين المحتلة
ملاحظة:
نعيد نشر هذه المقالة من أرشيف “كنعان” بمناسبة تنظيم مؤسسة “مواطن” لمؤتمر في رام الله المحتلة لمناقشة الثورات العربية. وجدير بالذكر ان مؤسسة “مواطن” انشأت في رام الله في فترة تدفق منظمات الانجزة NGOs على الاراضي الفلسطينية المحتلة في أعقاب اتفاقية اوسلو وكان قد أسسها، بتمويل منظمات ألمانية غير حكومية، عزمي بشارة عضو الكنيست الاسرائيلي السابق الذي غادر الاراضي المحتلة لينتهي الى حيث إنتهى: في خدمة السلفية الوهابية صنيعة المشروع الامبريالي ـ الغربي ـ الصهيوني المعادي للامة العربية.
“كنعان”
* * *
لم أشأ حضور مؤتمر مؤسسة مواطن، )إحدى كبريات وقديمات منظمات الأنجزة في الأرض المحتلة 1967) الذي عقد برام الله أواخر نوفمبر 2008، واقصد بالأنجزة التمول من الخارج. وآمل إذا كان هذا اتهاماً، أن توفر هذه المنظمة، هي وغيرها، او هي /أو غيرها، للناس تقاريرها المالية، وهو أمر قد تبدو من “السذاجة” المطالبة به في حقبة إغراق الأرض المحتلة بالمال لكي تُؤخذ بالطوفان ولا تعود ولا نعود! فلا أحد يسأل أحداً من اين يقبض، وحتى الذين سرقوا علانية وجهاراً نهاراً لم يُسألوا[1].
وليس سبب عدم الذهاب إلى هناك محصوراً في كونها منظمة أنجزة، بل كذلك، لأن لديَّ اعتقاد، يرقى عبر التحليل إلى التأكيد، بأن هناك إرثاً عدائياً لدى كثير من الأكاديميين والمثقفين المتغربنين[2] ضد النضال الوطني بطوله وعرضه، وليس فقط ضد الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، لا بل قد يكون أحد أهم أسباب تدفق التمويل إلى هذه المؤسسات هو الرغبة في أن تلعب دوراً في وقف النضال الوطني الجاد، وعلى راسه الكفاح المسلح، مما يُودي في النهاية بحق العودة، ويخلي السبيل للكيان الصهيوني الإشكنازي ليندمج اندماجاً مهيمناً في وعلى الوطن العربي. وهذا التوضيح عن هذه وغيرها ليس تعريضاً وإنما تبياناً للناس بأن هذه المنظمات وما تنفقه ليس تبرعاً من جيوب مدرائها ومؤسسيها، وإنما هي أموال من الخارج وغالباً من دول عدوة والتي لا يمكن ان تقدم هذه الأموال لوجه الله!
لدى هذه النخبة اعتقاد ثقافوي بأنها، بما هي من “حاملات” الشهادات هي الأجدر بالسلطة بما ينطوي ذلك على التحكم برقاب الناس، وتحديداً مصير الوطن فيما يخص الاعتراف بالكيان الصهيوني. لذا، فهم يكرهون القوى الوطنية لأنها انتزعت قيادة البلد، وليسوا هم، رغم ان هذه القوى لم تفلح، وعلى اية حال فإن حقد الأكاديميا والأنجزة لا يرتد إلى عدم فَلاح القوى الوطنية. هذا ناهيك أن من رفع قوى المقاومة هو فعلها، فعل مناضليها، جرحاها وشهدائها وأسراها وأسرهم بالطبع وليس ساستها الباقين أحياء من غير سوء، وكذلك عشق الناس لعملٍ ما يرد لهم بعض الكرامة طالما عزَّت إعادة الوطن. وحيث لم يلتقط المتأنجزون والأكاديميا ذلك، فهم إنما يعجزون عن السباحة في البيئة.
وأعتقد كذلك أن نخب الأكاديميا والأنجزة، وخاصة المرتبطة بالأجنبي والمتمولة منه، والمتمولة منه عبر هذه المنظمات، مرغمين على نقد الحركة الوطنية في رغبة من الممولين (المانحين) لحلول رجال ونساء الأنجزة محلها. وعلينا ان نلاحظ ما هي خطورة المعنى اللغوي لمفردة “مانحين” هي موقف عَلِِيٍّ وعُلْوِيْ ويد عليا!
وحيث لم اذهب، قرأت في صحيفة القدس النقاط الرئيسة لما تحدث به بروفيسور رشيد الخالدي، الذي قيل بأنه حاز على شَغل كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا. ويبدو ان الخالدي قد ورث نصف إدوارد سعيد، وفشل في وراثة النصف الآخر.
ما لم يرثه الخالدي هو الجانب الأدبي والثقافوي لإدوارد سعيد، والذي أختلف معه تماماً، فإدوارد سعيد يعتمد الثقافة في تفسير التاريخ، ويعتمد غرامشي الثقافي وليس غرامشي المادي الذي كان همه ليس التدليس للمجتمع السياسي بل اقتحام قلعة الدولة، ويعتمد نظريات ما بعد الاستعمار التي هي خلافية منذ مبتداها، فلا أعتقد أن هناك حقبة يمكن وصفها بِ “ما بعد الاستعمار”.
المهم في إدوارد سعيد أنه كان مبدعاً في مجاله هذا، لكنه لم يكن ثورياً في هذا المجال، فقد كان همه الرئيس تلفيق تطابق بين المستعمِر والمستعمَر، ومن هنا كان وسيطاً تسووياً بين م.ت.ف والإمبريالية الأميركية، ومن هنا كان رديفاً وداعية ل عزمي بشارة (وبشارة هو مؤسس مؤسسة مواطن هذه)، في انتخابات الكنيست الصهيوني. وفي تلفيقه المطابقاتي وجد المرحوم إدوارد سعيد نفسه حامل لواء الهجوم على القومية العربية، والكفاح المسلح، محفوزاً بإنسانية يدعو لها غيلان التوحش الإمبريالي. هذا رغم أن ميرون بنفنستي حين حاول النيل من كرامة سعيد (عيَّره بأن أهله جبناء وهربوا دون مقاومة)!! أي دون كفاح مسلَّحْ. وهجوم سعيد على القومية والكفاح المسلح يرتد إلى خوف عتيق تحت جلود أجنحة تروتسكية في الأممية الرابعة، وهي أجنحة يهودية أكثر منها شيوعية، وخوف هذه الأجنحة من الأمة العربية لأنهم يعرفون ربما قبل أن ينصحهم بذلك كارل كاوتسكي قبل قرابة قرن، بأن ضعف الاستعمار في المنطقة يعني نهاية الدولة اليهودية، وهو ما استنتجه زبجنيو بريجنسكي بعد حرب 2006، وكلا الأمرين منوطين بنهضة عربية. لذا اصر سعيد على التطابق مع اطروحات أدورنو في “لا لزوم للوطن”. ومع ذلك يظل إدوارد سعيد قدرة فكرية خلاقة، وللأسف ليس في الاتجاه الصحيح.
لكن الخالدي ورث عن إدوارد سعيد موقفه ضد الكفاح المسلَّح، كما ورد في صحيفة القدس 29-11-2008، توجيه نقده للكفاح المسلح العنف ضد المدنيين الإسرائيليين، معللاً ذلك بأنه يقوي المجتمع الإسرائيلي ونفوذ الحركة الصهيونية داخله وفي المجتمع الدولي. والدليل زيادة الاستيطان بعد الانتفاضة الثانية”.
هذا وكأن الاحتلال احتل فلسطين بالقبلات وكأنه يرمي اهل غزة اليوم بالورود، وهذا الاحتلال وصلت قنابله حتى إلى جورجيا. يبدو ان الخالدي فصَّل نفسه على مقاس متطلبات السياسة والأكاديميا الغربية. وهو يضن علينا بجزء ناصع من تراثنا. فيجب أن يكون شعبنا قطعاناً من الأنذال والمتذيلين للغرب في مختلف المستويات تحت وهم قبوله ولن يحصل. بكلمة اخرى ورث الخالدي عن سعيد “التطابق”.
لقد تابعت معظم يومي هذه المنظمة المتأنجزة بامتياز على ارضية تلفزيون وطن. وفي الحقيقة، كانت المواد ذات المعنى والعمق ضئيلة. كانت ورقة د.اسماعيل الناشف في رفض الدور (الصورة) أو الانعكاس لفعل العدو، ورقة مميزة، اتخذت حالة النقد التنظيري للواقع المقاوماتي الفلسطيني. تحمل مضمون عدم التفاعل والتقاطع أو الظلِّية لما يريده السيد الاستعماري.
لست أدري إن كان ما قصده الناشف هو وجوب كنس البنى العلنية للمؤسسة الفلسطينية التسووية التي كشفت للإحتلال كل مستور، وآمل أن يكون ذلك. فهذه مثابة ورقة مكشوفة للعدو حصلت على ترخيص العمل (ضده-هل هذا ممكن؟- منه هو نفسه!). هكذا كان اتفاق أوسلو: “قيام الدولة المركزية في تل أبيب بإعطاء تصريح عمل لحركة سياسية في كانتون من فلسطين – هي حركة م.ت.ف”. ربما لا ينطبق تعريفي هذا مع مطمح الناشف بالاختفاء، فهو قد يرمي إلى اختفاء النضال المسلح فقط. ولكن النضال الجاد لابد ان يكنس هذه البنية بالطبع ويخفيها. وقد أذهب لما هو أبعد من ذلك فاقول، إن الاختفاء درجة من المقاومة، هي المقاومة إلى أن تنتصر، والاختفاء يمكن ان يكون، بل يجب أن يكون عودة إلى الطبقات الشعبية التي تحتضن وتخفي المناضلين، وفي مستوى التنمية اسمي ذلك “التنمية بالحماية الشعبية”. اختفاء يحمل مضمون شطب سلطة الحكم الذاتي وشطب التسوية، والانطلاق في فعل من العنديات. وهنا لا تعود هناك مشكلة الاختفاء بمعنى العمل السري، بل الأساس هو المبادرة والمبادئة. إلى جانب هذا يبدوان اسماعيل الناشف على “نشافته” كان هذه المرة أخضراً، فرأى كم هي أوراق، وربما قريباً اغصان وسيقان راس المال على جفافٍ، فتقدم باتجاه التحليل المادي، مستشيراً يناعة أجداد هذا المقترب.
لو كان لي توسيع ورقة الناشف، لدفعتها باتجاه جدلية الاختفاء/والانتشار.
· الاختفاء المزدوج الفردي والتنظيمي الشعبي
· والانتشار على صعيد العمق العربي والتشابك الأممي. خاصة بعد تسونامي الأزمة المالية الذي كما يبدو يتحرك على عجلات أممية لا تبدو للعين غير الفاحصة. هنا تتصحح الصورة المختفية في المرآة الكبرى، وليس في العين السوداء للاستيطان.
وبقدر ما قارب الناشف تجليس الإشكالية في عمقها المادي، كان على الخلاف منه د. عبد الرحيم الشيخ الذي حين واجهه أحد المستمعين، بأن الثقافة لا تفسر الواقع وإنما هي صورة له، كان جوابه، : “في البدء كانت الكلمة” وفي رواية أخرى : “في البدء كان الكلم”. لا فرق. وإخال أن عبد الرحيم الشيخ على حرب مطلقة مع التحليل المادي التاريخي والاقتصاد السياسي، أو على علاقة قبول بتلاعبات الوعي لدى المحافظية الجديدة، لدرجة لم يُعط تسونامي الأزمة المالية العالمية حقه في القراءة. ولم ينظر إلى تراجعات فوكوياما التي تشبه تراجعات رئيس أركان جيش الاحتلال أمام مقاتلي حزب الله 2006.
عبد الرحيم الشيخ لم يشأ أن يرى ان الاقتصاد السياسي يثأر لنفسه منذ 24 اكتوبرالماضي. ولو قرأ الشيخ وجه جورج بوش وهو ينحو باللائمة في الأزمة المالية على جشع بعض الأفراد، (واي تفسير غبي هذا) لأدرك عبد الرحيم أن الخطاب الإيديولوجي للبرالية الجديدة ينسل منه خطاباً ضحلاً وغبياً من جورج دبليو بوش، أما الناس فيعيشون من الإنتاج ويموتون بدونه ولا يتغذون بأكل المقالات، قد يتغذون بنقود الأنجزة، ولكن ماذا يُنتجون! وهذا حال أهلنا في الوطن الذي يريد الناشف لأهله نضال الاختفاء لا صورة لفعل السيد، بينما يريد له الخالدي وهم الصورة. لكني أعتقد ان عبد الرحيم هو هكذا إلى اليمين. مرة أخرى، في ردِّه، فسر عبد الرحيم الماء بعد الجهد بالماء، وكأنه شيخ يفسر مضموناً او نصاً دينياً. أنظر الاية الكريمة: (يسالونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي). ولكي يتكىء في ما قاله، فقد اتكىء على ثلاثي فلسطيني ثقافوي بامتياز. ظنا منه أن هذا يسعفه.
إتكأ على محود درويش بما كاد يعيد الحياة إلى الأخير. لكنه قدم مقتطفات متناقضة، أقلها، وهذا لضيق المساحة هنا، الإشارة إلى مساحة الدولة: “ما اصغر الدولة”. ولم يتنبه عبد الرحيم إلى “صَغَار” الدولة، قبل صِغَرها. فالتعاطي مع الوطن بالمساحة يقوم على إيديولوجيا تقاسم الوطن مع العدو!. ولأن محموداً وبعده، على طريقه، الشيخ، لم يتنبها ل “صَغار” الدولة قرر محمود المجيىء عبر اوسلو، اي عبر موافقة العدو المحتل!
واتكأ على إدوارد سعيد كما اشرت أعلاه، واتكأ كثيراً على عزمي بشارة. وعزمي كما بات معروفاً، قرر الرحيل بدل أن يُسجن من قبل الاحتلال، إذا كان الاحتلال سوف يعتقله؟ ولن أخوض في ما أتهم به عزمي، لكن من يطرح نفسه ليس فقط كمفكر بل كقائد سياسي، ولكي لا يُحبط الحزانى الذي استظلوا بظله كان يجب أن يضحي كما، لا بل، ولو بأقل مما يضحون! أم أن للمثقف جلداً أملس[3]؟
استذكر هنا واقعتين.
الأولى: زرت ذات مرة مدينة إشبيلية، ورأيت أمام أحد قصور الصاحب بن عباد عاموداً مكتوب عليه شيئاً عن الرجل. ذلك أنه حينما كان يتوقع هجوماً من خصومه في المغرب، (الموحدون كما أعتقد)، عرض عليه فرديناند أن يحميه أو يلجأ إليه. رفض الصاحب وقال له اسر عندهم ولا ذل عندك! وكان أن أُسر وأخذ إلى المغرب.
إذا كان للتاريخ من معنى فهو في وقائعه وليس في خلق تاريخ ثقافوي، ولا في اللاتاريخ.
والثانية: أنني كنت وعزمي أصدقاء. وآخر عهدي به كان عام 1995 حين زارني في مكتب مجلة كنعان في ضاحية سمير أميس. وتحدثنا ربما ساعتين، كان معظم الحديث له، وهو متحدث ممتاز. وفي آخر دقائق حول الحديث فجأة:
قال: تعرف يا عادل، إذا هاجمني كل الناس وأنت لم تفعل، فلا يهمني
قلت: ماذا جرى لك، كيف انتقلت هكذا إلى موضوع بهذا البعد عن ما نتحدث به.
قال: أنا الآن مستعجل وسنلتقي.
لم نلتق بعدها. فبعد ايام، أحضر لي وليد سالم، وكان من كوادر الجبهة الشعبية، واليوم هو من أعلام التطبيع والأنجزة، (من مجموعة كوبنهاجن) أحضر لي ورقة قدمها عزمي في منتدى في الأردن يبرر فيها دخول انتخابات الكنيست، ويبرر انتخابات الحكم الذاتي في احتلال 1967. وعرفت انه نشرها في الحياة في لندن. حينها عرفت لماذا قال عزمي (إذا لم تهاجمني…الخ). ونشرت رداً عليه في كنعان وفي الحياة في لندن، وكان هذا آخر عهدي بعلاقتنا.
عزمي بشارة، مؤسس منظمة مواطن للأنجزة، لم يعد يخشى نقد عادل سمارة ولا جيش مثل عادل سمارة، لأنه الآن في الوطن العربي “المفكر القومي العربي” الذي ينقل الخطو خفيفاً على فضائيات العرب[4]!. ولم ير هؤلاء أن عزمي هو أولاً وأخيراً عضو كنيست وأقسم يمين الولاء للدولة الصهيونية، فهل اقسم بعد هربه يمين الولاء للأمة العربية؟
بقي أن اقول، علينا التفريق بين من ينقد قيادات المنظمات الفلسطينية لأنه يرفض التورط في مسيرة التسوية كلياً أو جزئياً، وبين من ينقدها لأنه يكره الكفاح المسلح من جانبنا ويحب العدوان المسلح من العدو.
هوامش:
[1] في ندوة تحدث فيها د. نصر عبد الكريم و د. سلام فياض وأنا نفسي في غرفة تجارة رام الله حينما كان السيد فياض وزير المالية اقترحت عليه أن يتم أخذ “زكاة” من الأموال المسروقة وإقامة صندوق تنمية من هذا المال الحرام!
[2] أكدت هذا في مقابلة مع فضائية المنار يوم 1 ديسمبر 2008.
[3] يقول عز الدين المناصرة:
إشرب واخرس
لا تتنفس
وطنك، لا تذكر وطنك،
هذا وطن الشعر الناعم والجلد الأملس
[4] قبل بضعة اشهر اتصل بي شخص اسمه معن اليشرطي.
قال انا ارتب المشاركة في برنامج الاتجاه المعاكس للسيد فيصل القاسم، ومطلوب مني دعوتك للمشاركة عن التنمية في الوطن العربي، سوف نستضيفك ونرسل لك التذكرة إلى قطر….الخ.
قلت: يا اخي ليس لي موقف تجاهك أو تجاه السيد فيصل القاسم، ولكنني لا احب الظهور على الجزيرة. تلكأ الرجل قليلاً
وقال: لماذا؟
قلت: لأن الجزيرة تستضيف الصهاينة الإسرائيليين كما تستضيف أي عربي وهذا تطبيع معلن فضائياً، قبل أسبوع كانت تسيفي ليفني عندكم وكان شمعون بيرس.
قال: هذا آخر ما عندك
قلت: نعم. وانهيت المكالمة.