قراءة مختلفة لإستحقاق أيلول

السياسي والمثقف: من الحياة مقاومة إلى مفاوضات

العامل الحاسم: الخطاب، نمط الإنتاج أم التمويل؟

(الجزء الأول)

عادل سمارة

فاتحة شغل

كتب كثيرون بتنوعاتهم وكتبتُ ايضاً في ايلول 2011. وغامرت بنعتَه ب أيلول الأسود بينما أكثرية النخبتين السياسية والثقافية وملاحقهم من البسطاء إلى حد عميق رأوه انبلاج صباح! كان ذلك أن سألتني الرفيقة رولى ابو دحو، المحاضِرة في جامعة بير زيت، أن أتحدث عن ايلول هذا في جامعة بيرزيت قبل 23 ايلول 2011، مقابل متحدث أو اكثر. وافقت على الاقتراح، لكنها بعد بضعة ايام هاتفتني معتذرة بأن ظروف الجامعة معتكرة لإشكالات الأقساط. وكنت بدأت التحضير الذي خلاله وصلت إلى ما هو أهم من “الهمروجة” التي احاطت ولا تزال بهذا الأيلول، وهذا الأهم، أجدر أن يُقال فيه قولاً مختلفاً ومخالفاً: كيف وصلنا إلى هذه المحطة؟ اية سياقات في الواقع والخطاب والسياسة هي التي أوصلتنا هناك. فالعبرة ليست في الاشتباك في المحطة، وإنما العبرة في تحليل السيرورة كي يستفيد منها الآتون، وليس المنتهون صانعو مرحلة لا يمكن رتق ثقوبها مما يستدعي النسف والتجذير، وهذا معنى التاريخ.

كيف انتقل النضال الوطني من نضال الجماهير كي يُوكَّلَ لمهارات النخبة السياسية والثقافية، بل يُختطف دون مبايعة أو توكيل؟

كيف جرى تهميش الأكثرية الساحقة من الناس وصار الإنشغال فنيا وسياسياً وقانونياً؟

ما العلاقة بين التهميش السياسي والتهميش الإنتاجي؟

هل البطالة الوطنية مشروعة تحت استعمار استيطاني؟

ألا يهدف التهميش تعمية الذاكرة الوطنية حتى جانبها الطازج والجاري للقطع بشكل ما بعد حداثي مع السردية الوطنية الكبرى؟

حاملٌ هذه الورقة بعدة معالجات ملخصها، آليات وصولنا إلى ما نحن فيه، وليس التفجُّع على أو الاحتفال بما نحن فيه. منها دور موقع الإنتاج والتمويل في التحولات السياسية للنخبتين السياسية والثقافية مما أحلَّ قيمة المفاوضات بديلا لقيمة الحياة مقاومة. وتوضيح، إن نجحتُ في ذلك، أن ما يدور هو استدخال للهزيمة وليس مجرد انزياح أو تحوير.

في مواضع معينة كان لا بد من ورود اسماء فاعلين/ات بما نحن نعالج اغتيال مرحلة في السياسة اليومية التي يمكنها تضليل الكثيرين ليتببعوا البعض دون علم.

من هنا ليست هذه كتابة في الأدب تراوح بين الرمزية والتحوير والانزياح والإزاحة، بل هي محاولة للسيطرة على عين الواقع وتوليد المخفي والمستور، وهذا شغل المثقف/ة النقدي الثوري والمشتبك. إنها مخاطرة العودة إلى أرض المعركة لنزع الألغام من طريق الآتين.

سأحاول حصر التحليل في المحتل 1967، مع الذهاب ليس بعيدا إلى المحتل 1948 واالشتات وذلك لمقتضيات حصر الموضوع لا حصار هوية مجتزأة ومشظاة.

(1)

في الأصل كانت المقاومة

تجسد اللحظة الحالية ذلك الصراع المر بين الحياة مقاومة والحياة مفاوضات. بين التصدي وبين التماهي، بين الخلق وبين التلطي، بين الرفض وبين استجداء الاعتراف. يقوم السياسي واقفاً أو مرتكزاً على تنظيرات الثقافي وهي تنظيرات من قامة التبريرات في أحسن أحوالها، يقوم بتقاسم وطنه مع العدو، الصفقة الكبرى، تتبعها صفقات اخرى بتبادل أرض مقابل ارض وسكان مقابل سكان، اي تحويل الوطن إلى مكان والأرض إلى سلعة (قيمة تبادلية لا استعمالية) والناس إلى أقنان. وهذا يكشف طبقياً كيف يكون الوطن والأرض قيمة استعمالية للمواطن والمقاوم وقيمة تبادلية للسياسي والمثقف.

صاغ ثوماس هوبس نظريته عن انحصار المعارضة في بطن الدولة الوحش الكبير الذي تحتوي معدته الضخمة ديداناً صغيرة، وهذا ما التقطه فوكو ليؤكد قول هوبس، دون ان يعرف عن مقولة النابغة[1]، بأن المقاومة محكومة بأفق أو مدى تصوغه الدولة لها كي تتلوَّى في أحضانها.

لم تتجلَّس في وعيي بعد مقولة “الثقافة الفلسطينية” ولا أعتقد ولا أرغب. اراها ابتساراً من الثقافة العربية يحركها السياسي القُطري بوعيه الضيِّق واللاتاريخي، وهنا بمفهوم النخبة وليس بمفهوم الصراع الشعبي في هدوئة وسكونه الظاهريين وانفجاره مسلحاً أو انتفاضياً. مفهوم النخبة تجسيد لقطرية/إقليمية فلسطينية محفوزة بمصالح طبقية صغيرة لنخبة كمبرادور تبحث عن شقفة من الوطن لتقيم عليها مشروعها الاقتصادي التابع في مشابهة مع مشروع الصهيونية الاستيطاني الأبيض نفسه إذا اردنا القراءة برؤية الاقتصاد السياسي. قد يفسر تقولي هذا اختيار القيادة الفلسطينية للحكم الذاتي بديلاً لمشروع التحرير الوطني.

أليست الثقافة الفلسطينية جزءا من الثقافة العربية؟ إن هذا التركيز على توليد قسري لثقافة فلسطينية مستقلة هو إسقاط لا واعٍ من العقل القُطري الإقليمي الفلسطيني محفوزاً بالمصلحة الطبقية للكمبرادور. المجتمع الفلسطيني شظايا، شقف، كما أن تركيبه الطبقي والإنتاجي بسبب فصله عن المجتمع العربي الأساس وبسبب اغتصاب فلسطين ليس حالة طبيعية ليس تشكيلة مكتملة حتى يُنتج ثقافة خاصة به، إن كانت ضرورية خارج سياقها العربي[2]. إن فك الفلسطيني عن الثقافة العربية هو جسر لتمرير زعم خلق الصهيوني للفلسطيني، بغض النظر إن كان زعم خلقه على شاكلته أم لا (كما سنرى) علماً بأن الصهيوني أكثر من اي استعمار استيطاني آخر هو تصفوي. ولكن، لأنه، اي الفلسطيني، في نفس الوقت ليس حالة صامتة وكتيمة وكسولة، فهو كأي شعب له روحه الداخلية، ذاته، التي تنتفض فتقاوم مما يُبقيه مرشحاً لإبداع حالته الخاصة تفاعلا مع شروطه الخاصة التي يجب ان تجد نفسها في الموقف الشعبي الجمعي المتوازن رغم الضربات وليس في رغائب النخبة، والمهم أن هذه أل “خاصة” ليست “فرادة” بالمعنى العرقي التميُّزي، كما أنها متواشجة مع العمق العربي.

لذا، في الأصل كان الوجود الشعبي كجزء من الأمة العربية وثقافتها، وبتحدي الاستيطان الأبيض كانت المقاومة ومن ثم ثقافة المقاومة. منذ بدايات الغزو الصهيوني انقسم الفلسطينيون (والعرب المالكون في فلسطين) إلى المقاومة والتماهي، بين من يرفض التعاطي مع المشروع الصهيوني بإخضاع الوطن لإيديولوجيا السوق وتحويل الأرض إلى سلعة للبيع مشتغلاً بآليات السوق بقانون القيمة. ولنلاحظ كذلك أن الموقف من هذا الغزو سواء في بداياته السلعية التجارية (بالمفهوم الراسمالي الأميركي كل شيء قابل للبيع) أو لاحقاً في غزوه المسلح كان موقفاً طبقياً. فبينما رفض الفلاحون بيع الأرض قامت العائلات الارستقراطية والتجارية بالبيع ودور القومسيونجية ايضاً. لذا كانت مقاومة الفلاحين طبقاً لعلاقتهم بالأرض كقيمة استعمالية لا كقيمة تبادلية. بمعنى مشابه جادل إميلكار كابرال، وهو مفكر أفريقي ومقاتل بالسلاح، بأن “…السمة العامة لأي نوع من السيطرة الاستعمارية هي تقويض قوى الإنتاج… وبأن ثقافة المقاومة انطلقت وارتكزت على “…قاعدتها المادية، مستوى قوى الإنتاج ونمط الإنتاج…وبأن هدف حركة التحرر الوطني هو استعادة الحق الذي هُضم أي تحرير تطور قوى الإنتاج القومية[3]“. بهذا المعنى، فإن المقاومة هي المبتدأ وليست بالتالي من خلق المستعمِر، وهي هنا مقاومة وثقافة مقاومة قائمة على أرضية مادية، ارضية العلاقة بقوى الإنتاج.

إن قراءة سيرورة النضال الفلسطيني حالة كشف عن توازي المنهجين وتناقضهما كمقاومة وتفاوض منذ ستينات القرن التاسع عشر وحتى اللحظة. وعليه، يجب قراءة ما كُتب عن المثقف الفلسطيني بدقة وحذر. نعم، كانت قلة من المثقفين (عبد الرحيم محمود، ابراهيم طوقان، خليل السكاكيني) منتمية إلى الأكثرية الشعبية اي الطبقات الشعبية التي عاشت من الأرض كقيمة استعمالية حتى اليوم، وإن كانت هذه الأكثرية تُطوى ببلدوزرات التفاوض والتطبيع، تقابلها اليوم أكثرية من المثقفين لصالح اقلية شعبية هي البرجوازية والنخبة السياسية التي تعاطت مع القضية من مدخل تجاري وهي التي ذهبت بالقضية إلى استحقاق ايلول، المطالبة بجزء من الحق ممن لا يحق له ان يكون حَكَماً.

لقد قام كتاب يهود (يراوحون على هوامش الصهيونية) بتأسيس نص يكتسي البراءة الظاهرية ويحمل خطاباً مخفياً بدءاً من ميخائيل أدورنو الذي نظَّر ل اللاوطن، وصولا إلى إيلان بابيه الذي مرَّر ما تسمى “القومية اليهودية” ورقَّع الخباثة بالكتابة عن التطهير العرقي.

وتابعاً أو بناء على تنظيرات الكتاب اليهود لصالح الصهيونية تحت غطاء إنساني كانت سقطة مثقفين فلسطينيين مأخوذين بالقلق على أن يُقبلوا من الآخر، أي ترجِّي الاعتراف، حيث اعتمدوا مدخل هؤلاء الكتاب اليهود. حسب كابرال يشكل الحالة الأولى/الأولية لمثقفي المستعمرات.

يقول فيصل دراج ” ان الصهيونية قد فرضت الاقتلاع والقتال والموت والأمل، تبدو الها ثانيا للانسان الفلسطيني، تحدد حركته وتعطيه أسماء كثيرة، فاذا كان الخلق هو التسمية، والخالق من يعطي المخلوق اسمه، فان الصهيوني خلق الفلسطيني أكثر من مرة وهو يعطيه اسم اللاجيء و”عرب اسرائيل، وخلقه وهو يسميه المخرب والارهابي، وعدو السلام[4]“. لم يخبرنا دراج هل قبل الفلسطيني هذا الخلق، أم نفاه[5]؟ لقد فقد دراج توازنه حين تساوق مع زعم بابيه بأن الصهيوني خلق الفلسطيني. أخفق لأنه لم يفصل بين محاولة الصهيوني خلق الفلسطيني وبين حقيقة أن الفلسطيني موجود اساساً كقوة مقاومة كامنة من الطبيعي ان تظهر بذاتها ولذاتها، لا أن يخلقها الصهيوني. والسؤال هنا: لماذا التعميم على كل الفلسطينيين؟ هناك فلسطينيون خلقتهم الصهيونية/ هناك فلسطينيين عرضوا أنفسهم لها كي تخلقهم، لكن هؤلاء ليسوا كل الفلسطينيين. لم تبدأ الثقافة الفلسطينية هكذا، فالتحدي الصهيوني ووجه بالمقاومة التي غُدرت مراراً بالمساومة. فأيهما الوجه الذي يريد دراج إبرازه وما هي الخلفية الثقافية والسيكولوجية التي تكمن وراء محاولته هذه؟ لذا لا أعتقد أن دراج قد التقط المسألة المحورية. فما اسقط الثقافة الفلسطينية إن صح التعبير في حالة الانخلاق المزعوم على يد الثقافة الصهيونية هما: الطبيعة الطبقية التابعة للأفندية والمشايخ والتجار[6] ولاحقا الكمبرادور وصولاً إلى القيادة البيروقراطية وتفكيرها الاستبدادي واعتمادها المال وليس النضال في خصي المثقفين، إضافة إلى بعدها القطري الإقليمي الذي به فكت الحركة الوطنية والمثقف عن العمق العربي. هذا مع ان الصراع هو عربي صهيوني!!! لا يتسع المجال هنا لقول أكثر، فدراج هنا يُعلي دون قصد من شأن تأثير الصهيونية بما هي فريق حداثي أوروبي متقدم ضد الأمة العربية. وهذا الإعلاء يصب في خدمة هيمنة الخطاب الراسمالي الغربي[7]. حالة الإلتباس لدى دراج تجد ما ينسفها لدى فانون (كتاب: خمس سنوات على الثورة الجزائرية ـ دار الفارابي 1970): “…إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن، ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في أثناء انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه، وكفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة وأطرها القديمة، ولا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب، إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمر (بالفتح) أيضاً.” وهكذا يلتقط فانون حقيقة الصراع بأنه إذا كان هناك خلقاً من طرف فهو خلق للآخر بشكل متبادل.

قد يفيد إيضاح الفارق بين دراج وبين فانون وكابرال. جدالنا هنا أن عملية، وليست ظاهرة، الاستعمار تُواجه بمقاومة من المستعمَر. أهمية هذا أن فانون وكابرال لم ينسبا حالة المقاومة إلى وجود الاستعمار، بل إلى وجودها (الكامن ع.س) في الشعب نفسه، سواء كشعب أو كثقافة شعبية.

يُجلّس أدورنو المثقف كمرتحل طبقاً لتاريخ القبيلة العبرية ويسقطها على القرن العشرين وهذا ما يتبناه إدوارد سعيد ليصل منه إلى لا ضرورة الوطن وبالتالي لا ضرورة الكفاح المسلح والانتهاء إلى اللجوء للمفاوضات والدولة ثنائية القومية. يؤكد سعيد على مقولة أدورنو ” إن فكرة الوطن-المنزل قد تلاشت في القرن العشرين” وهذا من الإثنين منسجم مع مقولة منظِّري العولمة الراسمالية بأن العالم غدا “قرية صغيرة” متجاهلين بقسوة بالغة عذاب المحيط في قرية شياطين راس المال هذه. وحسب توصيف سعيد للمثقف بانياً على أدورنو: “… المثقف حالة منفى دائم، يراوغ القديم والجديد ببراعة/ لا يستريح في أي مكان، يَحوْل، كما يميل ادورنو للقول، دون أن يُفهم بسهولة ومباشرة”[8] إلى أن ينتهي سعيد بالقول: “أنا آخر مثقف يهودي…أنا الحواري الحقيقي لأدورنو، انا يهودي-فلسطيني”.

يندرج ويدْرُج دراج في وضمن وخلف خطاب إيلان بابيه الذي يؤصِّل عن وعي أن”الحركة الصهيونية حركة قومية في التاريخ، لأنها انما وجدت لتخلق شعبا واحدا فإذا بها تخلق شعبين”. الادعاء هو أن الحركة الصهيونية هي التي اخترعت الحركة الوطنية وأن الهوية الفلسطينية أنتجت بالتعرف على الحركة الصهيونية وعبر المستعمر الصهيوني”. ليست الصهيونية حركة قومية، هي إيديولوجيا لتخلق حركة قومية. فالقومية تقوم على وجود موضوعي لأمة على أرض، هذا ما دفع لينين للكتابة التهكمية على البوند. لذا، القومية وعي الأمة لوجودها وخاصة لحظة التحدي. إن الثقافة المقاوِمة هي توليد ذاتي للأمة المضطَهَدة، هذا ما يبينه فرانس فانون كمثقف ومقاوِم بالسلاح: “” ان القتال من أجل الثقافة الوطنية يعني في المقام الأول القتال من اجل تحرير الأمة، هذا حجر الزاوية الذي يجعل بناية الثقافة ممكنة. لا مجال لنضال آخر من اجل الثقافة يمكن ان يتطور بعيدا عن حرب الشعب. فلنأخذ مثالا، إن جميع هؤلاء الرجال والنساء الذين يقاتلون بأيديهم العارية الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليسوا باي معنى غرباء عن الثقافة القومية للجزائر”[9]

اليهود مستوطنو فلسطين مجمَّعون من 100 قومية على الأقل! هنا تتبدى صهيونية بابيه وتردد المثقفين العرب في نقده. [10]. ويلحق عزمي بشارة بالنهج نفسه حين يقول: ” تعودت ان اراها كحركة استعمارية بذاتها او جوهريا، ولكن من خلال قرءاتي للأدبيات الصهيونية فأنا متأكد انها أكثر تعقيدا من ذلك، فهي تنظر لنفسها كحركة نهضة، كحركة تحرير، ولذلك فإنها في حالة توتر بين تصورها لنفسها وبين ممارساتها[11]“. هنا يراوغ بشارة حيث يترك الباب موارباً من حيث موقفه منها مما يكشف أنه على الأقل لم يعد يراها كحركة استعمارية.

لنا جدل لا بد يطول مع تماهي مثقفين فلسطينيين مع الإطروحة الصهيونية بأن: “الصهيونية قد نشأت كردة فعل على المشروع التنويري الأوروبي، حيث جاءت كردة فعل على عدم رغبة اليهود في الاندماج في المجتمع الاروبي، وعدم موافقة اليهود على الدستور واستمروا في فرض هويتهم على الدولة في أوروبا”. هذه قراءة صهيونية للصهيونية لأن الصهيونية لم تمثل قوماً أو أمة هي أمة اليهود. لذا، بين زعم ردها على المشروع التنويري الأوروبي، وكأنها قومية تعرضت للاضطهاد، وبين مهارة الصهيونية السياسية في استخدام اليهود لمشروع سياسي، بين الحالتين فارق واسع يصل حد التناقض، ذلك لأن الصهيونية كمشروع سياسي هي صناعة أوروبية منذ المرحلة الميركنتيلية، اسس لها مارتن لوثر[12]. إن الصهيونية التي شكلت دولة من فُتات شعوب، تزعم أن الشعب الفلسطيني من وجهة نظر الصهيوني المستعمر هو شعب مفتت ولا يستطيع تشكيل هوية وطنية، وهذا تناقض رغبوي لدى الصهيونية بهدف صياغة الفلسطينيين كما تريدهم. فالهوية موجودة وتتطور طبقا للتحديات ودور الفاعل السياسي. أليست الصهيونية نفسها هي التي صنعت الدولة، وتزعم بوجود قومية يهودية سابقة على الدولة؟

توصيف اللحظة

تفيد القراءة السياسية/الأكاديمية المبتذلة، سواء منها الخبيثة أو المسطحة أن الانقسام الفلسطيني اليوم هو بين:

1-ذهاب السيد عباس إلى الأمم المتحدة بما يعنيه من مواقف وقناعات وارتباطات ليطلب

o اعترافاً بدولة فلسطينية بموجب أوسلو في حدود 1967 أو ما تيسر.

o وليؤكد العودة إلى المفاوضات بعد خطابه البلاغي الاحتفالي. وهذا الفارق بين طلب دولة فلسطينية لفلسطين دون الاعتراف بالكيان وبين تاكيد “مشروعية” الكيان على معظم فلسطين!

2- وبين من يأخذ بالشق الأول، ويرفض الشق الثاني في حين أنه يعرف سلفاً، وهنا المشكلة، بأنه لا يستطيع تقييد السيد عباس في الشق الأول رغم خطورة الشق الأول حتى لو لوحده.

وربما كان هذا وراء تخلُّف قيادات مختلف التنظيمات المعارضة (بمعزل عن درجة وجدية ذلك) عن حسم موقفها من استحقاق ايلول حتى الأيام الأخيرة السابقة على ذهاب عباس إلى الأمم المتحدة مما أفقدها فرصة تهيئة زخم جماهيري يعي مخاطر هذا الاستحقاق، علَّ ذاك يؤسس لما هو أفضل! وهذا ما يبقيها ضمن افق التفاوض.

لكن حقائق الأمور أعمق من هذا بكثير لأن الانقسام الفلسطيني هو بين:

· الحياة مقاومة، وهذه قناعة المواطن البسيط حتى وهو يحتفل بخطاب السيد عباس، وقناعة أعداد محدودة من الوطنيين الجذريين وكوادر وسيطة في القوى السياسية وكثير من الكوادر الدنيا،

· والحياة مفاوضات ومساومة وهذه وظيفة كثرة من المثقفين والقيادات السياسية للتنظيمات.

وهذا يثير وجوب الإجابة وتفسير: كيف انتقلت هذه الحياة من المقاومة إلى المساومة دون وجع وطني، ونقصد هنا الحياة اليومية بمعناها الشمولي وليس غرف التفاوض وردهاتها.

ليس هذا نقاشاً قانونياَ أو فني في علم السياسة او جلد الذهن لتوليد قيصري لأفكار خلاقة تلد ميتة أو معاقة كما تصر الأكاديميا البرجوازية في كثير من الحالات. بل هو جدل في قضايا لا تحتمل الاجتهاد: بمعنى:

· لماذا تعترف قيادة شعب بمن احتل وطنها وتتعاطى معه كحالة مشروعة؟

· لماذا يقبل شعب باقتسام وطنه مع العدو في عالم يقوم على الفردانية والمكلية الخاصة؟

· هل يقصد الفلسطينيون الذين اختاروا التفاوض “تطفيش” العرب عن موقفهم القومي من القضية كي يتسنى لهؤلاء تصفية القضية بشكل مريح؟ لا سيما في فترة بلقنة الوطن العربي بمشاركة عرب.

· كيف تم كل هذا الانزياح من نضال لتحرير وطن (حركة تحرر وطني) إلى انحصار في مطالب دبلوماسية؟ اقامة دولة مفترضة عدة مرات.

· كيف انتقل الفلسطينيون من النضال من أجل حق وطني إلى شريك مضارب على وطنه يقبل بما يُتاح؟

· ما الذي أوصل الفلسطيني إلى هذه الحالة من الانحطاط؟ هل هو الخطاب المستلب أم الواقع المادي المستلب؟

· كيف يمكن استبدال وطن بمكان، أي مكان ومن ثمَّ الاحتفال بذلك؟

· كيف يمكن حتى مناقشة مبادلة أرض من فلسطين 48 بأرض من فلسطين 1967 لصالح المستوطنين وتبادل السكان الفلسطينيين كما البضائع على يد من ليسوا ممثليهم!

ان المضمون الحقيقي لاعتماد مشروع الدولة ضمن سياق أوسلو، اي الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي[13] على معظم الوطن هو تتويج لهزيمة معلنة للبرجوازية البروقراطية كقيادة سياسية، وبرجوازية التعاقد من الباطن المحلية وراسمالية المال من الشتات مدعومة هذه البرجوازيات من شرائح مثقفين بدءاً بشريحة المثقفين اللبراليين المتخارجين من أوساط الطبقة الوسطى وبقايا العائلات والأفندية والكمبرادور الجديد الذين بدأوا محاورة الكيان باكراً ولم يثنهم، وربما يخيفهم، عن المجاهرة المبكرة سوى نشاط الكفاح المسلح او مناخ الحياة مقاومة. ومع ذلك فقد اخترق هؤلاء القيادة السياسية للمقاومة سواء على شكل عضوية أو تاثير من خارج الأطر. ولعل أخطر ما قاموا به هو: فتح باب التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة والذي دشنه الراحل إدوارد سعيد، ودخول محاورات مع مثقفين صهاينة في الأرض المحتلة 1967. ثم شريحة مثقفي البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى لاحقاً الذين ترعرعوا في أوساط منظمة التحرير ومن ثم سلطة الحكم الذاتي. وهؤلاء خليط فكري بين علماني وقومي علماني ويساري سابق. وهؤلاء أدركوا أن قيادة هذه المنظمة أعجز من حمل مشروع وطني، فانتجوا لها، او صاغوا معها، مشروع السلطة الوطنية منذ عام 1973 والذي كان مآله حتى اللحظة دولة أوسلو-ستان. إن استحقاق ايلول، حتى لو لم تمارس اميركا حق النقض هو جوهرياً:

إقرار نهائي بدولة الكيان من جانب الفلسطينيين دون أن يأخذوا دولة فعلية يعترف بها الكيان حتى على حدود 1967، واعتراف عربي بالكيان لا سيما وأن الدول العربية تتبنى الطلب الفلسطيني، وهذا تقويض نهائي للقضية كقضية وليس فقط لحق العودة. هذا الخطاب هو حاملة العودة إلى المفاوضات هو الطريق الوحيد، وهذا ما تفهمه السلطة الفلسطينية جيداً وتقصد القيام به مما يؤكد أن هذه الخطوة ليست تجاوزاً لأوسلو بل امتدادا لها. ولا حاجة بنا لإعادة ما كتبه كثيرون بأن الدولة سوف تنهي المنظمة بكل ما تمثله الأخيرة.

ننتقل بهذه الورقة لقراءة النخبتين السياسية والثقافية واستنطاق آليات تحديد مواقفها أهي نمط الإنتاج، التمويل، الثقافة…الخ.


[1] في إقراره بسطوة الملك، النعمان بن المنذر، قال النابغة الذبياني: (فإنك كالليل الذي هو مدركي …. وإن خلت أن المنتأى عنك واسعُ)

[2] من اختلافات التجربة الفلسطينية ضد الاستيطان الراسمالي الأبيض عن الأخريات من المستوطنات البيضاء توفر العمق العربي الذي شكل حماية من الذوبان.

[3] Amilcar Cabral , National Liberation and Culture, from Amilcar Cabral, Return to the Source: Selected speeches of Amilcar Cabral, Monthly Review Press: New York 1973, pp. 39-56. Cited in Colonial Discourse and Post-Colonial Theory. A reader, edited and introduced by Patrick Williams and Laura Chrisman, Columbia University Press, New York 1994 p.p. 55-56.

[4] دراج، فيصل، ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني، دار الآداب، بيروت، 2002.

[5] هذه المسألة هي في صلب التثقيف الصهيوني. عام 1988، خلال الانتفاضة، كان الحكم العسكري الصهيوني بصدد اختبار مَنْ مِن الفلسطينيين سوف يشارك في المفاوضات. أُستدعيت عدة مرات من ضابط اسمه ميجور ميخا، وذات مرة حضر الاستدعاء شخص قال انه استاذ اقتصاد في الجامعة العبرية. بعد النقاش فال ميخا، نحن نعرف أن كثيراً من الفلسطينيين اصلهم يهوداً. كان قصده أن حتى المثقف الفلسطيني هو هكذا لأنه اصله يهودي. ما كان مني سوى ان ضحكت!

[6] انظر ورقة

Adel Samara, Palestine: From Historical De-classing To a Stand-by Regime, A paper presented to a conference on, “The Economy and the Economics of Palestine: Past, Present and Future” sponsored by SOAS Palestine Society at the University of London 27-28 January 2007. Published in Kaanonline.org nos: 1244 and 1247.

[7] ليس دقيقاً ما يزعمه الثقافويون بأن الحداثة هي أوروبية وحسب، بل هناك حداثة أوروبية، وهي التي تجدر مقاومتها، اي أن نسب كل الحداثة أو كل حداثة إلى أوروبا هو اختزال لثقافات ونتاج مختلف الأمم على اصعدة أنماط الإنتاج التي بلورتها الأمم عبر التاريخ. وحين يكون بديل الحداثة، دون انحصارها في أوروبا هو ما بعد الحداثة، نظل مع الحداثة.

[8] Representations of the Intellectual p. 57

[9] On National Culture, Frantz Fanon, cited in Colonial Discourse and Post-Colonial Theory. A reader, edited and introduced by Patrick Williams and Laura Chrisman, Columbia University Press, New York 1994 p 44. From Franz Fanon, The Wretched of the Earth , trans. Constance, Penguin: Harmondsworth, 1967, pp. 166-7, 168-71, 172-5, 178-83, 187-99.

[10] أنظر عادل سمارة الكيان الصهيوني الإشكنازي كنعان العدد 142، وكذلك عادل سمارة، الاقتصاد السياسي للصهيونية المعجزة والوظيفية، منشورات مركز المشرق العامل للدراسات الثقافية والتنموية،

رام الله 2008، ص ص 50-54.

[11] أنظر مجلة كنعان العدد 85 نيسان 1997، مقالة عادل سمارة ثنائية القومية والحكم الذاتي الثقافي ودولة لكل مواطنيها-مشاريع صهيونية ص ص 33-50.

[12] أنظر مقالة محمد ولد إلمي الياسيني، الأصل غير اليهودي للصهيونية، ترجمة مسعد عربيد، في كنعان العدد 113 نيسان 2003، ص ص 29-60.

[13] للمزيد عن هذا المصطلح أنظر دراسة عادل سمارة، الكيان الصهيوني الإشكنازي: معنى ومصداقية المصطاح، في كنعان العدد 142 صيف 2010 ص ص 90-123.