سمير كرم
انتهى عهد معمر القذافي في ليبيا. هذا امر مؤكد، او على الأقل شبه مؤكد، الى ان يثبت عكس ذلك. لهذا فإن كل الاهتمام ينبغي ان يوجه الى ليبيا العهد الجديد.
فهل يصلح قتل القذافي وبالطريقة التي قتل بها بداية للعهد «الثوري» «الديموقراطي» في ليبيا؟ والسؤال هو نفسه اذا ما وضع بصيغة اخرى هي، هل الطريقة التي انهيت بها حياة القذافي تنبئ عن الطريقة التي سيتعامل بها النظام الجديد مع اعدائه. والمؤكد ان للنظام الجديد اعداءً حتى وإن استبعدنا «القذافيين» منهم؟
ان هذا القتل، وبهذه الطريقة، لا يصلح بداية لعهد جديد يعلن الديموقراطية والحرية والتسامح والصفح والتـصالح، مبادئ اساسية جديدة لإعادة بناء ليـبيا. ربما لهذا حرص المجلس الانــتقالي علـى ان يؤجل موعد اعلان تحرير ليبيا الكامل الى ما بعد ثلاثة ايام من قتل القـذافي، بعد ان تبين ان هذا القتل لن يمر من دون تسـاؤلات وإجابــات بديلة، خاصة من جانب الاعلام الغربي، اعلام دول حلف الاطلـسي؟ لقد ترددت بكثرة تساؤلات عمن قتل وعمن اصدر امر القتل بعد ان كان القذافي في لحظاته الاخيرة قد ذاق التعذيب على ايدي آسريه في سرت، واستخدمت ضده كل الوان الإهانة من ضرب وسحل وشتم. وفي الحقيقة فإن جنرالات حلف الاطلسي هم من اصدروا امر إطلاق الرصاص على القـذافي بعد هذا كله. فقد كانت لهم السيطرة الكاملة من الجو على كل جزء من التراب الليبي «بعد تحريره»، وكانوا هم الذين قادوا الثوار في سرت الى مكان القذافي لإصدار الأوامر والتعليمات والتوجيهات اليهم، وكانوا على اتصال هاتفي (الكتروني) مباشر معهم طوال الوقت. وتشير الدلائل الى ان ( محمود )”احمد” جبريل الرجل الثاني ـ القادم من اميركا ـ في المجلس الانتقالي، كان حلقة الاتصال بالعربية بين جنرالات الاطلسي والثوار قبل وبعد سقوط القذافي في الأسر او اعتقاله. إن السلطة التي كانت قائمة في ذلك الوقت والتي تملك قدرة السيطرة الكاملة على التراب الليبي هي المسؤولة، بمن فيها قيادات حلف الاطلسي. وهذه القيادات لم تكن ـ كما توهم كثيرون ـ تقتصر على قيادات القوات الجوية. كان هناك رجال المخابرات من دول الاطلسي المشاركة، وقد أذاع الاعلام الغربي ان المخابرات الالمانية، على وجه التحديد، هي التي دلت على مكان وجود القذافي في الدقائق التي سبقت إلقاء القبض عليه.
بل إن بعض الاعلام الغربي اشار الى احتمال ان تكون هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الاميركية ـ التي زارت ليبيا قبل 48 ساعة من القبض على القذافي وغادرتها قبل وقوع هذا التطور المهم، هي التي اصدرت الامر الاساسي بقتل القذافي وعدم الإبقاء عليه حـياً ليـساق الى المحاكمة. خاصة انها طالبـت بالقبض علـيه وإعدامه وهي في ليبيا ولم تطالب بمحاكمته. ومفهوم تماما ان محاكمة القذافي لم تكن تلائم الدول الاطلسية وبخاصة الولايات المتحدة. فالرجل كان يعرف اسراراً عن العلاقات بينه وبين الغرب تشيب لها الرؤوس. ولكن كلينتون عادت فضمت صوتها الى المطالبين بالتحقيق في مقتله عندما تطرقت الى الموضوع مرة ثانية في واشنطن يوم الاحد الماضي.
لقد نفذ حلف الاطلسي المهمة كاملة في ليبيا، ومع ذلك فإن اعلان انهاء المهمة العسكرية لم يتزامن مع اعلان تحرير كامل ليبيا من جانب المجلس الانتقالي، انما تأجل الى ما بعد ذلك. فقيادات الاطلسي الميدانية وقياداته الاعلى في عواصم اميركا وأوروبا لديها تصور او معلومات اوضح من ان تعتبر ان المهمة انتهت. انها ترى ان صراعات القوى السياسية المتباينة في ليبيا بعد قتل القذافي وإعلان التحرير الكامل ستحل بالتأكيد محل الصراع السابق مع القوى القذافية. وليس معنى هذا ان القيادات الاطلسية لا تريد هذا الصراع ان يقع. إنه صراع مطلوب لتصفية القوى الليبية التي لا تتلاءم مع مصالح حلف الاطلسي. والسؤال الأهم الآن هو اذا كان حل الصراع او الصراعات التالية في ليبيا سيقع على عاتق المجلس الانتقالي تحت توجيه الادارة الاميركية او القيادات الاطلسية في ليبيا او في عواصم اوروبا، ام انه يمكن ان يتطلب مد فترة بقاء ـ وربما زيادة قوات ـ الاطلسي في ليبيا بقرار اطلسي لا يصعب الحصول على موافقة عليه من السلطة الجديدة. حتى لو افترضنا ان الوقت سيأتي حين تشعر السلطة الجديدة في ليبيا ان طلب المساعدة من الدول الغربية كان ورطة من جوانب كثيرة لأي حكم وطني ليبي(…).
لا نعرف من الآن اذا كانت القيادات الأطلسية العسكرية او المدنية تعرف من يوافق مصالحها في ليبيا اكثر من غيره من القوى التي تتسلم السلطة في ليبيا خلال الاشهر القادمة. ولكن من المؤكد ان القوى الاطلسية تعرف جيدا ان المصالح الاميركية تملك اولوية على غيرها من مصالح الاطلسي، وأن هذا لا يعني ان وئاماً اطلسياً كاملا سيحل في الشأن الليبي، ولا بد ان نضع في اعتبارنا ان الولايات المتحدة قد تمكنت من إخضاع الامم المتحدة من بداية هذا الصراع حتى الآن، وهذا اصعب كثيرا من إخضاع الحلف الغربي، بسبب أعداد الدول الاعضاء في الامم المتحدة واختلاف اتجاهاتها ومصالحها بالمقارنة بأعداد الدول الاعضاء في حلف الاطلسي وتجانس المصالح بينها الى حد لا يستهان به.
وقد بدت في الآونة الاخيرة بوادر صــراع داخل الامـم المتــحدة يتعلق بقتل القذافي والطريقة التي اعدم بها، عندما قررت لجنة حـقوق الانسان فتح تحقيق دولي في هذا الامر. وليس من المستبعد ابدا ان تـكون الامم المتحدة مستعدة للسير في تحقيق من شأنه إضـعاف الحـكم الليبي الجديد. وليس من المستبعد ابدا ان يكون هذا القرار متمـتعاً بتـأييد الولايات المتحدة بهدف إضعــاف الحكم الليبي الجـديد ليبـقى بحـاجة الى الدعم الاميركي، وذلك لأن من شأن التحـقيق الدولي في مـقتل القذافي ان يثير من العواصف داخل ليـبيا ما يفاجـئ السلطة الجديدة ويضطرها مرة اخرى الى طلب تأييد الغرب، وخاصة اميركا.
والملاحظ ان الاعلان يوم الاحد الماضي عن تحرير ليبيا الكامل قد حرص على ان يتضمن كل التطمينات من المجلس الانتقالي ـ وخاصة على لسان رئيسه المستشار مصطفى عبد الجليل ـ عن حكم دولة القانون وعن الصفح والتسامح.
الامر المؤكد ان المرحلة القادمة في ليبيا التي ستسودها المحاولات من جانب السلطة لجمع السلاح من ايدي «الثوار» لن تكون مرحلة سهلة. فالسلاح منتشر في ايدي الليبيين بصورة لم يسبق لها مثيل ربما في اي بلد اخر ـ ولسنا نقصد هنا البلدان العربية وحدها- والسلاح مصدر للسلطة ولا احد يتنازل عن السلطة عن رضى وبصدر رحب، خاصة في الظروف السياسية الراهنة في ليبيا وفي ضوء المسافات الشاسعة التي تفصل بين مناطق ليبيا المأهولة. يضاف الى هذا كله تركيبة ليبيا القبلية ذات الطابع الخاص الذي يستوجب الاحتفاظ بالسلاح كمصدر للأمان والأمن.
ربما كان السؤال الاكثر الحاحاً الآن من كل الأسئلة المثارة بشأن ليبيا هو السؤال الذي تفرضه اعتبارات وجود ثورات اخرى في الوطن العربي، وخاصة حول ليبيا جغرافياً- في مصر وتونس – وحولها سياسياً في سوريا واليمن، والغد مفتوح على احتمالات عدة، هو لماذا حدث ما حدث في ليبيا بالذات؟
وثمة إجابات كثيرة سريعة على هذا السؤال. ربما يكـون من بينها التركيبة القبلية الليبية، كما ان من بينها انطلاق الثورتين التونسية والمصرية في الجوار المباشر لليبيا، ومن بينها السهولة والسرعة التي إليها القوى «الثورية» الى طلب التدخل الاجنبي. لكن من المستحيل الاعتقاد إن «طبيعة الشعب الليبي» كانت سبباً مباشراً لما حدث، خاصة في طريقة التعامل مع القذافي بعد القبض عليه. لا احد يستطيع ان يرمي الشعب الليبي بقدر من الميل للعنف والدموية يتجاوز ما تتسم به الشخصية التونسية غرباً او الشخصية المصرية شرقاً. انما هي السهولة والسرعة التي لجأت إليها القوى «الثورية» الى طلب التدخل الاجنبي. لقد لعب التدخل الاجنبي دوره الذي اضفى هذا العنف وهذه الدموية على السلوك الليبي تحت توجيه القيادات الاجنبية، من اللحظة الاولى لهذا التدخل حتى اللحظة التي افترض ان تكون الاخيرة، وهي لحظة القبض على القذافي وما جرى له قبل ان يقتل.
لقد اعطى التدخل الخارجي في ليبيا درساً عميق الاثر للثورات العربية. ان هذا الاستعداد لطلب التدخل الخارجي هو ما ادى الى إعطاء الثورة الليبية على نظام استبد بليبيا طيلة اثنين واربعين عاما هذا الطابع اللانساني العنـيف والدمـوي. ولو ان المواجـهات بين الثوار ونظام القذافي وقعت من دون تدخل خـارجي، لما كان يمكن ان تطول المواجهات لفترة زمنية اطول مما طالت مع التدخل من جانب حلف الاطلسي. لسوف يسجل التاريخ لحلف الاطلسي انه اطال زمن القتال والقتل في ليبيا بأكثر من احتمال النظام الذي بدا معزولا وممقوتا من الغالبية العظمى للشعب، لكن مصالح المتدخلين من الخارج املت لهذه المواجهات شروطاً لاءمتها اكثر مما لاءمت الثوار.
بالتالي فإن ما حدث في ليبيا ابتداءً من التدخل الغربي قابل للحدوث في اي من ثورات الربيع العربي شرط ان يتحقق شرط التدخل الخارجي الذي يحسب قيمة مصالحه فوق كل قيمة اخرى. ولهذا فإن على من يطلب التدخل الخارجي ان يعرف انه سيكون عبداً يُؤمَر فيطيع.
هذا درس لا تفوقه في الاهمية كل دروس الثورات الاخرى، وقد علمت ليبيا ثورات الربيع العربي الاخرى درسا ليس في مقدور احد ان يعلمه او يتعلمه اذا كان بصدد ثورة. لهذا يمكننا ان نجزم بأن ما حدث في ليبيا لا يمكن ان يحدث في مصر او تونس او اليمن او في سوريا الا اذا اتيح لحلف الاطلسي كليا او جزئيا ان يتدخل بالقوة لحساب طرف ضد الآخر او الآخرين.
ليبق حلف الاطلسي بعيدا باي ثمن حتى لا يتكرر ما حدث في ليبيا.. حتى لا تتهم ثورات الربيع العربي بأنها ثورات العنف الدموي، وحتى لا تتهم الشعوب العربية بأنها تميل الى الوحشية وتحتاج الى من يلجم نزعاتها الى العنف وسفك الدماء. الامر الذي يتطلب ان يفرض عليها حكم الخارج وقراراته.
::::
المصدر: “السفير”، http://www.assafir.com