الإرهاب الصهيوني:

العنف والنفاق في الفلسفة والفكر السياسي والتنمية

من لا ينافق ولا يطبِّع بالسيف يُؤخذ

(الجزء الثاني)

عادل سمارة

رابط الجزء الاول في موقع “كنعان”:

https://kanaanonline.org/?p=5489

حين يُنافق…الفلاسفة!

كتب الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بول سارتر، وهو “المتنقل/المتجول” انتقائيا بين الماركسية والوجودية، في كتابه “تأملات في المسألة اليهودية”، الذي كتبه إثر المجازر في الحرب العالمية الثانية ضد اليهود:

“… إنه لن يكون هناك فرنسي يعيش في أمان طالما كان هناك يهودي يعيش في إسرائيل أو في اي مكان في العالم لا يشعر بالأمان”

إذا كان هذا القلق الإنساني وارداً وطبيعيا، حتى من غير الأوروبي الأبيض حيث منبت النازية، فإن الفيلسوف الفرنسي لم يقرأ ماساة الفلسطينيين لاحقاً، ليقدم تعديلاً على الأقل ينصف الفلسطينيين بما هم ضحايا الضحايا وهذا أخطر سلوك إنساني أن يتحول الضحية إلى مقلِّد للقاتل وكأنه كان في دورة تدريبية! ولا شك أن سارتر كان على إطِّلاع بأن نظام بلاده قد أعطى هذا الكيان أول مفاعل نووي ليصبح الكيان دولة نووية متقدمة ورافضة لمجرد بحث أمر سلاحها النووي من قبل الأمم المتحدة. كيف يمكننا قراءة موقف كهذا على غير أرضية الثقافة العنصرية المركزانية البيضاء والطريف أنه من مفكر ماركسي، ويفترض أنه الأكثر إنسانية! أليس سارتر هو الذي زعم بأنه قد أدخل الإحرية إلى الماركسية ليجنبها الحتمية الإقتصادية؟.

وسارتر نفسه قد كتب بالمقابل فيما يخص الاستعمار في إفريقيا:

” ليس الاستعمار مجرد مسألة قهر، إنه بطبيعته مسألة إبادة ثقافية. فلا يمكن للاستعمار ان يأخذ مجراه بدون تصفية سمات المجتمع الأصلاني”. والسؤال هو: اليس هذا ما قامت وتقوم به إسرائيل[1].

كتب جاك ديريدا وهو يهودي الأصل، جزائري المولد بحكم الاستيطان الفرنسي هناك، وفرنسي الجنسية: “

…وفيما يخص الإحالة اليهودية التي تشير إلى انتمائي، إذا جاز هذا التعبير إلى اليهودية، فقد كتب عنها الكثير منذ سنوات…مما يجعلنبي دائما في حيرة من أمري. أولا، لأني أعتقد ان القراءة الصبورة، اليقظة، الفاحصة، اللامتناهية ليست حكرا على التراث اليهودي. ثم اني ملتزم بالاعتراف بأن استئناسي، الذي تحدثتم عنه، بالثقافة اليهودية هو، للأسف الشديد ضعيف، وأنا نادم على ذلك بكل تأكيد، لكن فات الأوان. أما إذا كانت اعمالي تذكِّر بالحواشي اليهودية فإن هذا غير خاضع لاختيار ولا لرغبة ولا حتى لذاكرة أو ثقافة ما” ص 69.

يشي هذا القول بدرجة عالية من التلطي والنفاق. ورغم إبداء الأسف على استئناسه بالثقافة اليهودية، إلا أنه تهرَّب من تقديم تفسير لذلك وترك النهاية مفتوحة!.

يرى ديريدا ان كل حدث قابل للصفح،”… إذ يؤيد الصفح فيما يخص المحرقة، وينتقد جانكليفتش الذي يرى أن هناك أموراً لا يمكن الصفح فيها كالجرائم التي ارتكبت ضد انسانية الإنسان… ومنها المحرقة وخاصة إذا لم يتقدم مرتكبوها بطلب الصفح”. ديريدا “…يرفض المنطق الإشراطي للتبادل، ولا يقبل استشهاد جانكليفتش بقول شيراك عما حصل لليهود تحت حكم فيشي: ” لقد اقترفت فرنسا ذلك اليوم ما لا يُغتفر[2]

المفارقة العجيبة، أن شيراك لم يرَ أن فرنسا اقترفت ما هو أفظع حيث أعطت الكيان الصهيوني الإشكنازي مفاعلا نووياً، أما ديريدا فلم يرَ المحرقة المتواصلة ضد الفلسطينيين، ولا نقول لماذا لم ينقدها، بل لماذا لم يُطالب على الأقل بوقفها. وحتى حين يتطرق ديريدا لأحداث معاصرة للمذبحة ضد الفلسطينيين مثل كوسوفا والمذابح في إفريقيا، فإنه يتجاهل فلسطين.[3]“. أما الأمر المعيب، فإن من أجرى المقابلة كعربي، ودار النشر كعربية ايضاً لم يحاول/لا التوجه إليه بالسؤال عن فلسطين! لا شك أن ديريدا لا يعاني فقراً معلوماتياً؟ وهكذا، رغم لغة التفكيك الضخمة التي امتطاها ديريدا، وتحاشى تماماً إدخالها في الفعل الصراعي الطبقي ضد راس المال والسوق، فقد انتهى ضمن فلاسفة الصفح السياسي الذين لا يُطالبوا المستعمِر حتى بالاعتذار، والاعتذار بالنسبة للمستعمِر يفتح على وجوب التعويض بالمعنى التنموي. لذا ترفض الراسمالية في المركز الاعتذار وتكشر عن انيابها كلما طُرح الأمر كما كان في مؤتمر ديربن في جنوب إفريقيا 2001”. وهل هناك أجمل لدى رأس المال من تساوق، حتى الفلاسفة، مع إعفائه من جريرة جرائمه! فلاسفة مثل ديريدا يلقو بثقلهم للضغط على الضحايا للتسامح. وبهذا بقوا ضمن المركزانية الأوروبية حتى بإهابها العنصري. وفي السياق نفسه ترفض فرنسا الاعتذار للشعب الجزائري!

يقول إدجار موران: ” بعد هذا الذي قيل أصل إلى الصفح السياسي، وهنا لا بد من التمييز بين طلب الصفح من جهة ومنح الصفح من جهة ثانية. لقد طلب شيراك الصفح من اليهود، وكررت الكنيسة الطلب ذاته وقدمت الحكومة اليابانية اعتذاراتها للكوريين. بيد أن طلب الصفح الذي أقدم عليه كل من شيراك والكنيسة، إنما جاء نتيجة الضغوط القوية للمنظمات اليهودية[4]

وحين يُقارب موران المشكلة الفلسطينية يقول:

“… وبين اسرائيل وفلسطين، يُعد الصفح المتبادل عن الجرائم المروعة التي ارتكبها هذا الطرف او ذاك شرطا ضروريا لتحقيق السلام، لكن كان علينا انتظار رابين وعرفات في مرحلة من مراحل تاريخهما لإنجاز وصل اخلاقي يدمج ويتجاوز الحساب السياسي[5]“.

وهكذا لا يخرج الأبيض من جلده قط وهنا تنحط الفلسفة إلى رُقىً وتمائم! فرغم أن المأساة الفلسطينية معلقة على مقصلة الفضائيات لم تترجَّل بعد، إلا أن موران يساوي بين الاغتصاب الاستيطاني المسلح بالسلاح النووي وبين المقاومة الفلسطينية! يجعل من المقاومة الفلسطينية جرائم كجرائم الصهيونية. (حول الجرائم انظر تشومسكي لاحقا).

وموران من المفكرين الذين يتسابق عرب كثيرون على التقاط ما يكتب ويروجونه دون تملّي، وبدون اية جرأة على قراءة متفحصة لا نقصد هنا الجهل بما يُكتب من جلاوزة الفكر المركزاني بل وجوب أن نقرأه جداً، ولكن مع نقدنا وتحليلنا له واشتباكنا معه.. ففي مراجعة كتبها منتصر حمادة لكتاب موران نقتطف ما يلي:

” يقف التركيز المفرط لبعض الأقلام على الحالة النازية، مقارنة مع الحالة الستالينية، وراء تحذير موران من الانغلاق داخل فكر ثنائي، أو أي فكر ملبد بقطب اهتمام واحد على حساب الأقطاب الأخرى، فإذا ركزنا كثيرا على أوشفيتز فقط، يضيف موران، فإننا نخاطر بالتقليل من أهمية مخيمات الاعتقال والإبادة السوفييتية، (“الغولاغ”) ونغض الطرف عن بربريات أخرى، وحتى وإن حصرنا اهتمامنا في الجانب الكمي، فإن عدد الموتى الذين تسبب النظام الاعتقالي السوفييتي كان هو الأكثر أهمية. فالغولاغ استمر مدة أطول من مدة التصفية النازية[6]“.

هناك توجهات جد خبيثة في الغرب بعامته، وهي توجهات متنوعة تلتقي على قرار خبيث هو مساواة الشيوعية بالنازية. منها الخط البرجوازي الرسمي الذي يحقد على الاشتراكية من مدخل المصالح والملكية الخاصة، وهناك فلاسفة ما بعد الحداثة الذين يزعمون الإنسانية ويتغاضون عن وحشية راس المال والسوق فينحطون في النهاية إلى التشاغل بمعاداة الشيوعية والنازية بنفس المستوى، وهم في الحقيقة مخترقين بالمثقفين الصهاينة الذين يغطون على جرائم الصهيونية بتشغيل الآخرين في مهاجهة الشيوعية وخاصة بمقارنتها وإقرانها بالنازية[7].

ويضيف: “وفي الأخير، فإن ما يجب أن تؤدي إليه التجارب المأساوية للقرن العشرين هو المطالبة بإنسية جديدة تتمثل في التعرف على البربرية كما هي، بدون تبسيط أو تشويه من أي نوع. وليس المهم هو الندم وإنما الاعتراف. كما يجب أن تتوسط هذا الاعتراف المعرفة والوعي، لأنه من اللازم أن نعرف ما حدث بالفعل، وأن نتملك الوعي بتعقيد هذه المأساة الضخمة. وأن يشمل ويهم هذا الاعتراف جميع الضحايا: اليهود، السود، الغجر، الشواذ الجنسيون، الأرمن، مستعمرو الجزائر أو مدغشقر، وهو أمر ضروري إذا أردنا تجاوز البربرية الأوروبية”.

لا نود تكرار التذكير بأن موران يرى المحرقة، وبساوي بينها وبين الستالينية مع أن لهذا علاقة بموتورية ما بعد الحداثيين تجاه المرويات الكبرى وخاصة الإشتراكية، ولا يرى المحرقة ضد الشعب الفلسطيني. والمهم أن الكاتب العربي منتصر حمادة لا يتنبه إلى هذا النفاق قط! ولا تتوفر لدينا طبعة توبقال لنعرف إن كان الناشر قد تنبه لهذا الأمر أم لا؟

في اعتراض ليفي شتراوس على الحداثة لم يعترض على رأس المال بل على صبره على النازية و الشيوعية. هذا ناهيك عن تفجعات مريدي ما بعد الحداثة (هوركهايمر) على المحرقة الصهيونية[8]، والتغافل الخبيث عن رؤية المحرقة ضد الفلسطينيين بالعين المجردة يومياً، وأنتهاء شيخي التفكيكية والسيطرة والقوة إلى التسامح وموت السياسة، اي انتهائهما إلى التطابق مع مقتضيات حلول راس المال لجرائمه، تُرى، هل لهذا لم تعتذر فرنسا عن سفك دم الجزائريين العرب؟ وينطبق هذا على الحداثيين والمابعديين.

هوركهايمر، أحد مؤسسي هذه المدرسة بالذات. بعد ان جرَّب هذا الاخير كل الاتجاهات العقائدية والماركسية والنقدية راح يدعو للعودة إلى الايمان باللّه. وهكذا بدأ نقدياً حاداً ليعود مستريحاً في رحاب الإيمان. هنا يتقاطع أقصى اليسار مع أقصى اليمين، فقد انتهى المحافظون الجدد إلى الإيمان بالله وحتى التحضير لمذبحة مجدو “ارماجدون”. أما الوجه الاقتصادي لهذا فهو ملتون فريدمان[9]، والوجه السياسي جورج دبليو بوش في الحرب على الإرهاب وحرب الفرنجة الحالية!


[1] Quoted in Bernard Makhosezwe Magubane، The Political Economy of Race and Class in South Africa، Monthly Review، 1979:66.

[2] المصالحة والتسامح وسياسات الذاكرة، جاك ديريدا وآخرون، ترجمة حسن العمراني، منشورات دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 2000 ص ص 14،15، 16

[3] نفس المصدر ص 28.

[4] نفس المصدر ص 46.

[5] نفس المصدر ص 47.

[6] منتصر حمادة 25 ابريل 2010، ألخبار اللبنانية، مراجعة لكتاب موران، “ثقافة أوروبا وبربريتها”، صدر الكتاب عن دار توبقال المغربية، وترجمه الباحث المغربي محمد الهلالي

[7] الفصل الأول من كتاب عادل سمارة التطبيع يسري في دمِكَ: ِ من إستدخال الهزيمة إلى تأسيس لنفيها (يصدر قريبا)

[8] انظر

Max Horkheimer and Theodor W. Adorno، Dialictic of Enlightment (New York، 1973)، 3. Quoted in After Marxism by Ronald Aronson، Guilford1995

[9] لعل أفضل معالجة لهذه المسألة هي في أطروحة د. مفيد قسوم:

Global Dialectics in the Production and Re-production of the Palestinian Space Under the various Phases of Globalization، by Mufid Qassoum، PhD Dissertation، Chicago Illinois، 2004.