مصر التي مابعد ليلة السفارة!

عبداللطيف مهنا

استوقفني ما قرأته في بيان صدرعن واحدة وعشرين حركة و تيار من القوى السياسية المصرية، تعلن فيه “مسؤوليتها الكاملة ومشاركتها مع الشهداء والمصابين والمعتقلين في اقتحام السفارة الإسرائيلية “. المستوقف فيه هو نبرته التي لا تخلو من تحد ياتي في لجة من جدل وتجاذب محتدم تعيشه الساحة السياسية المصرية بأطرافها كافة، الثورية والإنتقالية والرمادية وكوامن فلول النظام، ذلك عقب إقتحام الجماهير الغاضبة لوكر السفارة الإسرائيلية في الجيزة، وما قدمته إبانها من شهداء وجرحى ومعتقلين في المواجهة مع قوى السلطة الراهنة، التى شهرت في وجه هذه الجماهير، إلى جانب المحاكم العسكرية، سيف قانون الطوارئ سيئ الصيت وقررت تطويره بدلاً من إلغائه. في كل الأحوال لن تنتهي تداعيات هذا الحدث المصري المفصلي في المدى المنظور لأنه يوحي بإنتقال كان محتوماً بالحالة الثورية لمصر25 يناير الى بُعد جديد يلامس مجدداً الصراع العربي الصهيوني لم تكن الجريمة الإسرائيلية بحق الجنود المصريين على حدود سيناء مع فلسطين المحتلة إلا مجرد إشعال لفتيلها. كان منعطفاً وكل من هذه الأطراف ينظر إليه وإلى مداه من زاويته وموقعه. هنا بالضبط نقطة الجدل والتجاذب الذي تعيشه مصر الأن بعد ليلة الجيزة الليلاء تلك وإن أتخذت العناوين الأخرى المختلفة المتعلقة بالأولويات المغايرة. في هذه الليلة سلمت الجماهير الغاضبة باقتحامها السفارة إنذاراً شعبياً مصرياً لكل من يهمه الأمر، إبتداءً بالمجلس العسكري، والحكومة الانتقالية، وفلول النظام السابق، الذي لم يترك مكانه بعد للاحق، والاسرائيليون، وقبلهم الأمريكان، وكل الغرب ومعه امتداداته في بلاد العرب… إنذاراً لعل ما يلخصه لنا هو ما جاء لاحقاً في البيان الإعلان الذي ورد ذكره، وهذا بالضبط أهم ما استوقفني فيه، يقول المعلنون في بيانهم أن:” الشعب المصري والحركات السياسية قرروا استرداد جزءٍ من هيبة الدولة وكرامة المواطن باقتحام السفارة الإسرائيلية وطرد السفير والبعثة الديبلوماسية والإعلان أن زمن الهزيمة والانكسار قد ولى”.

إذن زمن الهزيمة و الانكسارات قد ولى وكان هذا بالضبط هو ما ترجمه عملياً غيارى مصر ليلة الجيزة الليلاء. ذهبوا لطرد السفير فهرب، والبعثة الديبلوماسية فلحقت بالهارب، أو أُلحق به تهريباً، وفق المصادر الإسرائيلية. ثمانون من طاقم سفارة عدو مصر والعرب في القاهرة غادروها بأمر من الشعب المصري، ولم يتبق منهم مختبئاً أو تحت الحراسة إلّا “ممثل قنصلي واحد وحارسان”، كما تقول صحيفة “يدعوت احرونوت”، التي تضيف أيضاً: “لقد أصبحت العلاقات الديبلوماسية بين اسرائيل ومصر تجري في واقع الأمر برعاية الإدارة الأمريكية!”

للمفارقة، الهاربون نقلوا من مطار القاهرة إلى فلسطين المحتلة، كما تقول المصادر الإسرائيلية، على متن طائرة السادات التي نقلته في رحلته المشؤومة إلى القدس المحتلة، كانت اسرائيل قد اشترتها تخليداً لرمزيتها العزيزة على قلبها باعتبارها مطيّة تلك التغريبة السلامية، التي كانت إيذاناً ببدء مسيرة إخراج مصر من الصراع العربي الصهيوني وما تلي من عقود سوداء في ظل متوالي تلكم المجزرة التي ألحقها بالإرادة السياسية العربية، وما عاشته أيامها من الانحطاط الرسمي الذي ألحق المهانة بالعرب و المصريين واوقع فادح الأذى بالقضية المركزية للأمة في فلسطين، أو ذات الحافز الذي جعل ثوار 25 يناير ممثلين في القوى الموقعة على البيان الذي نحن بصدده أن يقرروا ” استرداد جزء من هيبة الدولة و كرامة المواطن باقتحام السفارة…”

بالمقابل هناك في مصر جرت حملة لتشويه بهاء تلك الليلة المصرية المضيئة والتقليل من أهميتها، لعل خير مايرد على أصحابها، ويؤكد على ما قلنا بدايةً من أنه المنعطف الذي كل يراه من حيث موقعه وموقفه، هو رؤية الإسرائيليين للحدث وتحسسهم لبعده الاستراتيجي، الذي أشعل فتيل قلقهم وأيقظ كوامن رعبهم الوجودي المزمن، إزاء ما تحمله لهم رياح التحولات العربية طال الزمان أم قصر… في ليلة الجيزة، كان المستوى الأمني الإسرائيلي يتابع عبر كاميراته ما يجري في سفارتهم من تل أبيب، وكان تقريره، وفق مصادرهم، يقول، إن مصر “دولة ذات احتمال خطر عالي ومجال إنذار أخذ يقصر”. على أية حال هم دائماً يصنفون مصر كذلك وحتى في عهد مبارك. أما على المستوى السياسي، فقد استغاث نتنياهو بباراك أوباما، وحيث الصديق الأمريكي ينفع دائماً وقت الضيق الإسرائيلي، انتهت الاستغاثة بإنقاذ شاغلي الوكر الإسرائيلي الديبلوماسي على الوجه الذي تم، فشكر المستغيث المغيث منوهاً: “طلبت منه أن يساعد فقال، سأفعل كل ما في وسعي، وقد فعل، كانت لحظة مصيرية، نحن مدينون له بشكل خاص، هذا يشهد على الحلف الشجاع بين إسرائيل والولايات المتحدة، هذا حلف هام على نحو خاص في عهد العواصف في الشرق الأوسط”… وليس هذا فحسب، باراك بدوره استغاث ببانيتا، أما المهرج ليبرمان فبالعالم أجمع، قائلاً بلا خجل: “كفى بجنون الاضطهاد”!!!

وعودة إلى بيان الحركات والتيارات التي أعلنت مسؤوليتها الكاملة عن تلك الليلة المصرية المشرقة، هذا الذي يوحي بأن شباب ثورة 25 هم بصدد استعادتها ومصمّمون على تصويب مسارها، لأنهم طليعة شعب يدرك بفطرته إن مصر التي قرر المصريون استعادتها، إنما هى دور قومي وقيادة وريادة في أُمة عريقة مناضلة قدرها مواجهة أعدائها، وبغيره هي ليست سوى مصر التي نزلوا إلى ميدان التحرير واقتحموا السفارة الوكر لاسترداد هيبتها وكرامتها… وكبداية، يكفي أن الإسرائيليين قد وصفوا هروبهم في ليلة سفارتهم في القاهرة بأنها قد “ذكرتهم بمغادرة السفارة في طهران بعد انهيار الشاه”….