جورج مسوح*
نتابع مقالات المفكّر السوريّ ميشيل كيلو بكثير من الاهتمام. ونرى في ما يكتبه آراء عقلانيّة تفتح أمامنا آفاقا نطمح أن تصل إليها أوطاننا اليوم قبل الغد. وقد أُعجبنا مؤخّرًا بما أبداه كيلو من مواقف مشرّفة بصدد دور المسيحيّين العرب الذي ينبغي لهم أن يؤدّوه في هذه المرحلة التي تشهد انتفاضات على الأنظمة الاستبداديّة الحاكمة بأمرها.
غير أنّ ما نريد أن نناقشه اليوم هو مقالته «مفارقة خطيرة» المنشورة في «السفير» يوم السبت 22 تشرين الأوّل في صفحة «قضايا وآراء»، وبخاصّة حين يقول إنّ «العقل الإسلاميّ قطع شوطًا لا يستهان به نحو العصر وقيمه». وهو يدعم رأيه هذا بالحديث الإيجابيّ عن مواقف جماعة «الإخوان المسلمين»، وعن «وثيقة الأزهر» فيما يخصّ تبنيهما خيار الدولة المدنيّة والديموقراطيّة.
لا يسع قارئ «وثيقة الأزهر»، التي أعلنها الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر، في شأن مستقبل مصر إلاّ أن يلاحظ العديد من الأمور الإيجابيّة التي تتضمّنها. وأهمّ هذه الأمور ما ورد في البند الأوّل عن «دعم تأسيس الدولة الوطنيّة الدستوريّة الديموقراطيّة الحديثة»، القائمة على «دستور ترتضيه الأمّة، يفصل بين سلطات الدولة ومؤسّساتها القانونيّة الحاكمة، ويحدّد إطار الحكم، ويضمن الحقوق والواجبات لكلّ أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب».
غير أنّ القارئ سرعان ما يشعر بالتناقض الفاضح في الوثيقة حين تشترط أن تكون سلطة التشريع المنوطة بنواب الشعب متوافقة «مع المــفهوم الإسلاميّ الصحيح»، وحين تشترط أيضًا «أن تكون المبادئ الكلّيّة للشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساسيّ للتشريع». فيتساءل القارئ: مَن هي المرجعيّة التي تحدّد المفهوم الإسلاميّ الصحيح للتشريع؟ فيأتيه الجواب في البند الحادي عشر الذي يؤكّد على «اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصّة التي يُرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهيّة والفكريّة الحديثة».
عبر هذه الوثيقة ينصّب الأزهر نفسه سلطةً عليا فوق سلطة مجلس النواب. فالكلام واضح ولا لبس فيه، إذ يتعيّن على مجلس النواب المنتخب من الشعب لمهمّة التشريع الخضوع لرأي الأزهر في مسألة سنّ القوانين والتشريعات. وليس لمجلس الشعب أن يقرّ أيّ قانون لا يتفق والرؤيّة «الإسلاميّة الصحيحة» التي يقرّرها علماء الأزهر. وهذا يتناقض وقول الوثيقة بأنّ «الإسلام لم يعرف لا في تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يُعرف في الثقافات الأخرى بالدولة الدينيّة الكهنوتيّة التي تسلّطت على الناس». أليس تنصيب الأزهر نفسه مرجعًا على الدولة إنما هو نوع من أنواع الدولة الدينيّة الكهنوتيّة؟ ألم يقع الأزهر، بذا، في الفخّ الذي يحاول تحذير الناس منه؟
صحيح أنّ الوثيقة تقرّ «لأتباع الديانات السماويّة الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينيّة في قضايا الأحوال الشخصيّة»، غير أنّ هذا لا يكفي للقول بأنّ مواطنة غير المسلمين قد أضحت كاملة بفضل هذا الإقرار. فالمسألة ليست في الأحوال الشخصيّة أو في بناء الكنائس أو في سواها من القضايا، بل في المساواة التامّة في الحقوق والواجبات الفرديّة. وعلى سبيل المثال، سوف ننتظر ما سيقوله الأزهر ومجلس النواب الآتي في شأن زواج المسلمة من غير المسلم الذي تحظّره التشريعات في كلّ الدول الإسلاميّة من دون أيّ استثناء.
ما يؤكّد حذرنا هو رأي الدكتور حسن الشافعي مستشار شيخ الأزهر بالدولة الوطنيّة الديموقراطيّة التي هي، وفق قوله، «دولة الدين الإسلاميّ الرئيسيّ للتشريع (…) فالجميع يجب أن يدرك أنّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة هو ضمان للتعدّديّة وحرّيّة الاعتقاد وممارسة العبادات لأصحاب الديانات السماويّة الأخرى، الذين تكفل لهم الشريعة الإسلاميّة أيضًا الاحتكام إلى شريعتهم فيما يتعلّق بشؤونهم، وبالأخصّ في الأحوال الشخصيّة». ليست الشريعة الإسلاميّة هي الضمان للتعدّديّة وحرّيّة الاعتقاد… بل الدولة المدنيّة الحقيقيّة التي تحترم الاعتقادات الدينيّة والتي لا سلطة دينيّة تعلو عليها، هي الدولة المدنيّة التي يعود سلطان التشريع فيها إلى الشعب وحده ممثلاً بنوابه المنتخبين.
مع ظاهر الإيجابيّات التي تتضمّنها الوثيقة الأزهريّة، ثمّة أفخاخ عديدة قد تؤدّي إلى عكس ظاهرها. وليس التأكيد على مرجعيّة الأزهر، الذي يمكن وضعه في سياق قطع الطريق أمام مرجعيّات سلفيّة أو متشدّدة، سوى تأكيد على مأزق الفكر الإسلاميّ في شأن الدولة المستقبلة. متى ستخرج المؤسّسات الدينيّة من الازدواجيّة في الخطاب، ومن الجمع ما بين أمرين لا يجتمعان؟
أمّا جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر فقد استقبلت رئيس الوزراء التركيّ طيّب رجب أردوغان في مطار القاهرة بشعارات «مصر وتركيا خلافة إسلاميّة». ولم يتوانَ الناشطون الإسلاميّون أنفسهم عن ترداد الهتافات المؤيّدة للخليفة العتيد «أردوغان أردوغان تحيّة كبيرة من الإخوان». غير أنّهم سرعان ما تخلّوا عن تأييدهم لأردوغان الذي خيّب آمالهم في اليوم التالي حين تحدّث عن إيجابيّات العلمانيّة والدولة المدنيّة، وعدّوا كلامه تدخّلاً غير محمود في شؤون مصر الداخليّة.
لو تحدّث أردوغان عن عودة الخلافة بعد زوالها منذ نحو تسعين عامًا، ودعا المصريّين إلى الانضواء تحت لواء الخلافة المتجدّدة لما كان الإخوان اعتبروا ذلك تدخّلاً في شؤون بلدهم. ذلك أنّ الإخوان يعتبرون أنّ الأمّة الإسلاميّة شاءها الله موحّدة في دولة واحدة. وعلى غرار جمال الدين الأفغاني، أحد ملهمي حسن البنا مؤسّس الجماعة لكانوا، على الأرجح، اعتبروا أنّ الرابطة الدينيّة التي تجمع المسلمين إلى أيّ بلد انتموا إنما هي أقوى من الرابطة الوطنيّة. وتاليًا، ما يجمع المسلمين من الأتراك والمصريّين أقوى من أيّ رابطة أخرى.
نعم، ثمّة علماء، وهم قليلون نسـبيًّا، يدعون إلى تأسيس «دولة مدنيّة»، لكن بـعد تفريغها من كلّ معنًى مدنيّ من حيث إنها تستلهم الشريعة الإسلاميّة في كلّ حال، وبخاصّة في ما يتّصل بالأحوال الشخصيّة. نحن في حاجة إلى اجتهاد إسلاميّ جديد يطمئننا إلى أننا سنحيا مواطَنتنا الكاملة، والمساواة في الحقوق والواجبات. ولا نريد تحت ستار «الدولة المدنيّة» المزعومة أن نحيا في ظلّ بابويّة قروسطيّة، ولا في ظلّ ولاية الفقيه، ولا في ظلّ ولاية أزهريّة أو سواها من الولايات الإلهيّة.
المسيحيّون، كالمسلمين في هذه البلاد، يتوقون إلى الحرّيّة والمساواة التامّة بين أهل الوطن الواحد. هم يريدون زوال الأنظمة الاستبداديّة التي لمصالحها الخاصّة جعلتهم يلوذون بها حصنًا واقيًا من حركات التطرّف الدينيّ. لكنهم إذا تاقوا إلى الحرّيّة فإنما يتوقون إلى نظام يحترم الحرّيّات، ليس فقط الحرّيّات الدينيّة والعباديّة بل السياسيّة أيضًا. هم يتوقون إلى دولة مدنيّة، لا دينيّة ولا مذهبيّة، لا تنتقص من حقوق أحد لأنه مخالف بالدين للغالبيّة من المواطنين.
:::::
* أستاذ في جامعة البلمند ( لبنان )
المصدر: “السفير”