أحمد حسين
الغرب لن يتراجع أبدا. هذه هي حربه الأخيرة ضد شعوب الشرق وحضاراته وثقافاته. إما أن ينجح في البقاء على القمة العالمية، من خلال استخدام تفوقه الحالي إلى آخر ذرة من الإمكان، ويحقق بالقوة، وبالتحلل المطلق من وعي الآخر، قفزته النوعية نحو التحكم الكوني، أو يعود خائبا إلى التاريخ المتعدد الأقطاب، أقل قوة وقدرة على التأقلم من غيره، ليدخل منطقة الأفول الإمبريالي. لذلك فهو لن يتراجع أبدا عما يقوم به الآن، وسيزداد استغوالا وهمجية، ولكن هذه المرة على حساب هيكلياته الاقتصادية المتعبة، التي يريد إنقاذها بانتزاع التفويض القسري من العالم، بإعادة هيكلة الاقتصاد الكوني على أساس تأميم ومصادرة كل أنظمة الاستبداد العالمي الأخرى لصالح استبداده المركزي. وهذا، أي الإنفاق جزئيا مؤقتا من ميزانياته الاجتماعية، سيضعه أمام أخطار داخلية محققة. ولن تستطيع مدخرات زوجاته الشرعيات في الخليج، سداد نفقات شهر واحد، من حربه الكونية، وسيضطر أن يفعل ما فعله الإسكندر الكبير من تمويل نفقات جيشه من كنوز البلاد التي كان ” يحررها “، ولكن لا وجود اليوم لكنوز عينية في خزائن ” مهراجات ” الدول الفقيرة، ففي بلاد مثل مصر مثلا، فإن معظم كنوزها الجليلة نهبت من أيام الإستعمار البريطاني وحملة نابليون. وكل ما استطاع المهراجا مبارك ومستثمرو الكنيسة سرقته خلال حكمه، ومعظمه من خبز الفقراء، لا يتجاوز بضعة مئات من مليارات الدولارات. وهي في بلد كمصر، تكفي لتطوير البنى التحتية كاملة، إلا أنها في أمريكا لا تكفي لتمويل حواجز منع الحمل لعشر سنوات. ولكن أمريكا ستواصل مع ذلك حربها الكونية، وستعرف كيف تبتز الصين واليابان وحلفاءها الأوروبيين ودول الكومبرودور التابعه لها،وتجبرهم على المشاركة في حفظ الإستقرار العالمي، خاصة بعد أن تستقر لها الهيمنة التامة في مشاعة الشرق الأوسط العربية والعمق الإفريقي، ويدرك هؤلاء جميعا، أن الإصرار الإمبريالي الغربي على الحسم، هو قرار تحد للموت. فعلى الغرب أن يهزم التاريخ ونمط الوجود الإنساني، فإذا لم يستطع ذلك بثمن معقول، فعلي وعلى أعدائي يا رب.
من حق كل من يريد، أن يترفع عن هذه الجرأة التي تبدو له جرأة مرتجلة، على اقتحام سراديب العقل الغربي بهذه البساطة. ولكن الترفع الفارغ، الذي لا يستند إلى موضوعة دحض مقابلة، تلائم بالمنطق النظري ما يبديه الغرب من انفلات وعربدة لا سابقة لها، هو ترفع شكلي يعوض عن رفعة الموقف أو الوعي، ولا مضمون له سوى قصور النظر، عن إدراك حقيقة الإستراتيجية المجنونة للغرب ونخبته الأمريكية الصهيونية.
عندما يستهتر ساسة الغرب من التنفيذيين أو صانعي القرار، بعقل الآخر علنا، فيتواصلون معه بلغة المنطق ألأحادي الجانب، ويزعمون على سبيل المثال، أن قصف المدنيين بالطائرات هو لحمايتهم، فإنهم يريدون بذلك القول لهذا الآخر أن لا مناص له من الموافقة على ما يفعلون، وإلا فإنهم سيقومون بحماية المدنيين في بلاده. لم يعد له حاجة بالفهم، عليه أن يستسلم لكونه موضوعا وليس طرفا فيما يجري أو سيجري. دوره الوحيد هو استدخال ” الإيمان ” أن هناك إرادة واحدة وطرف واحد فقط في العالم. وعليه أن يعرف سلفا، أن ما سيجري هو تنظيم الإستبداد وليس محاربته. فالاستبداد هو وحده القادر على فرض العدالة التنظيمية. وليس المهم من يحكم. ألمهم كيف سيحكم. والعدالة الوحيدة الممكنة هي تداول الاستبداد تحت هيمنة حكومة مركزية فوق المساءلة، مؤلفة من النخبة العالمية الديموقراطية.
إن الذين يتناولون طعم إفطار بألف دولار في فنادق ألف ليلة وليلة، ويتنقلون في اليخوت والطائرات الخاصة، يفضلون الموت على أن يصبحوا فقراء. وهم يعتقدون بإخلاص، رغم ثقافتهم الشاهقة وشهاداتهم العالمية،أنهم لم يولدوا لذلك، ومن الظلم أن يجبرهم أحد على الفقر لآنه فقير. وليس هذا فقط، إن الذين يطالبونهم بالفقر، ليسوا من مواطنيهم من الفقراء المرفهين، بل فقراء من بلدان إفريقية وآسيوية. وهنا يسأل الواحد منهم نفسه أيضا بإخلاص : هل كلبي هنا مسؤول عن جوع كلاب مالي أو النيجر أو الهند ؟
هؤلاء الآلهة الصغار تأتيهم البلاغات المصرفية حول آخر أرباحهم وهم في المسبح، فلماذا إذن نريدهم أن يفكروا بطريقة الجوعي الذين يبحثون عن بقايا الطعام في صناديق القمامة. إن من حقهم أن يعيشوا على طريقتهم، ويفكروا بطريقتهم، ويكون لهم جنونهم الخاص الذي يتناسب مع أوضاعهم. أما الفقراء الذين يبلغ عددهم في العالم الثالث أحيانا أكثر من تسعين في المئة من السكان فإن ترك ما يكفيهم بالحد الأدنى من ثروات بلادهم، يعني انتقال الفقر إلى الدول الغربية. فأين هي العدالة الممكنة ؟ سنصبح جميعا فقراء نحن وهم، لآننا سنصبح جميعا أحرارا، ويمتنع الكثيرون عن العمل لأنهم لم يعودوا جوعى.
ألعدالة الممكنة هي أن يصبحوا أقل فقرا ونصبح نحن أكثر غنى. ليدعونا نفكر نيابة عنا وعنهم، ونتصرف نيابة عنا وعنهم، ونحقق العدالة الممكنة نيابة عنا وعنهم. هناك شيء اسمه اقتصاد عالمي وسوق اقتصادية عالمية، وليس هناك إمكانية لدكاكين وطنية صغيرة غير مرتبطة بالنظام الإقتصادي العالمي الواحد.
الجغرافيا تعني تكامل الثروات والحاجات العالمية. وحينما يكون هناك فراغات وطنية في الإنتاج في العالم، يقوم الرأسمال العالمي في البلدان المتقدمة بسدها. علينا أن نلتزم بتوفير فرص العمل للجميع. ومن لا يعمل لا يأكل. وحتى لا يتآكل الرأسمال العالمي يجب أن يكون هناك ريع ملائم للإستثمارات لتستمر الدورة الإنتاجية. لا بد من فائض القيمة. وهو يؤخذ من كل من يعمل. من الأغنياء والفقراء.
نحن الأغنياء مجرد وكلاء على الرأسمال العالمي. فنحن لا نأكل الدولارات ولكننا نستثمرها في الثروة العالمية والدول المتخلفة، ونطعم منها كل الذين يعملون. وحينما نموت نحظى بقبور جميلة فقط. هذا كل ما في الأمر. فالعدالة الممكنة بدون تخريب النظام الإقتصادي العالمي، هي اعمل واربح! والمؤهلون للغنى حتما سيصبحون أغنياء. أما الكسالى والجهلة فعليهم أن ينشطوا ويتعلموا لتنفتح أمامهم أبواب الفرص. هناك دائما نخب متميزة قليلة لسوء الحظ. وعلى هذه النخب أن تتصدى لقيادة الآخرين. هذه هو معنى ومصدر تقسيم العمل. النخبوية الطبيعية. ولا يمكن تغيير ذلك. هناك راقصة تكسب في ليلة واحدة، أكثر مما تكسبه طبيبة في شهر، لأنها استفادت من جمال جسدها. وهذا حقها الطبيعي. فهل يمكن ان تتبادلا العمل. فوارق الإنتخاب لا تسمح بذلك. على الطبيبة أن تكون جميلة القوام والوجه. وعلى الراقصة أن تكون نسبة ذكئها أعلى. وهناك نساء كثيرات لم يخلقن ليكن راقصات، ورجال كثيرون لم يخلقوا ليكونوا أطباء، ولم نخلق جميعا لنكون أغنياء. لذلك فإن الحد الممكن للعدالة هو الحد الممكن للحرية. لا تستطيع أن تقيم نظاما على انفلات الغرائز والرغبات المريضة. تستطيع أن تكون غنيا بمؤهلاتك النخبوية، ولكن ليس بالسرقة أو النهب، أو إشاعة الفوضى والتحريض والإرهاب. إقبل ما تشاء وأرفض ما تشاء في حدود احترام القانون. إقرأ الدستور واحفظه جيدا، فهو حد الحرية الممكنة، وحد الإستبداد الديموقراطي الضروري.
أين هو اللبس في هذا الكلام ؟
نحن نحدد الحرية ونحدد الإستبداد. ليس لأننا أغنياء، بل لأننا النخبة المتفوقة. كثيرون منا لم يولدوا أغنياء، ولكنهم ولدوا ليكونوا كذلك. سيكون كل شيء على ما يرام إذا فهمتم ذلك وقبلتم به. نحن نوفر الفرص وأنتم تعملون. هذا هو دستورنا. وإذا شئتم هذا هو استبدادنا الديموقراطي. وخير لكم أن تعلموا وتقبلوا. فهذا قرار وليس اقتراحا. فنحن وكلاء النظام العالمي، ولن نرضى بعالم أقل من هذا التوصيف.
هل قال الغرب هذا وفعله ؟
إسألوا كونداليسا رايس، الزنجية الشجاعة التي أعلنت أنه لا يمكن أن يكون هناك مساواة حتى بين الأطفال. فالأعراق تلعب دورها الإنتخابي أيضا. لذلك من السخف المساواة بين أطفال العرب وأطفال اليهود. وقد قبل الليبراليون العرب هذا بصمت يثير الإحترام خال من أية دهشة.
هذا هي أمريكا والصهيونية ومستعمراتهما الأورو بيات بكل الموضوعية. نخب سيادية نوعية، تؤمن بالقوة والتفوق النوعي في كل شيء، مقابل البشر الآخرين. يعتقدون بإخلاص عقلي ووجداني تام، أنهم ليسوا آلهة، ولكنهم مؤهلون بل مكلفون بلعب دور الآلهة معنا. بدون قبول هذا التراتب الفادح كثقافة ذاتية من جانبنا، نحن معرضون للإبادة المحسوبة جيدا إذا اقتضىت الموضوعية. لقد قدموا ويقدمون كل يوم لشعوب العالم الثالث بيانات وأفعال لا ترقى الوثائق إلى صدقيتها. فالوثائق قد تزيف ولكن الأشخاص والبيانات المرئية لا تزيف. وهم يؤمنون تماما أن هذذ النهج هو الوحيد المؤهل لإنقاذهم من السقوط. من لا يعترف بهذه الحقيقة الواضحة للعيان عن تحول الإستشاق في الغرب من إيديولوجية عنصرية وتخريبية إلى مؤسسة تصفية دولية على مستوى الشعوب والجماعات فهو لا يستطيع أو لا يريد. عندها بإمكانه إذا أراد أن يلحس مؤخرة كوندليسا رايس.
هل الكرة إذن، هي في ملعب الشعوب الآن، وليس في ملعب الأنظمة الاستبدادية الديموقراطية ؟ سيكون الفرق الوحيد بين ما جرى دائما من استبداد، وبين ما سيجري، هو تخليص الشعوب من طوباويتها التحررية، التي ظلت تستبدل مستبدا بآخر عبثا. ولماذا ؟ بحثا عن ” العدالة الممكنة “. ولكن هذا هو بالذات ما تطرحه العولمة. الحد الأقصى من العدالة الممكنة التي لا يمكن تحقيقها عمليا إلا بطريقة الاستبداد الديموقراطي. ومن حق النخبة العالمية فرضه بالقوة في مرحلة التأسيس، لتخليص العالم من أوهامه في العدالة المطلقة. هكذا يفكر الغرب الإمبريالي، ليس لأنه يبحث عن الحقيقة في مفهوم العدالة الموضوعية التي تناسبه كلص، ولكن عن موضوعية بقائه على قيد الحياة بأي ثمن. وهذا هو المتوقع المنطقي لتفكير الغرب، كإمبراطورية مهددة، ما تزال تتمتع بالسيادة الإستبدادية على العالم. وليس من مصلحتها إخفاء ذلك، لأنه يمكنها من استغلال فوارق القوة المتوفرة لديها حتى الآن لإقناع العالم بوجوب الامتثال لأهدافها كبديل عن الحرب الإستراتيجية الشاملة. هذا التفكير هو منطق الاستبداد العفوي منذ القدم، ولكنه يتم الآن في ظروف قوة تدميرية مختلفة , تقترح إبادة الآخر، وربما الذات أيضا، وفي ظروف تخطي النخب الإمبريالية حاجز القيمة العقلية.
ولكن العالم لم يعد قابلا للفناء التام. النخب الإستراتيجية للغرب قد تكون محمية تماما من أية نتائج للحرب الشاملة. فهناك في أمريكا مدن تحت الأرض تتسع لكل النخب في جميع المجالات، ووسائل تكنولوجية تعيد تشخيص كل مجالات المعرفة وتطوراتها، ومواصلة العمل في بيئة استثنائية لسنوات طويلة. وموت قشرة الأرض وغلافها الجوي جزئيا لن يمنع من بداية جديدة للتاريخ، من نقطة الاستبداد المطلق هذه المرة. سيموت معظم سكان العالم،ولكن سيبقى ما يكفي لبدء مسرحية الخالقين والمخلوقين. هذا يشبه أفلاما مألوفة لهوليوود، ولكن هل يمكن القول أن أفلام هوليوود ليست جزءا من عقل صانعيها، وأن العقل الظاهر ليس مجرد تكنوقراط آلي لدى العقل الباطن ؟ وفي اعتقادي أن عباقرة الجنون والجريمة، هم أناس مستبطنون وراء ستارة مسرح العبث، التى لا تختلف في مظهرها عن أية ستارة عادية.
نعم! الكرة في ملعب الشعوب الحية نسبيا. هناك بشر لا تعنيهم الحياة في هذا الكوكب على الطريقة الأمريكية. يؤمنون أن كم الحياة هو كم الوجود الذاتي. وهم مثل الأغنياء الغربيين الذين يفضلون الموت على الفقر، يفضلون من جانبهم الموت على فقدان إنسانيتهم، والعيش كأشياء أمريكية. يريدون أن يخوضوا مغامرتهم الخاصة بالحياة على طريقتهم، وليس على طريقة النمط الإملائي الأمريكي والغربي الذي يعتبر الآخرين أشياء. للشعوب المقهورة نخبها أيضا مثل نخب الرأسمالية. وفي الحقيقة أن الكثيرين خارج أي تحليل غير لازم، بدأوا يحسون بأن التعابش مع الثقافة الغربية المغرقة في عفن الرقي الهمجي لا تلزمهم. فهم بستطيعون أن يعيشوا بطريقة أبسط وأجمل على طريقة الناس الأسوياء. يريدون من التقدم العلمي والتكنولوجي ما يتيح لهم حياة إنسانية أفضل، وليس ما يتيح لهم استغلال وقهر وتدمير الآخر. يريدون أن يربوا أولادهم كرجال أسوياء وليس كلصوص ومجانين ومرضى ومجرمين، وأن يربوا بناتهم كنساء على الحرية الإجتماعية الفاضلة، ولا يريدونهن عاهرات ومتبذلات بدون حدود. وهم يعرفون أن الغرب لن يتركهم يفعلون ذلك. سيستعبد عقولهم ورغباتهم ليستعبد أوطانهم. المرأة في الغرب رقيق أبيض يستعمل مساحيق التحرر وكائن مطعون في جوهر وجوده. والرجل مريض يسحقه نمط الإنحلال، وماكينة الديموقراطية الإستبدادية، والإغتراب عن مجتمعه المترابط بنظام الأجنحة والغرف المنفصة في الفنادق. الجامع الوحيد هو الخدمات التي يؤديها الطاقم الإداري والخدماتي. مجتمع قططي مرفه في المنازل، مقابل قطط هائمة في في الشوارع. وفي الحقيقة أن شعوب العالم الحية التي، لم يستطع الرأسمال والإعلام السيكيولوجي تدتير بنيتها كليا، يحتقر وعيها الغرب ويخشاه. هذه الشعوب سلبتها الإمبريالية الحرية ولقمة الخبز، وهي تحاول الآن سلبها إنسانيتها وروحها الحضارية وهويتها الإجتماعية. وهذه تركيبة خطرة جدا، يمتزج فيها وعي المصلحة بوعي الوجدان وسوف تنفجر ربما قريبا، وليفعل الغرب عندها كل ما يستطيع. سيحكم عليه بالموت المؤكد! وسيبدأ عالم أفضل حتما.
على كل شعوب الأرض، التي ما زالت تدين بعقل التحرر، وحتمية الثورة العالمية ضد أباطرة الإستبداد العالمي، أن تنظر إلى ما يحدث للشعوب العربية، بوصفه حلقة في سلسلة من الإجراءات المكررة، ستطال كل شعوب العالم. وكون الغرب بدأ بأضعف الحلقات، فذلك لأن تجربة الإسقاط وإبادة الهوية التاريخية للشعوب، بدأت وترعرعت على الأرض العربية، للأهمية اللوجستية والأمنية الخاصة للساحة، ولانعدام حيوية الممانعة الشعبية. وإذا كانت أمريكا لم تهمل جانب الاستطلاع المعرفي في تجربتها العربية، فإن شعوب العالم مطالبة أكثر بوعي هذا الجانب، لمعرفة أسباب الانسياق العربي الشعبي مع السقوط والهزيمة، لتحمي نفسها من تلك الأسباب. وأهمها على ما أعتقد:
أن المنطقة العربية كانت على مر التاريخ كانت النقيض الإقتصادي والسياسي والحضاري المطابق (بلغة إدوارد سعيد) للغرب الإمبريالي. وبذلك كانت أيضا هدفا دائما للتخريب الغربي المبكرا جدا.
أنه لم يقم في العالم العربي أي شكل من أشكال التنمية الشاملة لمعوقات ذاتية من ناحية، ولاستكلاب الغرب وعملائه الدينويين على تخريب أية احتمالات نهضوية قومية، وبكل الأساليب العسكرية والمادية والوعيوية، من ناحية أخرى.
أن ظهور النفط في الأرض العربية في السعودية والخليج، أنشأ وضعا سورياليا في المنطقة العربية، ووصايات بترو – دولارية متخلفة في الخليج، معادية بالسليقة لأية نهضة قومية في الخليج، تحولت إلى أوكار خدماتية متطورة للمارينز، وللتخلف السيادي العميل.
أن معظم دول العالم العربي، ظلت محاصرة بالتبعية والعمالة لأمريكا والصهيونية، وأن أمريكا استطاعت خلال عقود من التخريب، شراء وتوظيف معظم النخب العربية الثقافية والإجتماعية، لضآلة فرص تحقيق الذات محليا، مما تسبب في نقص المناعة المتولد عن الحاجة أو الطموح المريض. هذه النخب بقيادة المباغي السيادية العميلة، تحولت إلى سياقات عمالة متوارثة انتظمت كل النخب الأسرية الدينية والإقطاعية، وخاصة تلك الأسر ذات العراقة المدعاة من النسب، ظلت خلال قرون عديدة أوكارا تجسسية استشراقية للغرب والصهيونية. واليوم يشكل هؤلاء، وخاصة النخب الثقافية، الثيران والبغال التي تجر العربة العربية التي تهيء للغرب ربيعه العربي تحت وصاية الغرب.
أن الشعوب العربية تفتقر إلى الحد الأدنى من الوعي والمبادرة، لانعدام تقاليد العمل الوطني والقومي، ووعي المصلحة الجماعية، وانعدام التنظيمات المدنية الوطنية والقومية والثقافية المؤثرة.
أن القمع الإجتماعي المتبادل، هو عينة العلاقة السائدة في المجتمع العربي، بفعل الثقافة الدينوية والعشائرية التي أولاها الإستشراق الغربي قرونا من الرعاية القائمة على الدس والتمزيق،والتخريب الممنهج، بمساعدة الفقهاء والمثقفين في كل عصر.
ليس في العالم أفضل من المرأة العربية. ظلت دائما تختزن كل قيم الحياة العملية والأسرية وتتكفل بإدارتها. وبالمقابل فإن أسوأ رجال العالم هو الرجل العربي. إنه يختزن كل قيم التخلف والتحرش ويحميها ببلادة حميمية نادرة. لذلك تعرضت المرأة العربية لآسوأ حالات القمع التي تعرضت لها المرأة في أي مكان، على يد الرجل وعجول الفقه. حرمت من التعليم قرونا طويلة، وحملت كل أعباء التربية وإدارة العائلة وحيدة في معظم الأحيان. حملت الجزء الأكثر صعوبة من العمل في الحقل وفي المنزل. وفي الحقيقة أن الرجل العربي كان هامشا سياديا مستبدا فقط في الحياة الإجتماعية. وأن حركة الحياة داخل المجتمع، على الغالب، كانت تغذيها وتديرها وتحمل أعباءها النساء بكثير من الجدارة والصبر والنبل العفوي. وإليها وحدها يعود الفضل في التماسك الإجتماعي الضئيل في المجتمع العربي , سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
باختصار، لا تصلح التجربة العربية كنموذج للعمل الجماعي على الإطلاق لأي شعب من الشعوب. ولا مثلا لشعوب العالم الأخرى. ولا يعني نجاح المهزلة الغربية الحالية في العالم العربي، سوى أن تتعلم الشعوب الأخرى كيف تحمي نفسها من نقائصها الموروثة، وتبدأ بمقاومة الغرب في الشارع والمقهى والمدرسة، وتبصق على الليبراليين وتتعقب العملاء، وتحذر الإعلام المعادي، ولا تنسى دور المرأة الحاسم في أية معركة وطنية. ولكن أهم الدروس المستفادة تظل حماية الحركة الإجتماعية والسياسية من تدخل العصابات الدينوية.
وتلخيصا، أعتقد أن معادلة العلاقة العالمية بين الأمبريالية والشعوب المنهوبة بلغت حدا من التوتر الذي لا يمكن تجاوزه سلميا. لقد خرج الإستبداد الغربي الإمبريالي عن طوره أمام ما يتهدده من حتميات التراجع والسقوط، وقرر اللجوء إلى الدفاع الهجومي في وتيرة مخالفة للموضوعية. فبدل مواصلة روتين الخداع والتحايل والقمع الإضطراري، الذي قد يمنحه فرصة معالجة مشاكله البنيوية المركبة، وإطالة أمد احتضاره الذاتي، قرر أن ينقلب على نواميس الطبيعة الإنسانية والبشرية، وأن يسترد شبابه المستبد، بتاريخ جديد مختلف، يقوم على عولمة الإستعباد، وتغيير البشر أنفسهم بدل تغيير نظامه الإقتصادي. لقد قرر الغاء المنطقة المنزوعة السلاح، ومهاجمة الشعوب في عقر دارها، بآلياته الإستبدادية كلها دفعة واحدة وعلى رأسها الديموقراطية والمارينز والتدييث الإعلامي. لقد رمى الكرة في ملعب المتضررين وهم العالم كله ما عداه. وعلى العالم أن يعطي رأيه الآن. أما هو فقد أعطي رأيه لهم، فيما ينفذه في المشاعة العربية المتهافنة. إما أن يبدأهم بثورته المضادة ويغزوهم بفيروساته التي نشرها بينهم، وإما أن يستبقوه بثوراتهم التحررية، التي تبدأ بالقضاء على تلك الفيروسات المدمرة بدون تردد. وليظروا إلى ما يجري في المشاعة العربية، ويشخصوا تلك الفيروسات ويبدأوا باستئصالها. لا بد من ثورة شعبية على مستوى العالم، ضد أمريكا والغرب والصهيونية وفيروساتها، لإنقاذ الإنسان والعالم معا.