ثورة وثورات مضادة

تناقض الصحوات وتآلفها ضد العروبة!

(الجزء الأول)

عادل سمارة

من الدروس الأولية المستفادة مما يدور في الوطن العربي، وما يُدار فيه، أن لا حدث يمكن حصره داخل اي بلد وخاصة من بلدان محيط النظام الرأسمالي العالمي. ومن هذا بوسعنا استنتاج قواعد ثلاث:

الأولى:

أن مركز النظام العالمي ما زال قوياً، بل هو القوي، وأن حضوره التدميري على الصعيد العالمي قد احتفظ بقوته إلى لحظة كهذه أكثر من غيرها وأن اعتماد القوة المكشوفة اصبح الأداة المباشرة في تمسك المركز بمصالحه على صعيد عالمي. فهو يتمتع برصيدين:

*الاختراق المتواصل والمتشعب في الوطن العربي: انظمة، طبقات، شرائح، أفراد، متمولين، أكاديميين، مثقفين جنرالات[1]…الخ وهو اختراق مزمن ومتوارث وليس طارئاً وجديداً.

*وقوة النار العارية دون مواربة والتي ترفضها القطبيات الصاعدة (روسيا والصين خاصة) ولكنها تخشاها، وهي قوة يصعب سحقها بقوة نظامية بل بقوة الشعب ما لم يكن مخترقاً بأدوات تفكيك عديدة : طائفية، مذهبية، إثنية…الخ.

صحيح أن تجربة مذابح يوغسلافيا والعراق وافغانستان قد دفعت المركز لتجريب الهيمنة الثالثة (استخدام منشقين-قوى وأفراداً وشرائح وحتى كمبرادور- من كل بلد في نفس البلد ليعلو هو الجو، أي الناتو فيضرب من الهواء-حالة ليبيا- ثم يتسلم البلد خراباً يباياً[2] فيصبح استعماره لها جد “شرعي” حيث ستعمرها شركاته، فمن الحاكم إذن؟  لكن التدمير من الفضاء لا يعني تغييراً نهائياً في استراتيجيته من جهة ولا نفياً كلياً لتدخله الأرضي من جهة ثانية. فكل شيئ قابل للاستخدام لدوام السيطرة وصولا إلى الربح اللامحدود. لذا، فمن أراد حماية وطنه  ومواجهة المركز الراسمالي في حقبة العولمة، أي مواجهة الثورة المضادة بالثورة ،  لا بد أن يفهم هذه المعادلة جيدا.

متعلق بهذه القاعدة أن النظام الرأسمالي العالمي لم ينتقل بعد إلى ثنائية أو تعددية القطبية، وأن روسيا والصين ما تزالان أضعف من التحدي المفتوح للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بمعزل عن حدود فاعلية اليابان، ناهيك عن أنهما ليستا خارج نطاق نظام الرأسمالية، وإن كانت روسيا تحتفظ بعد بروحية معينة ضد الغرب الراسمالي ربما ببقايا الثقافة الاشتراكية المناصرة للشعوب المقهورة متراكبة على دفاع عن القومية الروسية بل عن السلاف جميعاً، وأن الصين لم تُحسم نهائياً لصالح راسمالية متغولة وإن كان النمو الاقتصادي يشكل أداة راس المال الطبقية في الحسم الداخلي.

قد تفسر هذه الأمور الشكل الذي يتطور في مشروع  الثورة المضادة في الوطن العربي بقواها الأربعة:

·       الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

·       أنظمة الكمبرادور القطرية العربية

·       الإسلام السياسي الإخواني والوهابي (يوازيه إقليميا التركي وعالمياً الأميركي)

·       الكيان الصهيوني

نقصد بشكل السيطرة الجديد تقسيم العمل بين الإمبريالية في الخارج وأدواتها في الداخل وخاصة بعد توسيع قاعدة هذه الأدوات لتشمل:

·       أنظمة الكمبرادور القطرية

·       قوى سياسية لها قاعدة شعبية كالإخوان

·       راسمالية القطاع الخاص التي بدأت الولايات المتحدة الضغط على النخب السياسية لإشراكها في الحكم منذ 1995 لتوسيع قاعدة السلطة لضمان بقائها ولتعميق تبعيتها بمعنى أن القطاع الخاص الكمبرادوري له مصلحة طبقية مادية مباشرة مع المركز، بينما النخب السياسية لها مصلحة من مدخل مختلف. وربما هذا ما لاحظناه في مصر وحتى تونس، سقوط راس النخبة السياسية وبقاء الطبقة المالكة والشريكة في الحكم.

يقوم تقسيم العمل الجديد هذا على الهيمنة الثالثة وهي كما في ليبيا تحريك قوى محلية ضد الوطن وليس فقط ضد الأنظمة المحلية كما في ليبيا بينما يكون دور الإمبريالية هو القصف من الجو وتوفير الأسلحة وتقنية القتل، وهو ما تحاوله في سوريا عن طريق الإرهاب وتفكيك مفاصل الدولة. وبالطبع هذا لا يعني أن الإمبريالية لن تتدخل كاحتلال مباشر بالمطلق، مع العلم أن تدخلها السري لا شك قائماً.

ما يمكن استفادته من الهيمنة الثالثة هو وجوب أن نؤكد على الوضع الطبيعي للصراع وهو الحرب الأهلية. وكأن نتائج العدوان على أفغانستان والعراق قد شلت يد المركز جزئياً عبر هلعه من النزول إلى الأرض، وهذا يشكل موقفا وموقعا قويا للقوى الثورية.

والثانية:

أن الوطن العربي يتغير، لن يبقى كما هو.  وليس شرطاً أن يتغير بمجموعه بنفس الاتجاه والنسبة، فبعضه باتجاه التغير الذي يحمل السلب، بل الانحطاط كما في ليبيا ويبدو جزئياً في مصر[3] و/أو  الإيجاب،  وبعضه باتجاه التطور.  على الأقل في هذه المرحلة، فإن الثورة المضادة حاضرة في الوطن العربي ومتماسكة. ومع بدء الثورات والانتفاضات والرِدات بادرت الثورة المضادة بثورات مضادة، بهجوم معاكس في كل مكان ومع كل حدث. وأطلقت عنان الفوضى (في الوطن العربي)  والخلاقة (لصالح المركز).

من الواضح أن الثورة المضادة تركز على حصر  ومحاصرة الحرك في اي قطر عربي داخله سواء من حيث الشعارات أو التفاعل ما بين قطر وآخر وهذا يكشف استهداف البعد العروبي والمشترك القومي الذي تشكل الطبقات الشعبية قوته الرئيسية والتي هي وحدوية واشتراكية بمصلحتها وطبيتعها، وإن كان لا بد من تطوير وعيها السياسي الوحدوي الذي جرى طمسه عبرالعقود الطويلة من القطرية والتبعية وتجويف الوعي وتجريف الثروة.

بيت القصيد ان الغرب أو عموم الثورة المضادة يستميت كي لا يكون اتجاه الوطن العربي توحيديا، بل مزيداً من التجزئة. لذا، يتم تعزيز التفكيك والدفع باتجاه تفكيك أكثر وأعمق وتغطية ذلك بمشترك يبدو إيجابياً ولكنه لا يحقق الوحدة، بل يخلق وحدة سراب، اي تعزيز توجه الإسلام السياسي الذي لا يمكنه توحيد الأمة العربية، بل يُرجىء ذلك كي يتحقق ضمناً عبر توحيد مليار ونصف مسلم موزعين على عشرات القوميات حيث كل واحدة منها موحدة ذاتياً باستثناء العرب. هذا ناهيك أن العرب النصاري ليسوا مسلمين فماذا ستفعل بهم الوحدة افسلامية حين تأتي؟ هذا الشعار السرابي بتوحيد المسلمين بسبب تعددهم القومي وتبعية معظم انظمتهم للغرب الراسمالي وتباعدهم الجغرافي وتناقض مصالحهم الاقتصادية وإشباعهم بالإثنيات والطوائف…الخ  يضع العرب في برزخ خطر بمعنى، أن ينتظر كل قطر أو كيان عربي وحدة الأمة الإسلامية، بينما لا تنتظر ذلك لا إيران ولا تركيا ولا باكستان ولا نيجريا ولا إندونيسيا…كل أمة منها متحدة وتؤمن بالله! فلماذا لا يحق لنا أن نكون مثلهم؟

والثالثة:

إن سير التاريخ إلى الأمام ليس خطِّياً بمعنى أن قوة فعل الإنسان وتحديداً القوى المنظمة هي التي تحرك التاريخ  بما هو جسم حي قابل للصياغة وليس قدراً مفروضاً علينا.  ومن هنا اهمية العمل على التقاط اللحظة والتأثير في زمام الأمور وهو الأمر الذي لا يتأتى بمعزل عن توفر الرؤية للثورة.

لعل من اخطر ما رافق الثورات، وخاصة في مصر تلك المفاخرة بضعف الأحزاب أو غيابها والإطراء العالي للشباب دون أي سؤال عن انتظامهم كجماعة ولا عن رؤيتهم. صحيح أن خرق الجدار الأمني في كل قطر عربي ضرورياً، وهو عمل تاريخي، ولكن بقاء الأمر في حدود الرغبة في الثورة وتوفر الجرأة بدون رؤية وتنظيم هو أمر مروع، هو سلاح تستخدمه الثورة المضادة ايضاً وهو الذي يؤدي إلى تفريغ الشحنة الشبابية من قوتها لتعود إلى التجويف السياسي تجويف الوعي الذي طغى في فترة ما قبل الثورة. لا ننسى أن الثورة المضادة هي أكثر مهارة، وأكثر مالاً وأعز سلاحاً.. أليست هي التي التقطت بواكير الحراك في سوريا وليبيا لتسحبه باتجاهها؟ ولأنها مسلحة بالبنادق والمال والاختراق تمكنت من احتلال ليبيا، وما تزال تهارش سوريا وتناور في مختلف أجزاء اليمن، وتحتل البحرين.

ماذا نسمي اختطاف المذهبية للثورة المصرية اليوم حيث يقتتل المسلمين والمسيحيين؟ هل هو اختطاف رجال الدين أم المخابرات الأميركية أم مخابرات الجيش المصري أم بقايا الحزب الحاكم، أم هذه جميعاً؟ أليس هذا نتيجة لفراغ الشباب من رؤية واضحة ليتابعوا تنفيذها وتجسيدها؟


[1] وإلا، كيف يمكن لهيلاري كلينتون ان تتجرأ على دخول ميدان التحرير  حين كان مليئاً بملايين المصريين لولا أن هناك ذلاً شعبياً حتى في لحظة ضخمة كهذه! هذا النوقف نفسه هو الذي سمح لها فور أحداث ماسبيرو 9 أكتوبر أن تتنطع للدفاع عن العرب الأقباط وتعرض إرسال جنود المارنيز لحماية الكنائس. ألم يكن حرياً بجنرالات المجلس العسكري ان يشتموها علانية! وإلا ما معنى الكرامة الوطنية ؟ أم أن وراء كل هذا ما هو اخطر؟

[2] يزعم مثقفون ممن تعودوا الانبهار المهزوم بالغرب أن الناتو يطيل أمد العدوان في ليبيا قصداً ليدمر ليبيا، وهؤلاء طبعا في ضيق ليس لأنهم لا يريدون دمار البلد وإنما لأنهم يريدون هزيمة القذافي سريعاً كي لا يبدو أنه قاوم هو ومن معه. لا باسن حتى لو افترضنا صحة ما يقولون، ألا يعني ذلك أن الغرب يمارس جوهر رأ سالمال وهو الدمار ثم الإعمار؟ وبالطبع دمار ليبيا وإعمارها، ربما إعمارها، على حساب الشعب، وبتشغيل شركات الغرب!

[3] بمعزل عن من وراء ما يحصل في مصر من صراع ديني وقوده متعصبين خطرين على مصير البلد، فإن عدم وقف وتوقف هذا التدهور سوف يقود إلى خراب البلد الذي خرابه يعني خراب الوطن العربي. وهذا يعيد التأكيد على أن انتماء مصر القومي هو طريق الخلاص وليس توزع الشعب على التعصبات الدينية. إن الفقراء الذين يقتتلون ويسقطون ضحايا بلا سبب ولا قيمة، هم الذين في مصلحتهم تركيز الانتماء القومي الذي ينتهي إلى مصر الاشتراكية حيث هناك فقط تخلصهم من الفقر الذي يقودهم للانتماء المذهبي الخطر.