السياسي والمثقف: من الحياة مقاومة إلى مفاوضات
العامل الحاسم: الخطاب، نمط الإنتاج أم التمويل؟
(الجزء الخامس والأخير)
عادل سمارة
المقاومة “السلمية/الشعبية” أم لا للمقاومة
استمعت (26 ايلول 2011) لبرنامج في فضائية فلسطين اليوم، وهي كما يبدو ذات اتجاه إسلام سياسي، أكرر هنا توضيح الفارق بين إسلام سياسي والإسلام. كان البرنامج عن المقاومة. تحدث شخص من جنين قائلاً: نحن الفلسطينيون في الضفة الغربية نؤمن بالمقاومة السلمية/الشعبية، أما في غزة فيؤمنون بالكفاح المسلح. ولعل هذا القول من مواطن عادي امتداد لحديث السيد محمود عباس في بيروت في شهر آب 2011: “منعنا السلاح في الضفة الغربية فكيف نسمح به في مخيمات اللاجئين في لبنان”. لا شك ان حديث المواطن على السليقة لافت، ولا شك أنه التعبير الأدق عن الانتقال من الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات. ليس هذا لأن المقاومة السلمية لا قيمة لها، بل لأنها في هذا المعرض تحديداً مقصود بها ( لا ) كبيرة للكفاح المسلح ولا يتعدى طموحها سوى الحصول على ما يقرر الكيان إعادته لشعبنا والأهم، لأن هذا الانتقال هو بأمر السلطة. فما تسمى المقاومة السلمية/الشعبية المقصودة في وضعنا الحالي هي التي تنطلق من الاعتراف بالكيان، وبالتالي مغادرة حق العودة مع كل ما يترتب على هاتين المسألتين. قد يحاجج البعض بخطاب منمَّق دفاعاً عن ذلك، ولكن ما تجدر قرائته هو الخطاب المخفي. وقد نفهم خطورة محمول هذا التعريف للمقاومة إذا تذكرنا أدبيات اليسار الفلسطيني في السبعينات عن حرب الشعب طويلة الأمد.
ربما ينبري سوسيولوجي محلي مثلا للقول: وما الخطأ فإن توزع الفلسطينيين على الجغرافيات السياسية يؤدي إلى تعدد “الهويات” الفلسطينية، ولعبة تناسل الهويات هذه مستحبة لدى كثير من الأكاديميين ربما إلى حد زعم ان لكل فرد هويته الثقافية الخاصة إلى حد التطابق مع بطاقته الشخصية! وهذا تساوق مع أطروحات المابعديين في التكفير بالسرديات الكبرى، الأمر الذي ينتهي إلى مغادرة اي كفاح جماعي بالمفهومين الوطني والاجتماعي مما يؤبد كل من هيمنة السوق كأكبر سردية وسيطرة الاستعمار ولا سيما في حالته الاستيطانية في فلسطين.
ليس جديداً أن يوفر التشتيت الفلسطيني مناخاً لزعم تناسل الهويات من جهة، ومن جهة ثانية تكونت اختلافات معينة بين تجمع وآخر بحكم الجغرافيا والسياسة والثقافة المحيطة بكل تجمع، ولكن ما بقي مشتركاً بين الفلسطينيين هو المشترك الوطني القومي السياسي، هذه هي السردية الكبرى للفلسطينيين، وهي التي تتم محاولات تقويضها اليوم بالانحصار في المفاوضات.
قد يكون لنا القول أن مصطلح المقاومة السلمية الشعبية بمفهومه الجديد هو من “تطويرات” المثقف خالي الدسم مثقف التسوية أو “سلام راس المال”. لم يعد يتردد في الاعتراف بالكيان الصهيوني واللقاء به والتطبيع العلني والرسمي معه. رئيس السلطة الفلسطينية وصف إطلاق الصواريخ المتواضعة من غزة بالأعمال الحقيرة، ورئيس وزراء أطول حكومة تصريف أعمال السيد سلام فياضاعتبر الكفاح المسلح أكثر عمل اضر بفلسطين؟ وسلطة الحكم الذاتي تعمل يداً بيد مع الجنرال الأميركي دايتون ثم جونز وفريقه من الأمن والمخابرات لإقامة جيش محلي تمت تجربته في تصفية جيوب المقاومة المسلحة في الضفة الغربية. فماذا سيكون مثقف هذه السلطة والتسوية إذن؟
الإشكالية فيما يتعلق بما نناقش هي في اوساط مثقفي اليسار سواء من لم يعودوا يقدمون أنفسهم هكذا، وهم أغلبية أو يصفون أنفسهم باليسارية[1]، دون أن نُجمل هنا الماركسيين أو الشيوعيين المتمكنين والمتمسكين وهؤلاء نُدرة. فاليسار الرسمي كقيادات تحديداً وبعض مثقفيه طالما أكد أنه ضد اتفاق أوسلو، ولكن كثيرا من قياداته دخلت إلى المحتل 1967 ضمن هذا الاتفاق وليس رغماً عن انف الاحتلال، وبقيت في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد رحيلها من المنفى القسري إلى حضور في المكان ونفي للدور من المنفى المفروض إلى المنفى المقصود كي تغادر الكفاح المسلَّح. وما اقصده هنا أن المكان الطبيعي لمنظمة التحرير هو في الشتات الذي يتواجد فيه الشعب الطريد، بينما إدخالها إلى الأرض المحتلة هو النفي الفعلي لها لتكون اسيرة سلطة الحكم الذاتي التي هي اسيرة الاستعمار الاستيطاني.
قلَّة من هؤلاء المثقفين يكتب في الأدب كي يلجأ إلى الرمزية في البوح بمواقفه، أما الإبداع الشعري فقد احتكره الراحل محمود درويش، ولم يبق لصغار الشعراء غير أن يبكوا على قبره كلما لاحت فرصة نشاط تطبيعي في القصر الثقافي برام الله علَّه يخرج عليهم فيتصدَّق عن روحه ببعض فنِّه، والفن لا يوزع ولا يورَّث. هيهات، فقد مضى الرجل. كان لا بد لهؤلاء المثقفين أن يقولوا شيئاً ما في السياسة إذن. لكنها مهمة جِدُّ صعبة. صعبة لأن المناخ العالمي لم يعد فيه ريح اليسار بل رائحة احتراقه، ولم تعد فيه قيمة الانتفاضة فقد جرى اغتيالها ب “سلام راس المال”. ومديح أوسلو واحتفالات النرويج لا تليق سوى بشعراء التسوية بما هم الأكثر لياقة بدنية لرياضة التطبيع.
الإشكالية أكثر عمقاً. فاليمين اطمئن وقد ركز ظهره على التمويل الرسمي الأجنبي، وحقق العمالة الكاملة لعناصرة من الوزير وحتى آذن المدرسة، وكثير منهم بوظائف. وإتباعاً لاقتصاد التساقط الذي يعيشه اليمين مع الغرب المموِّل مارس ذلك مع بعض اليسار لينعف عليه بعض الوظائف وخاصة لمهذبي اليسار سواء من هجر التنظيم أو هجر الفكر. لكن هذا لا يكفي، فكان لا بد لليسار أن يبحث عن مصدر تمويل، فكانت الأنجزة.
كي لا نضيع اكثر في الحديث السياسي والإيديولوجي ويضيع البعد الطبقي والموضع والموقف من نمط الإنتاج، أو “مصدر ونمط المعيشة” أين وكيف يمكن تصنيف مثقفي اليسار وعلى أي أساس؟ هل العامل السياسي هو المقرر؟ بل لماذا كان مآلهم الذي نرى اليوم؟
كان لتطورين مفصليين في حياة اليسار الفلسطيني دورهما الكبير في إحداث تفسخات وانزياحات وتساقطات بين مثقفي اليسار:
· تفكك كتلة الاشتراكية المحققة
· وانتهاء الانتفاضة الأولى ومآل الوضع الفلسطيني إلى اتفاق أوسلو.
من اللافت جداً انفراط الالتزام الإيديولوجي للكثير من الشيوعيين بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. صحيح أنه يدل على ركاكة الوعي وهشاشة الإنتماء الفكري والطبقي بالطبع الأمور التي سهَّلت الهبوط إلى أحضان المركز الراسمالي المعولم، أو أمركة الكثير من اليسار. ولكن له مدلولاً اشد خطورة هو “حالة التخارج الثوري“! فالمفترض في المثقف الثوري والحزب الثوري أن يكون ثورياً في بيئته ومنها بينما يكون ارتباطه الأممي قوة دعم وليس مصدر قرار أو متكئاً دونه يكون العجز. هذا ما نقرأه من ارتداد كثير من مثقفي اليسار إلى اللبرالية وحتى إلى الأمركة وحتى الترويج لوصفات المصرف الدولي وصندوق النقد الدولي، وافتتاح منظمات انجزة ممولة من الحكومات الغربية مباشرة. لقد زود اليسار منظمات الأنجزة وما تسمى التنموية بما تحتاجه من كوادر مما قاد إما إلى إفراغ قوى يسارية من كوادرها أو إلى أنجزة هذه القوى. وقد تكون من علائم ذلك، غياب اي صوت مثقف يساري حين تطرأ أزمات تحتاج إلى مواقف مثل أزمة ايلول الحالية. هذا دون أن نقول الكثير عن اثر ما يدور في الوطن العربي من حرب مفتوحة بين الثورة (بطبعاتها الثورية والانتفاضية والنزقة ) والثورة المضادة. من اللافت أن شارع المحتل 1967 كان الأقل تفاعلاً وانفعالاً بما يجري في الوطن العربي. وهذا دليل انزياح آخر هو تركز إقليمية فلسطينية ضيقة تدفع باتجاه تكفير العرب بفلسطين بما هي القضية المركزية للعرب لأن هذا الكفر يُريح اصحاب موقف الحياة مفاوضات ويغطي على انهيارات السقوف. لذا، كان تفاعل كثير من المثقفين في المحتل 1967 مع ما يدور في الوطن العربي تفاعل المأخوذ بعشق الثورة المضادة[2].
قد تكون من المصادفات التراجيدية أن يتزامن تفكك الكتلة الشرقية مع اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الأولى كي تجد الانتفاضة هذه نفسها دون ظهير دولي بالمفهوم الرسمي، وهذا مشابه لتزامن صعود حركة المقاومة الفلسطينية مع تدهور المشروع القومي العربي وتحديداً سقوط الناصرية في مصر. لعبت هذه المناخات دورها في عدم ظهور مقاومة يسارية لاتفاق أوسلو واكتُفي بكثير من أحاديث رفضه ليس إلا. كما أن ما تبع اتفاق أوسلو كان غياب الدور الاجتماعي الطبقي لليسار. فإلى جانب تراجع الكفاح المسلَّح كان هناك تراجع دور اليسار الطبقي إذ لم تكن هناك قوة دفع لليسار في شؤون العمل النقابي الذي أُلحق بسلطة الحكم الذاتي بدل أن يكثف اليسار نشاطه في الأوساط العمالية، كما تمت تصفية الحركة الطلابية وتوزيعها على الانتماءات التنظيمية.
لم تتوقف شَرذَمة اليسار على النطاق الطبقي، بل انزاحت إلى تخلخل الموقف الوطني. اتضح هذا في لمعان كثير من قادة اليسار في منظمات الأنجزة والتطبيع ودعم المفاوضات مع الكيان الصهيوني بعد ثبوت فشلها ليتخذوا موقفاً بائساً يدعو للتفاوض غير المباشر بدل المباشر! وقد تكون محاولة التميز هذه بتبني التفاوض غير المباشر نموذجاً على التخلي عن القيم الأساسية سواء قيمة تحرير الوطن وحق العودة أو قيمة الموقف العقائدي لليسار من الإمبريالية ممثلة في المفاوض الصهيوني.
حين يتقاطع اليسارفي أطروحاته السياسية مع اليمين يغدو من اللازم رفع درجة الحذر الإيديولوجي لفحص حدود نقدية وجذرية ومادية الفكر، وحدود الانتماء الطبقي لفحص الموقع الطبقي لليسار والموقف الوطني لمحاذرة التورط في صفقات سياسية قاتلة. لقد سبق اعتراف قيادة منظمة التحرير بالكيان الصهيوني ذهاب مثقفين من اليسار لتبرير الحوار مع مثقفين من الكيان الصهيوني. وتدحرجت العلاقة إلى الحديث بل وتبني شعارات رجراجة من طراز دولة ديمقراطية علمانية[3]. وهي دولة بالطبع، كما تجادل أطروحات بعض اليسار، لا تتعاطى مع البعد القومي العربي، ولا تشترط تفكيك اسس الكيان الصهيوني سواء جهازه العسكري العدواني وقممه الاقتصادية ولا تشترط على الأقل تأميم الأرض. بل ذهب بعض اليسار خفيف الدسم إلى إعلان موقف واضح ضد الكفاح المسلَّح داعياً إلى المقاومة السلمية[4].
ثلاثة نماذج، وهوية التفاوض والتطبيع واحدة
توفر تشوهات المثقفين الفلسطينيين عموماً مادة جزلة عن الانزياحات والانحرافات من جهة، ولكنها تشكل تحدياً في رد هذه الانزياحات والانحرافات إلى مسبباتها المادية وأصولها الاجتماعية الطبقية من جهة ثانية. يشاكسنا ميشيل فوكو بالقول إن المعرفة سلطة، سلطة المعرفة، وبأن المثقف ليس حارس الحقيقة بل مهمته الكشف عنها. ولكن ماذا بعد؟ وماذا حين تنكشف الحقيقة للمثقف، ما العمل؟ وماذا حين تنكشف حقيقة المثقف؟ ومن الذي يكشفها؟ مثقف آخر أم المخابرات؟ في حالتنا لا هذا ولا ذاك، بل المثقف نفسه. ويكون ذلك في الواقع، وليس فقط رحاب الخطاب على اتساعه بالطبع، في تجسيداته على الأرض؟ هذا ما يمكننا تسميته سقوط المكانة مقابل عُلو المكان! (مأخوذة من كلمات الراحل عبد اللطيف عقل: علو المكانة وعلو المكان). يمكننا تقسيم مثقفي إسقاط القيم وخاصة بالتفاوض والتسوية والتطبيع، إلى ثلاثة مجموعات تفرقهم الجغرافيا ويجمعهم التخارج واللبرلة والوظيفية. وهم فلسطينيو الشتات، وفلسطينيو 1948 وفلسطينيو 1967.
تختلف حالة فلسطينيي الشتات أنهم خارج الوطن ومنذ عام 1948 وهو ربما اثر على كثرة منهم بحيث انحنوا باتجاه التفاوض والإقرار بالكيان الصهيوني. بالمقابل كان غسان كنفاني وناجي العلي منارات ضد الاعتراف والتفاوض والتطبيع، ولا غرابة أن الإثنين يساريان وقد أُغتيلاـ غسان على يد الكيان الصهيوني وناجي على يد التطبيع! كما اشرنا آنفاً، كان إدوارد سعيد، مبادراً للتفاوض حتى رحل ناهيك عن موقفه ضد الكفاح المسلح واعتباره القومية العربية شوفينية الأمر الذي يُضعف من مرتبته بين منظِّري ما بعد الاستعمار، ناهيك عن أنه قضى 14 عاماً عضواً بالتعيين في المجلس الوطني الفلسطيني. ما يهمنا هنا أن فلسطينيي أكاديميا الشتات هم الذي أوصلوا قيادة منظمة التحرير إلى البيت الأبيض كي تتعمَّد بماء التفاوض، ماء لا يجف ولا يصلح للوضوء!
حالة فلسطينيي 1948 مجسدة باكراً ولكن داخل الوطن، الأمر الذي قسم المثقفين إلى فئتين على طرفي نقيض. القوميون الماركسيون واليساريون ضد الاعتراف بالكيان، صالح برانسي، أحمد حسين، منصور كردوش، راشد حسين، رجاء العمري وغيرهم من مناضلي حركة الارض، مقابل الشيوعيين الموسكوفيين إميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم...الخ الذين يمثلون حالة تعاقد الحزب الشيوعي مع سلطة الكيان، والتعبير ل أحمد حسين، وبالطبع بقوا على موقفهم من الاعتراف بالكيان. لعل الظاهرة الأكثر إثارة للجدل كان عزمي بشارة (كما اشرنا سابقا) الذي بدأ بعضوية الحزب الشيوعي الإسرائيلي حتى 1987 ليقضي وقتا ضائعا باتجاه الهيجلية ثم ينعطف إلى موقف قومي عربي، إلى جانب عضوية الكنيست، ثم ليغادر طوعاً كما فعل محمود درويش وينتهي في إمارة قطر ليقدم فتوى تنقد العلمانيين الذين لا يؤمنون بتطبيق الشريعة[5]!. وفي كل مسيرته غيَّر الكثير وابقى على الاعتراف بالكيان.
تختلف مواقف المثقفين الفلسطينيين من الكيان الصهيوني اختلافاً يؤثر فيه المكان، والمكانة الاجتماعية والموقف من السلطة لا شك، ولكن يؤثر فيه ايضاً المعتقد الفكري للمثقف وطبيعة شخصه واستعداده الكفاحي كذلك.
تختلف حالة المحتل 1967 في أكثر من مستوى عن الحالتين الأخريين وخاصة في أمرين 1- تبلور الشخصية الوطنية في هذه المنطقة هو أعلى مما هو في المحتل 1948، و 2- وهذا ما يجعل التطبيع ودعم التفاوض وإسقاط قيمة المقاومة أشد خطورة وضرراً مباشراً على القضية. لعل أفضل مسح لمواقف مثقفي الأرض المحتلة 1967 الذين اقروا ونظَّروا وفاوضوا هو ما كتبه جوزيف مسعد في عدد كنعان 85. بعنوان “ساسة واقعيون أم مثقفو كمبرادور”. لم يبخل مسعد في تعداد اسماء من شاركوا في مفاوضات مدريد، “… زكريا الأغا، حنان عشراوي، غسان الخطيب، زهيرة كمال، حيدر عبد الشافي سري نسيبة حيث سمحت لهم الولايات المتحدة بالمشاركة في وفد مفاوضات مدريد”. والمهم أنهم بين لبراليين اساساً وشيوعيين سابقاً! كما يذكر حسن عصفور كمشارك في مفاوضات أوسلو السرية. وأورد كل من عزمي الشعيبي ونبيل قسيس وسليم تماري كأعضاء في وفد عرفات المفاوض لإسرائيل. وكذلك احمد الخالدي وصائب عريقات. “…يصف الخالدي المعارضين لعرفات بأنهم أسرى الماضي الكئيب”. أما “…يزيد صايغ وهو أحد البراجماتيين الذين تفاوضوا مع إسرائيل على اتفاق أوسلو أنه بعد توقيع اتفاق إعلان المبادىء، اصبحت إمكانية تاسيس دولة فلسطينية محتملة إن لم تكن حتمية”[6].
المحتل عام 1948 تحدي “التعاقد”
بين تياري الصهينة والعروبة في المحتل 1948 صراع لم يتوقف ولن. يرى العروبي أحمد حسين ان إميل حبيبي هو “رائد” تيار الصهينة كتيار متعاقد مع الصهيونية بتجليات الاعتراف العلني بالكيان الصهيوني. اعتراف بدأ باكراً منذ تمرير قرار التقسيم واعتراف الاتحاد السوفييتي بالكيان[7]. باعتراف الحزب الشيوعي في إسرائيل بالكيان وتسجيله كحزب رسمي، وبحظر الحركات القومية العربية هناك توفر لهذا الحزب مناخ تطبيع ذهنية المواطن الفلسطيني في المحتل 1948 إلى درجة المشاركة في الانتخابات البرلمانية وبالطبع المشاركة في التصويت حتى لقوائم العمل والليكود أي درجة الشعور أنه إسرائيلي!!. وهو الأمر الذي رفضه التيار العروبي ممثلا في حركة الأرض والجبهة الشعبية ولاحقاً حركة ابناء البلد.
كان إميل حبيبي الأشد حماسة للاعتراف بالكيان، وكان له تاثيره على الكثيرين ومن بينهم محمود درويش الذي كان يلقبه معلِّمي. تجدر الملاحظة أن خروج درويش عام 1969 طوعاً من الأرض المحتلة ليلتحق بالمقاومة كان مثابة غزو تعاقدي للمقاومة وهي في بواكيرها. فمحمود الذي لمع أكثر بعد رحيله في المستوى الفني لم يغير موقفه من الكيان وإن لم يكن يعلن ذلك بوضوح. نقطتنا هنا أن محمود بقدرته الفنية تمكن من تطويع السياسي للفني بحيث أعفاه الكثيرون من خطيئة الاحتفاظ بعمق تعاقديته وهذا بحد ذاته إنجاز تطبيعي هام. وبالطبع، انتهى محمود عائداً من خلال اتفاق أوسلو الذي كان ثمرة اعتراف قيادة منظمة التحرير بالكيان حيث اصبح التطبيع مشروعاً رسمياً لمنظنة التحرير الفلسطينية أداته التفاوض. قد يكون من الحيف القول إن رحلات إدوارد سعيد بين البيت الأبيض وبين قيادة المنظمة في بيروت، ومن ثم التحاق محمود درويش بالمنظمة، كما هو، قد شكَّلا، باكراً، حصان طروادة في تطبيع قيادة ومثقفي منظمة التحرير.
وإذا كان مشروع سعيد ودرويش وحبيبي هو تطبيع المثقفين الفلسطينيين وقيادة المنظمة، فإن مشروع بشارة كان لتطبيع المثقفين العرب[8]! كان بشارة أكثر مهارة من إميل حبيبي الذي كان يناطح القومية العربية بدرجة هائلة من الفجاجة، فقد تمكن بشارة من تفتيت موقف حركة ابناء البلد لتشارك في التصويت لانتخابات الكنيست للمرة الأولى والأخيرة كما نرجو، ولكنها كانت السقطة التي حملته إلى عضوية الكنيست. وبزياراته للوطن العربي وخاصة سوريا ولبنان خلال فترة عضويته في الكنيست الاسرائيلي تمكَّن بشارة من تمرير التعاقد وتطبيع المثقفين العرب على قبوله “كقومي وعضو كنيست”[9] فاية مقارنة!!. ولا شك أن تورط منظمة التحرير في اتفاق أوسلو قد ساعد بشارة على تسويق نفسه طالما أن قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية دخلت التطبيع راغبة راضية.
وهكذا، لعب فلسطينيو الشتات و1948 دوراً اساسياً في تمرير التطبيع وإيلاج “قيمة” التفاوض إلى فلسطينيي 1967 وذلك عبر مظاهر عدة منها: المشاركة في الانتخاب للكنيست أو العضوية فيها أو الخدمة في جيش الاحتلال، أو العيش في الكيبوتس، أو قرية واحة السلام، أوالخدمة في شرطة الاحتلال أو مصلحة السجون السياسية، أو أجهزة الحكم العسكري في 1967. وبالطبع ليست هذه الورقة تأريخاً وتسجيلاً لهذا الاختراق بل إشارة إليه.
وخطورة التطبيع والمفاوضات أنها في غياب السقف الوطني والكفاحي المتقدم تنتشر وتتفشى كبضاعة يستهلكها المواطن دون أن يدرك خطورتها فيصبح موقفه من الكيان “طبيعيا” وهذا يذكرنا بتدرجية التطبيع. لذا، نشهد في الأرض المحتلة عموماً استسهال استخدام: ” إسرائيل، دولة إسرائيل، السلام، الحل السلمي، دولتين لشعبين، الاعتراف بإسرائيل، إسرائيل عدوة السلام…الخ”.
السياسي أخطر
ربما لم يحسم نقاشنا في الصفحات السابقة، أيهما قاد الآخر، الثقافي أم السياسي، وربما لم يكن ذلك مقصدنا! ولكن، إذا كان الثقافي قد قدّم فرشاً فكرياً للسياسي، فإن السياسي هو الذي كرَّس التطبيع فالمفاوضات وحماهما، ليعود الثقافي لإعادة إخراج قرار السياسي ثقافياً وسياسياً، وهنا يتبدى تفاعل النخبتين. وهو التفاعل الذي يقود بالطبع إلى إرباك في المستوى الشعبي إلى الدرجة التي راينا، بمعنى أن الأكثرية الساحقة من المجتمع في المحتل عام 1948 وعام 1967، ترى في مناهضة التطبيع قولاً غريباً وغير مألوف، وترى المفاوضات الطريق الطبيعي، وترى المقاومة أمراً جميلاً لكنه غير مجدٍ حتى بعد انتصار 2000 و 2006 في لبنان وبعد صمود غزة 2008-9! ومن اللافت كما أشرنا ذلك الترويج لما تسمى المقاومة الشعبية السلمية!
لا يخفى أن تبهيت القيمة الرئيسية في الصراع وهي الحياة مقاومة أدى إلى فلتان وطني جوهره الحياة مساومة ومفاوضات. وهذا فتح الباب ليس فقط لممارسة المعصية الوطنية بل حتى لعجز كثيرين من ذوي النوايا الحسنة عن فهم ذلك.
حين يتصرف الفلسطيني مع المغتصب كشريك وصاحب مكان يكون إيلان بابيه قد اصاب تماماً ويكون الوطن قيمة تبادلية متطابقة مع خطاب الاقتصاد السياسي المبتذل. ربما نموذج عيش فلسطيني في كيبوتس هو أكثر خطورة من دخول فلسطيني جيش الاحتلال. فحمل الجنسية الإسرائيلية أمر نقيضه الرحيل، وقبول التجنيد سقوط ربما يبرره البعض بأنه إجباري أو طمع في حصول الفلسطيني المحروم على بعض حقه، بينما العيش في كيبوتس مقام على عظام القرى العربية المهدومة هو اختيار طوعي واستئناس بالعدو، هو أنسنة المستوطِن الغاصب وهو البحث عن حصة مضارباتية في سوق القيمة التبادلية! هنا يصح قول إيلان ببابيه وفيصل دراج بأن الصهيونية (خلقت، فلسطيني وليس الفلسطيني). هناك دلالة في قراءة مواقف فلسطينيين من فلسطيني يعيش في الكيبوتبأنس. النموذج المقصود اسمه أحمد اشقر عرفناه ك قومي ويساري لعشر سنوات لنكتشف في اكتوبر 2010 أنه عاش في كيبوتس. كان مفيداً أن سألنا البعض لتكون الإجابات على النحو التالي:
عزمي الصغير من المثقفين في 1948 قال: ” يا أخي لكل واحد منا هفواته”، م.أ كاتب ومعتقل سابق لأكثر من مرة من رام الله ومجدي الصادق في أميركا حينما ذكرت لهما واقعة العيش مع المستوطنين انتفضا! ناشط سياسي من 1948 لم تظهر عليه علائم الاستغراب حين ذكرت له الواقعة حتى شرحت له معنى أن الكيبوتس مقام على القرى الفلسطينية المهدورة ليقول: “والله ما فكرت فيها”. مثقف آخر من 48 قال: ” بيلاقي وحدة تغسل لو ملابسو”! طبعاً شعرت هنا بصدمة فيما يخص الوطن والمرأة. الكاتب والشاعر أحمد حسين كان أكثر ما شدَّني وذكّرني بضعف ملاحظاتي للناس، حين سألته كتب: “. بالنسبة للسيد أحمد أشقر ليس لدي علم بشيء سوى أنني اشتبهت اشتباها بأنه مفتوح على كل أنواع العلاقات. وقد أدى هذا إلى توقف علاقاتنا “.
هل هذا مآل الانفتاح/ات التي تقود إلى الحياة مفاوضات، لدى السياسي والثقافي على حد سواء؟ بل هي أخطر فقد تصل بالبعض إلى حالة التعاقد كفرد.
[1] أحد كبار قيادة اليسار لم يتورع عن حضور الاحتفال الأخير للطائفة السامرية (اليهودية) في نابلس رغم حضور الحاكم العسكري الإسرائيلي وقيادات من المستوطنات المقامة في المنطقة! لا عجب إذن أن يعيش فلسطيني من المحتل 1948 في الكيبوتسات!
[2] فأغلب ما راينا كتابات مثقفين من اليمين واليسار مع الثورة المضادة وعمىً عن حقائق قومية ووطنية وطبقية منعوفة على الشوارع كقتلى الحروب الأهلية. راينا الانزياح لصالح احتلال الناتو لليبيا، واحتلال السعودية للبحرين وتقسيم الصومال والتخطيط لتدمير سوريا في عجز مُعيب ومقصود عن التفريق بين النظام القمعي والوطن. حتى المثفقين الذين اختاروا الموت من الحياة السياسية “تمرجلوا” على سوريا ليثبتوا أنهم واصلوا الموت من الحياة الوطنية. ماذا نسمي المثقف الذي لا يرى وحشية المرحلة قبل وخلال ما يسمى بالربيع العربي؟ دول يتم شطبها على يد الإمبريالية حالات العراق وأفغانستان وليبيا.
[3] أنظر للرد على أطروحة الدولة الديمقراطية مسعد عربيد وعادل سمارة نحو حل إشتراكي في فلسطين: مناقشة نقدية في حل “الدولة الديمقراطية العلمانية”، العددان 1307 و 1309 من http://www.kanaanonline.org/articles/01307.pdf
[4] في ندوة عن الدولة الديمقراطية دعت لها مجموعة من بينها د. اسعد غانم والسيدة ليلى فرسخ عقدت قبل عامين في قاعة بلدية البيرة تحدثت عن حق شعبنا في ممارسة الكفاح المسلح واي شكل آخر، قاطعني أحد النشطاء في المقاطعة الأكاديمية عمر برغوثي، بلا مبرر وبحماسة بالقول: أنا ضد الكفاح المسلح!.
[5] عزمي بشارة يعتبر العلمانية جهلاً ويقول ان الشريعة الاسلامية هي الحل
http://www.youtube.com/watch?v=NUJuosediUo&feature=player_embedded
[6] واضح أن جوزيف مسعد متعاطف مع إدوارد سعيد الذي نقد هؤلاء المثقفين. وأعتقد، وخاصة لمعرفتي ب جوزيف مسعد وصداقته مع إدوارد سعيد، أن سعيداً رغم كل إخفاقاته وشطحاته السياسية، لم يكن في ضميره الفلسطيني مؤمناً بهذا السلام، وربما كان في مناخ وظروف عمله وحياته مضطراً لما ابداه من مرونات!
[7] هذا الاعتراف هو من ابرز محطات كشف دور الدولة السوفييتية الذي احتل موقع الثورة. كما كشف هذا عن الفقر العقيدي للمرحلة الستالينية على الأقل في فهم جوهر النظام العالمي الذي تحدث عنه لينين وبوخارين منذ عام 1916، حيث كشفت الستالينية عن عجز في التحليل الاقتصادي لجوهر واهداف النظام الراسمالي العالمي باعتقادها أن الكيان الصهيوني سيكون قاعدة متقدمة للاشتراكية في الوطن العربي فكان العكس.كما تكشف عن رؤية مركزانية أووروبية بيضاء تجاه العرب والفلسطينيين.
[8] وبشارة الذي بدأ في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، غادره عام 1987 اي مع بداية الانتفاضة الأولى ليتحول إلى “قومي عربي” يضع صورة ناصر فوق راسه في مكتبه بالكنيست.
[9] في سؤال لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت لماذا يستقبلون بشارة وهو عضو كنيست كان الرد: نحن ندعوه كفيلسوف وليس كعضو كنيست. رحم الله هرون الرشيد حينما قال لأبي نواس: عذر اقبح من ذنب!!.