عبداللطيف مهنا
ترقص رام الله هذه الأيام على دوي تقديمها لطلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ، وتكتم انفاسها وهي تتابع أنباء ما يعرف ب “المسار الاجرائي”، وفق النظام الداخلي لمجلس الأمن لطلبها ، بعد إحالتة الى اللجنة المناط بها دراسته ، وتتصور هذا ، أو هى تحاول تصويره للفلسطينيين ، بأنها الخطوات الأولى باتجاه ما يبشرالقضية بنصر من الله وفتح قريب … وأكثرت من المقارنة بين خطاب أبو مازن في المحفل الدولي والخطاب الشهير للراحل ياسر عرفات في ذات المكان قبل عقود ، “عندما جاءه حاملاً بندقيتة في يد وغص الزيتون في يده الأخرى مطالباً إياه بعدم اسقاط الغصن من يده ” ، أو ما اسقطتهما أوسلو معاً فيما بعد ، أو اسقطهما هو بيده بتوقيعها .
أبو مازن ذهب إلى هناك بعد عقود من اسقاط ما ذهب بهما أبو عمار، وبعد أن هوّدت القدس جغرافياً وبدأ تهويدها ديموغرافياً ، ولحقت بها الضفة أو تكاد ، وحوّلت غزة إلى معتقل إبادي كبير، وتتسارع مؤشرات نوايا الترانسفير المبيتة في المحتل في العام 1948 من فلسطين ، وكل ما بيده هو “المفاوضات أولاً وثانياً وثالثاً”، أو تلك التي فعلت ما فعلت بالقضية والتي لا بديل لها عنده إلا هى ، أو ما أسقطها من يده نتنياهو بالتعاون مع وسيطها وراعيها الأمريكي ، وكل ما يطمح إليه بعد هو إستعادتها بتحسين نظام شروطها .
“المسار الإجرائي” المعوّل عليه مرشح للإطالة ، إذ أن النظام الداخلي لمجلس الأمن يعطيه فسحة 35 يوماً للتصويت على الطلب ، وحتى ذلك الحين يجهد الغرب مع رباعيته ، والذي يحاول إدارة الصراع وتطويق أثاره على مصالحة في المنطقة إن تعذّرحله وفق الرؤية الصهيونية ، للإلتفاف على مسيرته وصرفها باتجاه الجمعية العامة حتى لا تضطر أمريكا لاستخدام حق الفيتو المقرر سلفاً أن وصل الأمر حد التصويت . أما في الجمعية العامة ، وحيث الحظوظ هناك متوفرة اكثر له ، فلا مانع لدى الغرب من عضوية فلسطين كدولة مراقبه ، أو ما جاء في العرض اوالمقترح الساركوزي ، لكن مع السعي مع رام الله لجعلها توافق على أن يكون ذلك مشروطاً بعدم الإفادة مما تتيحه لها هذه العضوية في الذهاب مستقبلا للمحكمة الدولية لتقديم شكاوى أمامها ضد جرائم إسرائيل التي لاتحد !
من تحصيل الحاصل تصور النهايات المتوقعة لغزوة رام الله الأممية هذه ، والتي أقصاها ، كما قلنا في مقال سابق ، هو العرض الساركوزي ، أو دولة مراقبة ، والتي لا جدال في كونها مسألة رمزية لا تقدم ولا تؤخر في المسار العام الذي يستعجل خطواته باتجاه تصفية القضية . وإذا كان رد الغرب عليها هوما بيّناه ، فالمؤسف هو أن الرد العربي قد إقتصرعلى التصفيق لراقصي رام الله في تستراً على العجز الذي يعيشه الواقع العربي الرسمي وانعكاساته المريعة على قضية العرب المركزية في فلسطين ، أما الإسرائيليون فكان ردهم يتمثل في اتخاذ سريع قرارات التوسع التهويدي الأخيرة في القدس المحتلة وما قد يتبعها .
هناك حقيقتان يحاول الراقصون والمصفقون والمناورون ، وكل من موقعه ، القفز عليها وتغييبها وتتمثلان فيما يلي :
الأولى، أن الحدث الفلسطيني برمته هو إعلان واضح واعتراف صريح بنهاية همروجة ما تدعي “العملية السلمية”، وإشهارلفشل ذريع لمساركارثي الحق أفدح الإضراربالقضية الفلسطينية ، وكلاهما ، النهاية والفشل ، عبّر عنهما أيما تعبيرخطاب أبو مازن ، الذي أطنب فيه وأجاد في تعداد بعض ما جرى للفلسطينيين في ظلهما من بلاء مقيم ، لكن دون أن ينعى العملية ، بل ليعلن تمسكه بجدثها الرميم محاولاً عدم دفنه ، ودون أن يتخلى عن المسار بل يمعن فيه .
والثانية ، هى إن أخطر ما في المسألة هو بعض ما جاء في متن الطلب ذاته ، وكنا قد أشرنا له ضمناً في مقالنا السابق ، والآن هاهو يردنا تأكيدة نصاً في الطلب ذاته بعد نشره، ويكمن في العبارة التالية : أنه بعد قبول عضويتها “تعلن دولة فلسطين التزامها العمل من أجل تحقيق حل دائم وعادل وشامل للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني ، يعتمد على رؤية دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمان” … وعليه ، فالصراع العربي الصهيوني على فلسطين أصبح عند رام الله نزاعاً بين متنازعين لاأكثر . أما السلام العادل والشامل والدائم فيعني عندها التسليم نهائياً بضياع 78% من فلسطين التاريخية ولإقتصارعلى “المنازعة” بمعنى المساومة على 22% منها ، أو التي هي الآن قيد التهويد … والتخلي عن حق العودة…!
في مواجهة مثل هذا المنطق الذي يستجدي دولة من هيئة دولية ماكانت يوماً ولن تكن جمعية خيرية ، وتظل المحصلة الأمينة ً للتوازنات والمصالح الكونية ، والمشكّلةً مسرحاً دائماً لمساومات نافذيها ، حيث لا معايير إلا المصالح ولا إحترم إلا للأقوياء ، يجدرالتذكير بإن القضية الفلسطينية كانت وستظل ، بحكم أقانيم التاريخ والجغرافيا ، ومطلق عدالتها ، والسيرورة العربية النهضوية التي بدأت إرهاصاتها ، الأكبر من أن تصفّى ، وهى وهذا حالها وكما ظلت ومنذ أن كانت ، كفيلة باحراق كل الأصابع التي تمتد للعبث بها … هل من حلول عادلة أو شاملة بالتخلي عن قرابة ثمانين بالمئة من فلسطين و تأبيد المشردين من أهلها في المنافي ؟! وهل من دائمة ما دامت هذه الإسرائيل بطبيعتها الاستعمارية الإستيطانية الإحلالية التوسعية قائمة ؟! وهل من سلام معها ووجودها أصلاً نقيضاً للسلام ؟!
إن كل ما في أمر هذه التغريبة الأممية هو أن الأوسلويين يحاولون الهرب من نتائج نهجهم الكارثي قبل وصول القضية بسبب منه إلى الخراب الأخير بالتعلق بقشة رمزية العضوية على الطريقة الفاتيكانية ، أو الخيار الساركوزي التصفوي بديلاً عن الخيار الوحيد ، الذي تفرض وحدانيته على الفلسطينيين والعرب من بعدهم ، طبيعة الصراع وضرورة البقاء ، والذي تذكرهم به القرارات التهويدية الأخيرة في القدس المحتلة … خيار المقاومة .