الربيع العربي بين الفوضى والنهضة

سركيس ابوزيد

1) يشهد العالم العربي حسب بعض المفكرين مرحلة انتقالية تاريخية تمهد لتحولات جذرية. ويخلص هؤلاء الى حكم متسرع “ان العودة الى الوراء تبدو شبه مستحيلة”.

هذه النظرة التفاؤلية تغيّب عن قراءتها مقولة اساسية وهي الصراع ونتائجه المرهونة بموازين القوى ومحاولات الثورة المضادة والمساعي الاحتوائية من قبل قوى الاستكبار العالمية واسرائيل والرجعية العربية. وفي هذا المجال اذكر بما اثارته الثورة العربية الكبرى التي اعلنها الشريف الحسين في العام 1916، والتي كانت تحلم باستعادة الكرامة العربية وانشاء دولة عربية متحدة مستقلة عن الامبراطورية العثمانية. ولكن سرعان ما انتهت الى خيبة ونكسة ادت الى تقسيم المنطقة العربية على اساس اتفاقية فرنسية ـ انكليزية عرفت باتفاقية “سايكس بيكو” وتنفيذ وعد بلفور للصهيونية باقامة دولة اسرائيل في قلب العالم العربي.

كل عربي مخلص لا يتمنى ان تنتهي الثورات او الانتفاضات العربية القائمة الى نكسة جديدة لكن المراقب الموضوعي لا يستطيع ان يغفل امكانية “العودة الى الوراء” وخصوصاً ان مشاريع تقسيم العالم العربي لا زالت هدف ومسعى جدي للمخططات الصهيو – أميركية وملامحها تخيم على السودان وليبيا واليمن والعراق فضلاًَ عن الدول العربية الاخرى. كما نشهد أيضاً انتشاراً واسعاً للفوضى وللقوى التكفيرية، ما يزيد المخاوف على الحرية والنهضة الوطنية. لذلك يشهد العالم العربي تحولات باتجاهين اما ولادة عالم عربي جديد يؤسس لنهضة عربية جديدة وعلاقات عربية اتحادية وتكاملية واما اعادة ترتيب البيت العربي على اساس تشكيل كيانات طائفية وعرقية وجهوية على قاعدة رسم حدود تقسيمية جديدة تفتت المُفتت. والكلام عن سايكس بيكو جديد ليس بكلام غريب او بعيد عن مسار الاحداث الجارية على ارض الواقع.

لا شك ان الدولة العربية القطرية الراهنة تواجه ازمة مصيرية لكن لا يمكن الجزم بانها ستتحول ايجاباً الى النهضة والتكامل طالما ان احتمال حرفها الى التجزئة ما زال وارداً وممكناً خصوصاً بسبب غياب القوة الوطنية الذاتية والقاعدة القومية القادرة على حماية منجزات الثورات العربية.

ويمكن التوسع في الاضاءة على عوامل العرقلة ، مثل التشكيلات القبلية والجهوية والطائفية داخلياً , وادوات السيطرة الغربية التي تسعى الى ابقاء المنطقة خزان بشري راكد، وخزان نفط سيال، وخزان استبداد ينتمي للعالم القديم.

يضاف اليها العامل الاسرائيلي ومشاريع الفوضى و التقسيم والاحتواء التي قد لا تؤدي فقط الى “المحافظة على الوضع القائم” ، بل قد تحرف الثورات العربية عن اتجاهها الايجابي الى مزيد من التبعية والارتهان وذلك من اجل ضمان امن اسرائيل من جهة ومزيد من الهيمنة الغربية عبر التقسيم والفتن الدورية والفوضى والحروب الاهلية المستمرة من جهة اخرى.

لذلك مطلوب النظر بتمعن وحذر الى المرحلة الانتقالية لجهة الكشف عن طبيعة الصراع باتجاهيه التقدمي والرجعي وموازين القوى (العربية والدولية) وقدرة القوة العربية التغيرية الصاعدة على امتلاك رؤية وإرادة لإنجاز مهماتها الثورية في قيام نظام جديد قادر على حماية إنجازاته داخل مجتمعه وفي جواره القومي.

لهذه الاسباب “العودة الى الوراء” امكانية واردة ولا يمكن استبعادها لأن حركة الصراع ليست حتمية الاتجاه. بل هناك فرصة للتغيير والتقدم الى الامام وفي الوقت عينه هناك احتمال للنكبة والتراجع الى الوراء ومزيد من التبعية والرجعية. (تنامي الحركات التكفيرية اكبر دليل).

2) يحاول بعض المفكرين استنباط نظرية جديدة لفهم التحولات العربية التي لا يمكن صياغتها حسب رايهم “بالاستناد الى عامل محدد” ثمة تداخل عوامل .

في ايار نشرت مقالة في مجلة تحولات لتفسير الثورة المصرية ذكرت فيها أنها “ثورة مركبة لها اسباب مادية – نفسية قام بها الشعب بمختلف فئاته وطبقاته، ضد نظام متعاون مع العدو الخارجي (اسرائيل واميركا) ومتحالف مع طبقة مستغلة مستفيدة وقامعة (كبار الرأسماليين وكبار رجال الامن وحاشية من الاقرباء). انها ثورة الانسان المقهور مادياً ونفسياً من اجل لقمة العيش والكرامة معاً من اجل الحرية والعدالة والعزة القومية ضد البؤس المادي (الاقتصادي – الاجتماعي) والاذلال الروحي – المعنوي (الوطني القومي الانساني) “.

ان النظرة الجديدة للربيع العربي تقوم على مبدأ التفاعل بين الاساس المادي (البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصاد) والبناء النفسي الروحي (القيم، الثقافة، الفكر، المعارف والوجدان…).

الانسان هو المقياس والوسيلة والهدف وفيه تلتقي العوامل والدوافع والابعاد فهذه المفاهيم تبقى مجرده اذا لم تتحول الى شعور ووعي وارادة وفعل ضمن ظروف موضوعية وذاتية مؤاتية.

لذلك الكرامة بحد ذاتها تبقى شعاراً ومثالاً وليس فعلاً اذا لم يحولها الانسان والمجتمع الى قوة تغير.

دريد لحام في مسرحية “كاسك يا وطن” اشار الى ان المواطن العربي يفتقد الى الكرامة لكن هذه العبارة لم تتحول الى فعل عملي الا عندما يشعر بها الانسان ويعيها ويحولها الى ارادة وعمل والتزام جمهور واسع بالتالي تصبح قوة فعل وتغير في الواقع التاريخي.

ان محنة الانسان في العالم العربي تنطلق من ان الانسان يعاني من البؤس والقهر والاذلال ومن مختلف العوامل والابعاد .

ان تفسير الظواهر الاجتماعية لا يمكن ان يفهم بواسطة قوانين تجريدية ومقولات مطلقة لان الواقع الاجتماعي يختلف عن الواقع الطبيعي والموضوعات الميتافيزيقية لوجود دور وفعل للانسان الذي تحركه مصالح مادية ـ روحية وهو يمتلك امكانات وقوى قادرة على الاختبار والفعل والوعي والتخيل والتذكر. لذلك يجب اعطاء اولوية للانسان في النظرية السياسية والاقتصادية والتاريخية.

لذلك دراسة الواقع الاجتماعي تنطلق من المجتمع والانسان وهو مركب اجتماعي اقتصادي نفساني ويمكن فهم الظواهر الاجتماعية على اساس فهم حركية الانسان في المجتمع.

وهي حركة مستمرة في مكان وزمان محددين ولها اتجاه عام يحدد طرفي فعلها تاركاً المجال لحيز من الحرية التي هي اختيار الممكن والضروري لتحديد العوامل والدوافع والابعاد التي تؤثر في موقفه وموقعه.

باختصار: المطلوب هو درس حركية الانسان العربي اليوم في مكان محدد وزمان معين لفهم دوافع غضبه وثورته وآلية تحول وعيه الى عمل تنفيذي وفعل في التاريخ.

3) اشار البعض الى دور الشباب والاعلام، ويمكن التوقف طويلاً عند هذا الموضوع الذي اثير في شكل واسع خصوصاً لما للطلاب من دور فعال في عملية التغيير لأنهم من خارج القوى الطبقية التقليدية وذلك بسبب عامل الوعي والمعرفة والاعلام.

وهنا اريد ان اشير الى ان الاعلام عامة والفايسبوك تحديداً هو وسيلة تقنية لنقل المعلومات والمعرفة والوسيلة رغم اهميتها لا تولد الوعي والفعل بذاته بل بقدر ما تحمل رسالة ومضمون.

الثورات العربية احسنت استعمال الفايسبوك (في اليمن انتشار الانترنت محدود). لكن الجماهير العربية تحركت ليس بفعل الاعلام الافتراضي الذي له دور احياناً في التضليل والالهاء بل تجمهرت في الجوامع خلال صلاة يوم الجمعة وقد تجمعت في الساحات والشوارع والميادين حيث يتم اللقاء وجهاً لوجه (فايس تو فايس Face To Face) بدوافع مادية ونفسية (البؤس والكرامة) وايمانية احياناً (الصلاة).

4) توقف البعض مندهشاً عند ظاهرة “البوعزيزي سندروم” واعتبرها خيمياء الواقع الاجتماعي – السياسي واعطاها بعداً صوفياً و تعبيراً عن إرادة إلهية و مؤشر الى “عودة الميتافيزيقا الى حلبة العلم”.

ان الاستشهاد هو فعل انساني عرفته حضارتنا القديمة وثوراتنا المعاصرة . ان الانسان الذي يموت اختياراً لتحيا قضيته من بعده عرفها الآلهة وتموز منهم، والديانات السماوية والمسيح ابرزهم وحركات الفداء من فلسطين الى لبنان الى غيرها عرفت قافلة من الشهداء العلمانيين والقوميين والاسلاميين، لان الظروف الاجتماعية – الاقتصادية – القومية توفر له الدافع الموضوعي. حيث يلتقي عاملين اساسيين هما: البؤس والاذلال مع الوعي والارادة تنفجر لحظة عنف ثوري تغير رتابة الواقع، وبالتالي لا يمكن حصرها “بعودة الميتافيزيقيا” لأن دوافع الاستشهاد لا يمكن حصرها باسباب جهادية دينية ومن اجل جنة ما ورائية بل استشهدوا احتجاجاً على البؤس والظلم والفساد لتحرير ارض قومية ومن اجل قيام العدالة والمساواة والحرية والكرامة على الارض.

ان “لحظة البوعزيزي” غير معزولة عن الظروف المجتمعية المادية – النفسية للانسان في مكان وزمان محددين باوضاع خارجية / داخلية، اقتصادية وقومية لتفجرها.

5) حتى لا نقع في الاستنساب والاجتزاء هل يمكن وضع قاعدة واحدة لتقييم الربيع العربي رغم تنوع البلدان التي فجرها ورغم تعدد الظروف التي احتضنته ؟

ثمة اقانيم ثلاث متكاملة :

أ – مقاومة مشروع الهيمنة الاميركي الاسرائيلي.

ب – وحدة المجتمع ورفض كل اشكال التقسيم والفوضى.

ج – بناء نظام جديد مدني ديمقراطي مقاوم يحقق المساواة

والعدالة والنهضة.

اخيرا، نقول مع الثورة المصرية بانه ليس فقط “الاسلاميون لم يختفوا لكنهم تغيروا” بل ان القوميين والليبراليين واليساريين والمثقفين والمفكرين العرب ايضاً مطلوب منهم ان يتغيروا بعد ان اختفوا.

ختاما مطلوب مبادرة تتوج بندوة مفتوحة يشترك فيها المقاومون الاسلاميون والقوميون واليساريون والعلمانيون من اجل بلورة رؤية عربية جديدة للمقاومة والنهضة والحرية معاً، رؤية متعددة الافاق وتتجاوز زمن البعد الواحد الذي اسرنا.