حق فرنسوا وتارنتا[1] ولأجل عمرو[2]
عادل سمارة
رنَّ هاتفي النقال قرابة العاشرة صباحاً
قلت: نعم؟
قال: عادِل
قلت: أهلا فرانسوا، بالسلامة
صمت بضع ثوانٍ كأنما فوجىء بتمييزي صوته وقال: جهزت لك المبلغ لكنه ناقصاً (فهو يخزن ادوات المسرح في مخزن مزرعتي الخربة)
قلت مازحاً: ولا يهمك سأدفع قرضاً للاتحاد الأوروبي. إنما كيف صحة الوالدة؟
قال: تحسنت قليلا
قلت: كم عمرها
قال: 86، هل أنت في رام الله
قلت : لا
قال :سأضع 600 يورو في مكتبة يوسف الجعبة.(لم يقل سأكمل لاحقاً، ولم اسأل…فهل كان يخطط للرحيل ولكنه بشعور إيماني قرر تسديد بعض ما في ذمته؟ هذا سؤال مادي. ولكن الإجابة فلسفية، ففرانسوا لم يكن متديناً!).
كان ذلك قرابة العاشرة صباحاً. لم ألمح من نبرة صوته ما يوحي بشيء سوى ذلك الضعف المتألم دائماً الذي عهدناه في السبعينات.
قرابة التاسعة من مساء نفس اليوم اتصل المسرحي عادل الترتير وقال، هناك خبر سيء: لقد وجدوا فرانسوا منتحراً!
في لحظات، إلى الوراء أربعة عقود! حينما كان مسرح ما بعد 1967 في بداياته، فرانسوا ابو سالم هو أحد مؤسسيه بلا مواربة. وخاصة فرقة بلالين ولاحقاً صندوق العجب. لم أكن مسرحياً لكنني كنت أواكب النشاط المسرحي ضمن “تجمع العمل والتطوير الفني ـ لجنة المسرح” وأكتب عنه في جريدة الفجر (قبل أن تطرد قيادة منظمة التحرير كادرها اليساري تمهيداً للتسوية). هذا قد يغيظ البعض، ولكن كتابة التاريخ أهم. وكتبت آنذاك في مجلة البيادر الأدبي 1976 وكنت من مؤسسيها وأسرة تحريرها (وكان ذلك قبل أن تسطو عليها أموال منظمة التحرير وتصبح البيادر السياسي. آنذاك كنا نناقش وننشط ونُعتقل ونحب!
ما يهمني هنا أنني قسمت المسرح المحلي إلى ثلاثة فئات:
مسرح المقاومة والمسرح التجاري ومسرح تيدي كوليك رئيس بلدية القدس المحتلة حيث موَّل فرقة خاصة ببلدية الاحتلال.
وبهذا كان المسرح منذ تلك الفترة مقسوماُ إلى مقاوم وتطبيعي وكان فرنسوا مع المقاوم.
ظل الشهيد:
بعد غيبة طويلة عاد فرنسوا إلى الأرض المحتلة بمسرحيته الأخيرة” ظل الشهيد” واستأجر مخزناً في مزرعتي السابقة ليضع فيه مستلزمات المسرح. كتب لي إيميلاً كي أحضر عرض المسرحية في مسرح القصبة، (هو اصلاً مسرح السراج اسسه الراحل اشاعر د. عبد اللطيف عقل. فكتبت له لدي ملاحظتين:
الأولى: هذا المسرح هو مسرح تطبيعي، هذا رايي وقد يخالفني فيه آخرون. وأنا قاطعته منذ افتتاحه.
والثانية: اخشى أن تكون المسرحية من فئة مناداة العقلاء ضد الاستشهاد.
فكتب أنه يفهم هذا ولكن لا يوجد مكان آخر من جهة كما أنه لا يستطيع دفع اجرة القصر الثقافي. طبعا لمن لا يعرف، القصر الثقافي جرى تأجيره على يد قسم من مجلس بلدي رام الله ل دانييل برينباوم الموسيقار الصهيوني الذي ايد مذبحة غزة وشتم ياسر عرفات بعد رحيله في مقالة بعوان “مات الطاغية عاش الشعب”. تحدثنا لاحقاً عن المسرحية حين التقينا في المنتدى الثقافي العربي. بعدها التقينا ثانية في المنتدى الثقافي العربي وتحدثنا عن المسرحية.
في ذلك النقاش استعدت شخصية فرانسوا منذ السبعينات. وهذا ما حفزني للكتابة.
لم اشهد فرانسوا ابو سالم إلا شاردا ومغترباً. هل يعود هذا لكونه فناناً من الذين لديهم جنون الفن من جهة وجنون عدم فهم الآخرين لدخيلته. أو ربما عدم قدرته على توصيل ما يريد إليهم. ولا يعود هذا الإشكال إلى كونه من ابوين ليسا عرباً، فهو فلسطيني، بما هو ابن البيئة العربية الفلسطينية تماماً، وإن كنت أحياناً أمازحه (نصف أبيض). أستطيع القول أن عيسى عليه السلام فلسطيني.
حين شرح لي محتوى مسرحيته الأخيرة في المنتدى الثقافي العربي، تذكرت المعاناة إياها التي كانت في داخله في السبعينات. لكنه كان فتياً وعفياً واقتدر على مواصلة العمل لكنها لم تُقتلع منه.
حين التقينا بعد غيبته الطويلة، لولا أنني كنت على موعد معه وفي مكان محدد لما عرفته. كان شديد الضمور أشعث، يكاد لا يستطيع المشي. والأغرب أنه يكاد لا يستطيع القول، في تأكيد غير مباشر على أننا لم نفهمه. تحدثنا عن التطبيع والعلاقة باوروبا وعن مدى مدنية المجتمع الأوروبي الذي يخبىء الإمبريالية وراء محرقة اليهود. وهو برأيي موقف سياسي ضد العرب والفلسطينيين أكثر مما هو شعور بطريركي سلفي يسمح لأشباح أوروبيي الحرب العالمية الثانية بجلد أوروبيي اليوم!
في حديثه تطرق إلى الوضع المحلي: الدنيا متغيرة، كل شي هنا متغير. كان يقصد مقارنة بالفترة ما بين 1972-78. كان الشعور بالغربة في اللحظة عميق الوضوح في حديثه وتقاطيع وجهه. لم يكن حديثه في السياسة المباشرة، ولكنه كان يشعر أن الفن الذي يختزنه لا يجد اليوم الحالة الجماهيرية التي تحتضنه. هنا كان مكمن الاغتراب. بل الاغتراب المركب من:
شعور بأن اصوله قد تغري البعض بالزعم أنه مزايد سياسياً.
وشعور بأن هناك انحطاطاً ثقافياً في البلد، وأن المسرح الذي كنا نحتقره سابقا كمسرح بلدية تيدي كوليك، هو وجه المسرح الحالي.
وشعور أنه ينتمي لقضية إنسانية هي في المزاد السياسي الدولي.
كيف لا، حين عاد فرانسوا قبل عام إلى هذا البلد، لم يجد من المسرحيين القدامى من بقي على جنونه ربما سوى عادل الترتير. لذا، لا غرابة أن مسرحيه الأخيرة ليست بطلا واحداً وحسب بل ممثلاً واحداً. صحيح أن هذه مدرسة في المسرح، ولكن ايضاً هناك فقر الحالة فنيا ثقافياً وسياسياً.
الخيانة أم الخذلان:
الخيانة اقل وجعاً من الخذلان. ربما كانت مشكلة الفنان أنه وضع مستوى عالياً من الافتراض، على الأقل كما كان في السبعينات. وحين يرتفع مستوى الافتراض بأعلى من الشخوص والجمهور، اي المرحلة، لا بد أن يصاب صاحبه بمرارة من النمط الذي لا يسمح بالتشكي، فلا أحد يسمع فكيف به أن يتفاعل!. بينما في الخيانة كحالة معطاة ومجسدة يمكن للمرءأن يقول ويفعل ويرد، فيها حوارواشتباك وحتى قتالاً.أما في حالة الخذلان، فيكون الانطواء وعدم الرغبة بالبوح، واللجوء إلى الموت الداخلي البطي، حالة الراحل: د. سليمان بشير، أو إلى الانتحار حالة فرانسو. هنا يكون للتراكب الثقافي دوره: سليمان بشير قتل نفسه بكظم الغيظ وعدم توفر من يفهموه أو يقفوا إلى جانبه، بل خُذل ممن كان يجب أن يؤازروه. لم تكن جلساته إلى بعض أصدقائه النقديين، عبد الكريم سمارة ومازن مصطفى وإلهام خوري (هذا الفريق الذي أمم كافيتريا كافية جامعة بير زيت وطالب بتعريب الدراسة وعلى اثرها طُرد سليمان بشير من الأكاديميا لأنه وقف مع الطلبة)، وكنت أنا نفسي من خارج الجامعة، لم تعصمه من الذوبان الداخلي فتخلى عنه قلبه.
فرنسوا ابو سالم وهو فلسطيني طبعاً، ولكنه كان أكثر انفتاحاً على الثقافة الأوروبية الغربية، ومنها ثقافة الانتحار، التي تشبع جنون العظمة عند الكثيرين،أو تؤكد قناعة المرء بأن أحداً لم يفهمه فما الذي يغريه بالبقاء. هكذا فعل نيكوس بولنتزاس المنظِّر الماركسي المتميز وهو في السادسة والثلاثين فألقى بنفس ه من بناية شاهقة العُلو.
هل كان مستوى الافتراض هو مصدر اغتراب ابي سالم؟ غالباً نعم. ليس انتحاره بدافع الفراغ الروحي الناجم عن تقسيم العمل كما يشرح أوغست كومت، فقد كان مشبعاً روحياً بالمسرح حتى الجنون.قد يكون أقرب إلى تفسير دوركايم “الأنومي” ولكن ليس من باب غياب الإجماع الأخلاقي لتقسيم العمل، لا سيما وأنه لم يكن استهلاكيا ولا عاشقاً للمال، بل كان يسارياً، ولكن، كانت معاناته من غياب الإجماع الأخلاقي للمرحلة الوطنية الحالية مجسداً في فئتين: النخبة السياسية والنخبة الثقافية. وهذا مصدر للخواء الروحي. لذا، قد يكون انتحاره حالة فردية كقرار وحدث نتجا عن مشروع قتل روح المقاومة، بغض النظر عن حدود نجاح هذا المشروع. وربما من هنا استوحى على الأقل اسم مسرحيته الأخيرة “ظل الشهيد”، ظل الانتفاضة، ظل المقاومة…الخ.
قال لي فلاح ذات يوم: لولاني بقلبين وأربعة كلى لمت من زمان. وهكذا، بين ذوبان قلب سليمان بشير باكراً، وانتحار فرنسوا، يبقى على المثقف، كي لا يذوب وينتحر أن يبقى مشتبكاً.
[1] تارنتابابو شخصية حقيقية أو مفترضة كتب عنها الشاعر ناظم حكمت مجموعة قصائد “أحد عشر قصيدة إلى تارنتابابو” تحكي قصة مناضل شيوعي إيطالي نام آخر لياليه في فندق وكتب هذه القصائد إلى حبيبته، وحينما جاءت في الصباح تسأل عنه، قال لها الشغيل لقد أخذه الفاشيستـ، ولكنني وجدت هذه اللفافة في سقف الغرفة الخشبي. وفَّر لنا الراحل محمد البطراوي هذه القصائد مترجمة، وأكثر من مرة فكَّر فرانسوا ان ينفذها في عمل مسرحي ولم يحصل.
[2] عمرو حفيدي في الثامنة، فوجىء أن يقوم إنسان بالانتحار، اتصل بي في اليوم الأول عدة مرات: سِيْدْ (يفضل اللفظ هكذا بدل سيدي: شو في جديد عن انتحار فرنسوا! لازم تكتب عنه.