“الربيع العربي” بين الوهم والحقيقة
أبو خالد العملة
مرحلة لا ينقصها الوضوح، إلا بقدر ما يغطيها ضباب وتضليل الإعلام ومسرحيات هوليود السياسية، ومع ذلك فإن هناك من يرى بأن ما يجري في بلادنا ومنطقتنا هو “ثورات” من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والبعض من هذا الاتجاه يرى فيها إعادة الاعتبار للقضايا القومية وفي طليعتها قضية فلسطين.
وهناك من يرى بأنّ ما يجري مؤامرة خارجية لها استطالاتها الداخلية والهادفة إلى تغيير أنظمة استبدادية انتهت صلاحيتها في خدمة المركز الامبريالي، الأمر الذي يفرض بالضرورة استبدالها بأنظمة تابعة قادرة على تحقيق بعض المطالب الشعبية بدعم امبريالي متعدد الأشكال لتحقيق بعض هذه المطالب، وكل ذلك لقطع الطريق على الحراك الشعبي العربي الذي يعيش الظلم والاستغلال والاستبداد وفقدان الكرامة الوطنية والقومية، من أن يتحول إلى ثورة لها قيادتها ولها أهدافها وأولوياتها، وتعرف أعداءها وأصدقاءها وتعرف نقاط قوتها وضعفها، ونقاط قوة وضعف أعدائها والذي يهدد بالضرورة الأهداف الإستراتيجية للإمبريالية في المنطقة.
وكذلك فإن هناك من يرى بأن ما يجري في بلادنا والمنطقة هي حرب إستراتيجية كونية جرى الإعداد لها ثقافياً وسياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً واقتصادياً وامنياً وعسكرياً، من أجل التخلص من أيَ منظومة قيم مخالفة لقيم الرأسمال،والتخلص من الأنظمة الوطنية التي تتمسك بحقوقها وكرامتها الوطنية والقومية، فقدمت الإمبريالية عرضها المتمثل في تحالف بعض الجيوش العربية كضامنٍ لمنتجات هذه الإستراتيجية، والإسلام السياسي كحامل اجتماعي للتحول نحو منظومة القيم الرأسمالية ” أردوغان نموذجاً ” ومن يتفق معه على هذه الإستراتيجية. ويبدو- وهذا طبيعي لقوى نشأت في أحضان المشروع الغربي- أنها قبلت بهذه المعادلة، ويجري الفك والتركيب على هذا الأساس. وأعتقد أن هذه المعادلة ستواجه أشكالاً من الصراع بين الإسلام السياسي وبعض القوى الإسلامية من جهة، وبين الإسلام السياسي والقوى القومية واليسارية من جهة أخرى.
إنها مرحلة تشكيل نظام دولي مرتكز على منتجات الصراع حول تشكيل النظم الفرعية (الإقليمية) في مختلف مناطق العالم وبالشرق الأوسط بشكل خاص بوصفه مركز الثقل في أيَ نظام دولي و يشكل (قلب العالم) بموقعه الاستراتيجي وثرواته، ومن أجل تطويق الأعداء المحتملين وفي مقدمتهم روسيا والصين.
ومن المعلوم فإن العالم قد خرج من الحرب العالمية الأولى، والثانية بوصفها استكمالاً لها بثلاثة رابحين أساسيين وهم : روسيا وأمريكا وبريطانيا و”فرنسا” المحمولة على محور الرابحين لأنها احتلت أيام الحرب من ألمانيا، وأربعة خاسرين أساسيين وهم : ألمانيا واليابان وايطاليا وتركيا، وتحول باقي العالم إلى مجالات حيوية للرابحين.
في معسكر الرابحين خرجت أمريكا من الحرب بكامل قوتها وعافيتها، في حين خرجت روسيا وبريطانيا في أوضاع مُنهكة على كل الصعد، وانقسم الرابحون إلى قطبين عالميين فيما سُميَ حينها بنظام الثنائية القطبية روسيا من جهة وأميركا وبريطانيا من جهة أخرى.
ففي الوقت الذي حملت فيه أميركا القارة الأوربية المنهكة على حوامل مشروع “مارشال ” الشهير، فقد رسمت لها حدود الحركة داخل الفضاء الإستراتيجي الأميركي، ورغم ذلك فقد جرت حروب باردة داخل التحالف الانجلو أميركي وحروب بالوكالة تمّت تحت عنوان سياسة ملء الفراغ.
أما المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية بدعم سوفيتي على كلِّ الصعد حيث استطاع تحقيق العديد من الانجازات العلمية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والتي ساعدت حركة التحرر العالمي على مواجهة المعسكر الامبريالي وأطماعه الاستعمارية، ولكن من أهم الأخطاء الإستراتيجية التي ارتكبها الاتحاد السوفييتي موقفه من المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين والوحدة العربية.
وفي نهاية الحرب الباردة بين القطب الروسي والقطب الأمريكي كان هناك رابح واحد هو القطب الأخير، والذي يقوم اليوم بإعادة ترسيم وتوزيع مراكز القوة والسلطة في مجالاته الحيوية في منطقتنا، أما باقي معظم الأطراف الدولية فهي تحوم حوله لالتقاط ما يمكن أن يتساقط من فُتات أو ما تسمح طبيعة الصراع لها بالتقاطه من خلال التكتيكات المختلفة. وبذلك تنقسم الأطراف الدولية بين من يقدم نفسه رأس حربه للمشروع الأمريكي مثل (فرنسا) علَّها تحصل على نصيب جيد من الرابح الأكبر، والبعض يحاول إنشاء تحالفات تحسين شروط أو “تواطؤات” مع الرابحين علَّه يحصل على بعض النصيب.
إذاً فإن الأزمة الرأسمالية هي المحرك الأساس لمجريات التحولات في منطقتنا، فهذه المنطقة يراد لها حالة أكثر اندماجاً في معادلة رأس المال بما يسمح له بمزيد ٍ من الاستثمار والنهب، بعد أن استنزف كل الممكنات في النظام الدولي السابق، وبات اليوم يحتاج إلى بيئة جديدة متناسبة مع ضمانات الأمن والاستقرار ومنظومة القيم التي يحتاجها، وبما يسمح لمنطقتنا في آنٍ معاً أن تكون مصداً وأداة دعم في المواجهة مع الكتلة الآسيوية الناهضة كالصين والهند وروسيا وإرهاصات التحولات في كل من أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
والمُستغرب في ظل أزمة النظام الرأسمالي العالمي أن تتعهد مجموعة الدول الثمانية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم عشرات مليارات الدولارات لتونس ومصر، وتبقي على احتمال تدفق المزيد لدعم (أنظمة الربيع العربي والديمقراطيات الجديدة) التي نتجت عن انتفاضات شعبية.
علماً بأنَّ هذه الدول الثمانية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية هي التي كانت تدعم أنظمة “الربيع العربي” القمعية وغضَّت النظر عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان وغرقها في عمليات الفساد تحت مسمى الحفاظ على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ومحاربة الإرهاب؟
والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هو الثمن الذي ستحصل عليه الدول الداعمة في المقابل؟ ولماذا تخصيص هذه المليارات لدول “الربيع العربي” في الوقت الذي تعاني منه دول مثل اليونان واسبانيا والبرتغال وايطاليا وايرلندا وأوروبا بشكل عام والتي تكاد تعلن إفلاسها ولا أحد يساعدها بشكل جدي؟
إن الأزمة الاقتصادية الرأسمالية تزداد استفحالاً في أوروبا والولايات المتحدة والذي يبدو أنها غير قادرة على معالجتها والخروج منها، وإن كل المؤشرات والدراسات الاقتصادية والمالية، والحراكات الشعبية في الغرب تشير إلى بداية انهيار الرأسمالية العالمية المتوحشة.
أسئلة حاولنا الإجابة عليها في مقالاتٍ سابقة من خلال قراءة دقيقة توضح حقيقة المؤامرة الغربية التي تهدف إلى إعادة تجديد استعمار بلادنا ودول المنطقة وتجزئتها إلى دويلات أثنية وطائفية ومذهبية ونهب ثرواتها،وذلك بدعمٍ أمريكي مباشر وغطاءٍ دولي وتواطؤ معظم الأنظمة العربية والحوامل الشعبية التي لها علاقات تاريخية مع الاستعمار الغربي، وبعض مؤسسات المجتمع المدني التي أنتجتها وأهّلتها وموّلتها أكاديميات ومحللون سياسيون وعسكريون وعلماء دين!!، وفضائيات متخصصة تمارس التضليل والقصف التمهيدي الممنهج بهدف ضرب الوحدة الوطنية في الأقطار العربية مما يهيئ المناخات للتدخل الخارجي كما جرى في الدولة الليبية الشقيقة، وما يحضَّر للتدخل الخارجي في الجمهورية العربية السورية الشقيقة لإخراجها من دائرة الصراع العربي– الصهيوني ما يسهل على الغرب تحقيق إستراتيجيته في بلادنا والمنطقة. كذلك فإن التدخل الإقليمي والدولي في اليمن ذو الموقع الاستراتيجي الهام، يتم ترتيبه على مقاس مصالح الغرب ومجلس التعاون الخليجي المتواطئ مع الغرب ضد اليمن والدول العربية.
ويبدو أن الإجابة بدأت تتضح أكثر للشعب العربي بعدما بدأت ترتسم ملامح ما بعد الانتفاضات الشعبية والتي تبدو غير مُطَمْئنة للجماهير العربية كما كان تقديرنا في مقالات سابقة، والتي تجاوزت كل الشعارات المرفوعة من حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية، بما فيها إسقاط الأنظمة التابعة والأنظمة الوطنية إلى خلق فوضى من شأنها تمزيق النسيج الوطني والقومي لتسهيل استعمار بلادنا من جديد، ونهب ثرواتها، وضمان أمن الكيان الصهيوني والذي لا يتحقق إلا بتهويد فلسطين وتهجير شعبنا خارج وطنه ولو على مراحل طوعياً أو قسرياً.
إن ما جرى ويجري في تونس ومصر وليبيا واليمن بشكل عام يخدم ذات الهدف ولكن ما يجري في سورية بشكل خاص يتعلق بدورها المقاوم والداعم لكل قوى المقاومة العربية في فلسطين ولبنان والعراق، والذي لم يتغير موقفها من دعم الحركة الشعبية المناهضة للاتفاقات مع العدو الصهيوني والتطبيع معه “كما جرى مع عدد من الأنظمة العربية “.
هذه سورية التي يصفها ” ايهود باراك ” في منتصف التسعينات عندما كان رئيساً لوزراء الكيان الصهيوني في إحدى محاضراته في “بار ايلان” في تل أبيب رداً على أحد السائلين عن آفاق التسوية بعد الاتفاقات الموقعة في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، والعلاقات السرية والعلنية مع العديد من الدول العربية:
قال باراك: ” اعلموا جيداً بأنه إن لم تنطفئ الجمرة السورية فإن كل الجمرات العربية المنطفئة ستكون قابلة للاشتعال “.
هذه رؤية الأعداء لسورية المتمسكة بثوابتها الوطنية والحقوق العربية، والتي نناضل من أجل تعزيز نهج المواجهة والمقاومة عربياً وإقليميا ودولياً للتوحش الامبريالي ضد بلادنا وكل شعوب العالم، في الوقت الذي تتآمر فيه الجامعة العربية ومعظم أنظمتها كما جرى طلبهم للتدخل الخارجي ضد الشعب الليبي، وكما يجري التحضير من قبلهم للتدخل الخارجي في سوريا خدمة ً للإستراتيجية الغربية التي تعمل على استعمار بلادنا وتقسيمها إلى دويلات اثنية وطائفية ومذهبية يصبح الحياد في مثل هذا الصراع المصيري موقفاً يخدم برامج أعدائنا.
أمام هذا كله فإن الشعب العربي ومعه كل حركاته الثورية بكل ما تحمل من أفكار ومناهج وطنية وقومية ويسارية يقف على مفترق طرق، أمام أهم سؤال تطرحه الثورات عادةً وهو كيف نحدد معسكر الأصدقاء ونقاط قوته ونقاط ضعفه وكذلك معسكر الأعداء كما أسلفنا حول هذا الموضوع، وطبيعة الصراع الجاري وأهدافه؟ وكلُّ ذلك من أجل زجّ الطاقات العربية البشرية والمادية والإعلامية والسياسية والعسكرية لحل التناقض التناحري مع المشروع الامبريالي الصهيوني والمتمثل في تحرير فلسطين باعتبار ذلك العامل الناظم لتحقيق أهداف الأمة في الحرية والديمقراطية والوحدة والعدالة الاجتماعية في إطار جدلي لعملية الصراع التاريخي في بلادنا،لأن فلسطين هي القضية المفتاحية لمستقبل الأمة العربية وبذلك فقط يكون معنى للأهداف المطلبية للحراكات الشعبية كمحطات تكتيكية لتحقيق أهدافنا الإستراتيجية، والذي أكدت مصداقيته هذه الرؤية، حيث كلما ابتعدنا عن تحرير فلسطين تتراجع كافة أهداف أمتنا.
إننا ومعنا العالم نمر في مرحلةٍ دقيقةٍ من التحولات وأشكال المواجهة بين الطموح الأمريكي والغربي في قيادة العالم في القرن الواحد والعشرين وبين المواجهة المفتوحة مع الدول والقوى المقاومة في بلادنا والمنطقة بالتعاون مع الدول الأسيوية الناهضة في الصين والهند وروسيا ومع دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا بما فيها أوسع قطاعات شعبية في الدول الرأسمالية نفسها، من أجل الدفاع عن النفس والمصالح المشتركة مقدمةً لإنهاء القطبية الأحادية وبناء نظام عالمي جديد سياسيا واقتصاديا و ماليا يرتكز على الحق والعدل والمساواة ويضمن سيادة الدول وتقرير مصيرها وحماية ثرواتها، وإن لم يتم تحقيق ذلك فإن هذا يعني احتمال عودة الحرب الباردة من جديد.
وبما أن الامبريالية ومخططاتها ليست قدراً لأمتنا ولشعوب العالم، فإننا على ثقة بأن أمتنا وشعوب العالم ستواجه مخططات الامبريالية وتهزمها، ولأن المخططات تستهدف أمتنا في المرحلة الراهنة فإنه يقع على عاتقها عبءٌ استثنائي في المقاومة لكل معسكر أعدائنا في الداخل والخارج، الأمر الذي يستدعي تحقيق كل المطالب الشعبية المُحقة في الحرية والديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية من أجل بناء المجتمعات المقاومة القادرة على مواجهة أعدائنا. لذلك فإننا نعتبر الذين طالبوا ويطالبون بالتدخل الخارجي ويتعاونون مع أعداء الأمة أنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا خونة ً لأمتهم ولدماء الشهداء الذين قضوا في سبيل حرية وكرامة هذه الأمة وهم يقارعون الاستعمار الغربي في بلادنا. ألا يعلم هؤلاء أن الدم لا زال ينزف في الأقطار العربية وهو بسبب الحروب العدوانية الغربية التي تدعي حرصها على الدم العربي وعلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلادنا؟، وتناسوا أن فلسطين لازالت محتلة وتنزف وشعلة الكفاح لم ولن تنطفئ في أجيالنا حتى تحقيق أهداف امتنا في التحرير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة.
أليس هذا هو تاريخ أمتنا في مواجهة الغزاة عبر التاريخ؟ الأمر الذي يجعلنا نصمد ونقاتل ونتوحد وننتصر ويندحر الغزاة وتبقى امتنا سيدةٌ في وطنها العربي، كما هو الحال لكل شعوب العالم التي تعرضت للاستعمار والعدوان بكل أشكاله حيث رفضت الاستعمار وقاومته وانتصرت عليه؟