العنف والنفاق في الفلسفة والفكر السياسي والتنمية
من لا ينافق ولا يطبِّع بالسيف يُؤخذ
(الجزء الأول)
عادل سمارة
يكون الإرهاب بالسيف ويكون بالمال. ويكون التكويع بالخوف ويكون بالتطبيع، وتكون المقاومة بما تيسَّر وحتى من يقاوم بالقلم، بالسيف يُؤخذ ما لم يكن لقلمه ريشةً وسيفاً.
لعل أحد المؤشرات على تاثير وفعالية الصهيونية على الصعيد العالمي ما يتجلى في تأثيرها في النطاق الفكري والأكاديمي وخاصة في الغرب الرأسمالي بما هو مركز النظام العالمي وموئل الحداثة في هذا العصر، تأثير يأخذ شكل الضغط والإرهاب المباشر من جهة ويتوالد عنه تأثير غير مباشر أي اضطرار كتاب وأكاديميين للنفاق خوفاً على مصالحهم من جهة ثانية. هذا ناهيك عن كُتَّابٍ هم صهاينة انتماءً.
ربما يصح الحكم بأن الأكاديميين اللبراليين عامة هم مؤيدين للصهيونية بما هم المثقفين العضويين للنظام الراسمالي مقوداً بالطبقة/ات البرجوازية صاحبة المصلحة في التوسع الإمبريالي على صعيد عالمي وفي الوطن العربي تخصيصاً وهذا كافٍ لانتظامهم ضمن الأكاديميا المتصهينة بناء على موقع الصهيونية في النظام الراسمالي العالمي. وبهذا فهؤلاء الأكاديميين مثابة قوة دعم بطبيعتها للصهيونية. وحين يحيدون عن هذا قليلاً يكون دافعهم الحرص على إسرائيل كي لا تقفز لما هو أطول من قامتها، أي تجاوز مصلحة هذه الدولة من المركز أو تلك.
ليس من السهولة بمكان على أكاديمي (مفكر، مثقف…الخ) في الغرب، مضاداً للصهيونية أن يحصل على/أو يبقى في موقع مرموق أكاديمياً أو سياسياً. صحيح أن في الغرب دول مؤسسات، ولكن المؤسسات ليست مستقلة بالمطلق أو بعيدة عن تاثير اللوبي بانواعه، ففي النهاية هناك مصالح تتقاطع وبالتالي تؤخذ بالاعتبار، بكلمة أخرى، استقلال الأكاديمي، المفكر، السياسي… نسبي ضمن ما يسمى المصلحة العامة حتى لو لم يُعلن بهذا الوضوح. وهذا ما يدفع كثيرون منهم لمحايدة الصهيونية وحتى مجانبة التعرض لقضايا تنقد الصهيونية وبالتالي تحرجهم أو تحاصرهم حتى لو كانت هذه القضايا بارزة ولو كان تجنبهم لها ملحوظاً. بل إن كثيراً من هؤلاء يمالئون الصهيونية مباشرة وحتى في أحيان لا تكون الممالئة مسألة لا مفر منها.
ليست هذه الورقة قراءة مسحية للحالات التي تُبرز قوة وسيطرة الصهيونية في الفكر والثقافة والأكاديميا، بل هي تتناول عينات تمثيلية على تأثير والتأثر بالإرهاب الصهيوني في التننمية والسياسة والفلسفة…الخ. حالات مكونة ممن تجنبوا إيراد الكيان الصهيوني الإشكنازي في دراساتهم النقدية تجاه مختلف بلدان العالم التي نقدوها، بحق بما هم راديكاليين، لكنهم تجنبوا الكيان الصهيوني بوضوح. وفئة ممن ليسوا نقديين –راديكاليين- لكنهم مالئوا الصهيونية وتجنبوا نقدها، وتغاضوا عن التطرق لمعاناة الفلسطينيين من الصهيونية رغم أن مناخ الكتابة أو الحديث يوجب ذكر الفلسطينيين اي يكون ذكر فلسطين في موضع الضرورة حتى لو بالقياس المنطقي. وحالات من الأكاديميين الذين حوصروا بسبب من نقدهم للصهيونية، وأما الفلسطينيين فقُتِلوا.
إلى جانب من مالئوا الكيان الصهيوني والصهيونية عامة، هناك من يصبُّون نقداً حاداً ضد العرب والمسلمين بما هو ذي تأثير راجع يخدم الصهيونية في التحليل الأخير. وهذا ما جعل من نقد العرب والإسلام تجارة أكاديمية وبحثية رابحة جوهرها خطاب سياسي وليس تعميق نظري، بل هو طبعة جديدة من تكرار الاستشراق ولكن هذه المرة ليس لتهيئة مناخات استعمار الشرق بل الترهيب من الشرق ك “قوة إرهاب” وهنا قدرة الفكر على المبالغة والنفاق وتصوير شرق معادٍ آخر. وهذا ما يمكن تسميته الطبعة الأخيرة للحداثة الأوروبية تجاه الشرق، الاستشراق باختلاق قوة للشرق لتبرير استغلاله واعتبار دفاعه عن النفس إرهاباً[1].
التغاضي والنفاق في الاقتصاد السياسي
يمثِّل المفكر المعروف، في دراسة التجارة الدولية[2]، أرجيري إيمانويل نموذجاً واضحا على ممالئة الصهيونية، فهو واضع أحد الكتب ( التبادل اللامتكافىء ) التي تعتبر مرتكزاً في فهم التبادل اللامتكافىء على صعيد عالمي ولا سيما فيما يخص عدم توازن الأجور بين طرفي النظام العالمي (المركز والمحيط)، نظرية تثبت صحتها اليوم ربما بأكثر مما حصل إبان بلورتها.
كتب إيمانويل:
“…وفيما يخص إسرائيل، يُنسى غالباً إنه إذا كان هذا البلد يمثل رأس حربة للإمبريالية في الوضع الخاص والمحدد لسياق التناحر ما بين القوتين العظميين، فإن هذا نظرا لظروف خاصة. إن طبيعتها الحقيقية هي ان تكون كتلة صغيرة من المستوطنين “البيض” تتمدد أكثر فأكثر لاستعمار منطقة متخلفة”[3].
والسؤال هو: هل حقاً لم يدرك إيمانويل طبيعة الارتباط بين هذا الكيان والإمبريالية مما أوقعه في سقطة الاعتقاد بأن تحالف هذا الكيان مع الإمبريالية عارضاً ومؤقتاً! ولا يعول عليه، وأنه تحالف طرأ في سياق التناحر بين القوتين العظميين! هذا مع العلم أن إيمانويل كان من أكثر الاقتصاديين قراءة للتبادل الاقتصادي على صعيد عالمي لا سيما علاقات الأسعار والأجور عالمياً، وهذا يدخل أكثر في باب الاقتصاد السياسي مما يوجب فهم علاقة مركز/محيط وعلاقة الكيان بالإمبريالية. وعليه، لم يكن إيمانويل بحاجة لينتظر تفكك الاتحاد السوفييتي ليدرك الحبل السّري الذي يربط هذا الكيان بالغرب الراسمالي[4]؟ هذا إذا لم يتسنى له، وهو أحد مفكري مدرسة التبعية التي تقرأ العالم على اساس مركز/محيط أن يعرف بأن الاتحاد السوفييتي كان ثاني دولة تعترف بالكيان الصهيوني ناهيك عن تزويده بالمستوطنين من بلدان الكتلة الشرقية وبالأسلحة وخاصة من تشيكولوفاكيا السابقة.
كيف اصر إيمانويل على أن هذه المنطقة متخلفة وجاء هذا الوصف من قبله في صيغة الإدانة رغم أنه من مدرسة التبعية Dependency School التي يُفترض راديكاليتها، وبعد قرن كامل على صدور ابحاث ودراسات اقتصادية تؤكد أن هذه المنطقة وتحديداً فلسطين لم تكن متخلفة كما زعمت بلدان المركز الرأسمالي آنذاك وزعمت الصهيونية بالطبع. وفيما إذا كانت المنطقة متخلفة، فقد تتالت الأبحاث التي تثبت أن الاستعمار لم يذهب إلى تلك البلدان لينقلها إلى التقدم وهذا يفتح على نقاش مستفيض حول دور الاستعمار في “تطوير” المستعمرات!.
وفيما يخص النفاق بالتغاضي يتطرق إيمانويل إلى تحليل اقتصادات المستوطنات البيضاء في كتابه “التبادل اللامتكافىء[5]“، وهي جنوب إفريقيا (ص 185 من كتابه) (في فترة حكم البيض، وردويسيا قبل تصفية النظام العنصري فيها (ص 379)، ونيوزيلندا في مقدمة الكتاب وكذلك في الصفحات 124، 266، 360، 361، 363، 365، وكندا في صفحات عديدة بما هي مستعمرة فرنسية ص 127، وأستراليا في صفحات عديدة، فإنه لم يتطرق إلى إسرائيل قط، مع أنه في ورقته المشار إليها أعلاه يذكرها كمستوطنة بيضاء ولكن دون إدانة.
اتخذ مايكل بارت براون نفس موقف التلطي الذي اتخذه إيمانويل، وذلك في كتابه “ اقتصاديات الإمبريالية[6]” فهو يتعاطى مع جنوب افريقيا ص 172 و 191 كنموذج على زرع مستوطنة امبريالية بيضاء في محيط النظام العالمي لكنه يتجاهل إسرائيل تماماً.
وحتى إرنست ماندل وهو من كبار الاقتصاديين الماركسيين ومن أعمدة الأممية الرابعة والمتوفى عام 1996، لم يتعرض لإسرائيل في كتابه المدرسي “النظرية الاقتصادية الماركسية[7]“، بل لم يتعرض للدور الربوي لليهود في التاريخ، مع أن دورهم في هذا المجال بارزاً ولا يمكن لبحث علمي أن يتجاوزه. فقد لعب اليهود دورا بارزا في السمسرة والربا وتكوين رأس المال الربوي. بل إن هذا الدور هو الذي كلَّفهم ثمناً كبيراً هو نظرة الأمم الأخرى إليهم كنموذج للجشع، بل كقوة أعاقت بدورها الربوي عملية الانتقال إلى الرأسمالية ولا سيما في أوروبا الشرقية.
وحتى في حديثه عن المجتمعات الاستيطانية، فإن ماندل قد أشار إلى الفارق في الأجر (مقتفياً أثر إيمانويل) بين المستوطنين والسكان الأصليين في روديسيا الشمالية وروديسيا الجنوبية وكينيا، لكنه لم يذكر إسرائيل رغم انها مثال واضح على ذلك.
يتكرر الأمر عند برنارد ماجوبان في كتابه ” الاقتصاد السياسي للعرق والطبقة في جنوب افريقيا[8]“. إن كتابه بالطبع مخصصاً بثقل كبير لدراسة جنوب إفريقيا، لكنه تطرق لحالات استيطان أبيض وعنصري مثل روديسيا ( في المقدمة وصفحات 213، 214، 319، 323)، وهو ما يوجب ذكر إسرائيل ولو من قبيل المقارنة! وهذا لم يحصل.
وفي السياق نفسه فإن اقتطاف التعريف التالي من الإنسيكلوبيديا يبين تأثير الصهيونية المغطى بتحريف للتاريخ وإحلال الرواية التوراتية محل التاريخية بل إدغامهما معا:
“…كحركة قومية يهودية فإن الصهيونية هي التي اضطلعت بإنشاء دولة إسرائيل العصرية كوطن قومي لليهود. ورغم انها عموما منسوبة إلى ثيودور هرتسل ومجموعات اخرى في القرن التاسع عشر، فإن الصهيونية تعود الى بدايات الدياسبورا اليهودي والسبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد وتفجعات يرميا وبسالم ال 137[9] على نفي اليهود عن صهيون (القدس)”
إن كثيراً من الصهاينة، العلماء، يرفضون التورط بهذا القدر في اختلاق امتداد للكيان الصهيوني الحالي بمد جسور تواصل ديمغرافي/سُلالي وتاريخي بين هذا الكيان وبين القبيلة العبرية قبل 3000 سنة! وهذا يضع ما ورد في الإنسيكلوبيديا في نطاق الدسّ الثقافي.
بدورها فإن لسارة روي مقاربة حذرة وخجولة حيث تقارن في كتابها “قطاع غزة: الاقتصاد السياسي لعدم التنمية[10]” بين إسرائيل وبين الاستيطان الأبيض في جنوب إفريقيا والاستيطان الفرنسي في الجزائر، فيما يخص قوانين الأراضي (ص 124) لكنها لا تتوسع بأكثر من ذلك. كيف لا وهي باحثة في معهد الشرق الأوسط في هارفارد.! ولا شك لأنها تعرف حدود “مرونة/تصلُّب” الصهيونية تجاه هذه المسألة ناهيك أن الكتاب مخصص لقطاع غزة، اي كجزء من فلسطين المحتلة والتي اغتصب الاحتلال 1948 ثلاثة أرباع أرضها وأكمل ذلك عام 1948.
اما تمار جوجانسكي وهي عضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي القائمة الشيوعية الجديدة راكح، وعضو كنيست لعدة دورات، فقد تعاطت مع فلسطين بمعزل عن سوريا الكبرى، وهي نظرة تندرج في (ولو بحسن نية) النظرية والسياسة الإمبريالية والصهيونية في اجتزاء فلسطين وبالتالي ابتلاعها. ان مدخل غوجانسكي هو مدخل “ماركسية” تنطلق من اتفاق سايكس-بيكو. ومن جهة ثانية انطلقت غوجانسكي من منطلق مركزاني غربي يبذل جهدا ضافيا لإثبات انعدام الديالكتيك في نمط الانتاج الآسيوي هذا من جهة ومن جهة ثانية فهي إذ تتبنى هذا الفهم إنما تنطلق من نموذج افتراضي من لدن ماركس أكثر مما هو نموذج جرى تطبيقه في حقبة تاريخية ما. لقد أسمت غوجانسكي هذا النمط ب التقليدي، وزعمت انه كان سائداً في فلسطين قبيل الانتداب البريطاني، وهذا الزعم إنما يتقاطع مع نظريتي “الاستعمار الجيد” بمعنى أن الاستعمار يجلب التطور للمجتمعات الماقبل راسمالية، ومع النظرية “المزاعم” الصهيونية التي هيأت للعالم أن فلسطين كانت منطقة خالية إلا من بعض البدو. وهاتين النظريتين تم دحضهما بالدراسات الحديثة عن تلك الفترة ولا سيما دراسة ألكسندر شولش[11].
إن نتيجة هذا الحكم القاطع الذي أصدرته غوجانسكي هي تبرير الغزو الصهيوني لفلسطين مما يجعل موقفها من اسرائيل مجرد اعتراض على النظام الرأسمالي فيها وليس على البنية الاستيطانية الاقتلاعية، وهو أمر طبيعي لعضوة كنيست. هل هذا الموقف حذر وبالتالي ممالىء، أم بقناعة بالكيان وبالصهيونية[12]؟
[1] أنظر عادل سمارة، مساهمة في الإرهاب: الإرهاب طبعة من الحرب الرسمية وطبعة من المقاومة الشعبية، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2006.
[2] كانت مدرسة إكلا ECLA وهي اللجنة الاقتصادية لأميركا الجنوبية في الأمم المتحدة الأولى منذ أربعينات القرن العشرين التي بحثت عدم التكافؤ في التجارة الدولية وتضاؤل حصة الجنوب في تلك التجارة وخاصة الاقتصادي الأرجنتيني راؤول بريبتش.
[3] Arghiri Emmanuel, White Settler Colonialism and the Myth of Investment Imperialism, in New Left Review, no 73, 1972.
[4] اتخذ كارل كاوتسكي وهو ماركسي يهودي موقفاً رافضاً لدولة يهودية منذ ثلاثينات القرن العشرين وكتب لهم، إن دولتكم ستظل مرتبط مصيرها بمصير الاستعمار هناك وستزول بزواله.
[5] Arghiri Emmanuel. Unequal Exchange: A Study of the Imperialism of Trade. NLP Publications, 1972.
[6] Michael Barrat Brown, Economics of Imperialism, Penguin, 1974
[7] إرنست ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية، دار الحقيقة، بيروت 1972، الكتاب في مجلدين.
[8] Bernard Makhosezwe Magubane, The Political Economy of Race and Class in South Africa, Monthly Review, 1979
[9] Grolier Multimedia Encyclopedia, 1996, Saul S. Friedman. Opcit
[10] Sara Roy. Gaza Strip: The Political Economy of De-Delevopment. Institute of Palestine Studies, Washington D.C. 1975.
[11] Schloch Alexander, The Economic Development in Palestine, in Journal of Palestine Studies 10 (3): 1982, 25-58, pp. And, Schloch Alexander, Studies in the Economic and Social History of Palestine: the Ninteenth and Twentieth Centries, London, MacMillan Press ltd.
[12] عادل سمارة، الرأسمالية الفلسطينية من النشوء التابع إلى مأزفق الاستقلال، منشورات مركز الزهراءن القدس 1991ن ص ص 84، 90.