كيف تتعامل الحكومة مع “المخلفات الحريرية” في الدولة؟


العميد الدكتور امين محمد حطيط

من المتفق عليه في الانظمة الديمقراطية التي تعتمد في الحكم التمييز بين الثابت والمتغير في من يلي الشأن العام، ففي حين تكون السلطة السياسية (التشريعية والتنفيذية ) خاضعة لقانون التغير والتدوال (تداول السلطة) لتكون دائما مستجيبة لارادة الاكثرية الشعبية، التي يعبر عنها دوريا كل اربع او ست سنوات، عبر الانتخاب، نجد ان اجهزة هيئات سلطات اخرى في الدولة تخضع لقانون “الثبات النسب ” ياتي في طليعة هذه الاجهزة الهيئات الامن و القضاء و الجيش و الادارة، وهي التي تقوم بمهام الدولة الاساسية لجهة الدفاع والامن و فصل النزاعات و تسيير شؤون المواطنيين بالسواسية وبصرف النظر عن انتماءاتهم وميولهم. ومن اجل حماية هذه الاجهزة من الشطط، و لان الثابت لا يلحق بالمتغير المتبدل فاننا نلاحظ حرصا في كل الدول التي تعتنق الديمقراطية و تؤمن بالتداول السلمي للسلطة، نجد حرصا منها على ابعاد المرافق التي ذكرنا اعلاه عن السياسة، كما و منع السياسيين من التغلغل الى شرايين هذه المرافق خشية ان تصيبها بالافساد (ما دخلت لسياسة شيء الا و افسدته ) و كذلك حرصا على مصالح المواطنيين التي يجب ان تؤمن من قبل الدولة من غير تمييز بينهم.

و في التجربة اللبنانية، و رغم ان النظام السياسي المعتمد في لبنان يشبه الانظمة الديمقراطية ( النص الدستوري يلزم بالديمقراطية و التطبيق العملي ينحرف عنها ) و رغم ان لبنان فشل في نيف و 90 عاما في بناء دولة حقيقية ( خلال الانتداب و خلال الاستقلال ) فاننا نسجل للبنان صفحات مشرقة في تاريخه على صعيد ابعاد بعض المرافق العامة الاساسية عن السياسة و ما اتاح لها ممارسة مهامها ” بتجرد و نزاهة ” مقبولين خاصة في مجالات الدفاع و الامن و القضاء، و الى حد ما في مجال الادارة، حيث نجد في تلك الحقبات ابتعاد عن التسييس و السياسة خاصة في القضاء و الجيش، و الى حد ما في قوى الامن الداخلي و الادارة، و من اجل ذلك لم يكن المسؤول التنفيذي يفكر بعد توليه السلطة اثر الانتخابات، لم يكن هذا المسؤول مضطرا الى اجراء تشكيلات و مناقلات واسعة في هذه المرافق بل كان يكتفي احيانا باستبدال رأس الهرم في المرفق الامني و العسكري ليكون مطمئنا على حكمه و امنه خشية ان يكاد له من الغير و لا يكون المسؤول الامني متحمسا او حريصا عليه، و ما عدا ذالك فقد كان بقية الموظفين والقضاة ثابتون في مواقعهم لا يتحركون الا بمقتضى المناقلات النظامية الروتينية التي تفرضها القوانيين والانظمة الداخلية للاسلاك التي ينتظمون فيها، مع الملاحظة ان احدا لا ينتقص – من حيث المبدأ – قدره او رتبته او راتبه او موقعه، باستثناء ما اجري لمرتين يتميتين من عمليات تطهير “للفاسدين في الادارة و القضاء “، حيث نجحت احداهما و فشلت الاخرى.

لكن امر لبنان و مرافقه العامه بدات تتراجع في سلم التجرد و النزاهة و راح الفساد ينخر في الادارة حثيثا، و ما أن دخلت الحريرية السياسية الى السياسة اللبنانية و تولى رفيق الحريري الحكم رئيسا للوزراء حتى بات الوضع يشتد سوءا و اصبح الفساد مذهب الدولة و دينها و راح يطرق ابوابا كانت موصدة بوجهه، واذ بقوة المال تفتح معظم الابواب برعاية حريرية حيث وضع لكل شيئ سعرا و توجه المسؤول الى السيطرة على الموظف دافعا الثمن في جزء منه لصاحب العلاقة فيملك ولاءه و يلحقه بالقطار الحريري، ثم يدفع الجزء الآخر لرعاة الشأن حتى يسكتوا عن تنفيذ الصفقة و توالت الصفقات و توسعت مجالات النفوذ الحريري في الدولة الى الحد الذي امكن القول فيه انه لم يبق خارجها الا الجيش اللبناني وحده بسبب صلابة قائده و مناعة العسكريين و صرامة النظام العسكري و فعالية الامن العسكري الذي يرعى الشأن.

ثم تفاقم الوضع خاصة بعد مقتل الحريري حيث اندفعت الحريرية السياسية لتغيير طبيعة لبنان السياسي و تحويله من شبه دولة ديمقراطية الى مشيخة تامة لا تدوال في سدة الحكم فيها (الشيخ) حتى بات يزرع في الذهن ان كل شيء في لبنان هو “حريري” بشرا و حجراً و من يستعصي من البشر على الاستتباع فانه يخرج من نعيم الدولة و يلاحق و يضيق عليه حتى ينزوي او يهاجر او يقرر المواجهة و يحصد الخسائر و المتاعب. و بعد 4 سنوات من حكم الحريرية في مرحلة ما بعد الحريري بات الامن و القضاء و المالية العامة و جل الادارة في قبضتها التي اقامت في مجلس الوزاراء موظفا برتبة امين عام استمر في وظيفته خلافا للقانون، و سمح لنفسه ان يكون في كثير من الاحيان صاحب ارادة تفوق ارادة مجلس الوزراء مجتمعا فيقرر باسمه و يعدل قراراته او يشطب منها او يضيف ما يريد.

و فجأة انقلب الزمن على “اصحاب المشيخة” و باتوا من حيث لم يتحسبوا خارج السلطة التي تولاها من نعتوه ب”الخيانة و النفاق الغدر و الخداع “، نعوت جاءت في سياق الهجوم المشن على نجيب الميقاتي والذي فسره البعض بانه انتقام و ردة طبيعية من قبل خاسر السلطة بوجه من آلت اليه، لكن يبدو ان في هذا التفسير شئ من الحقيقة اما بقية الحقيقة تكمن بالقول بانه حرب وقائية لحماية ” المنظومة الحريرية في الدولة ” خاصة في الامن و القضاء و المال و بعض المفاصل الرئيسية للادارة، و يبدو ان هذه الحرب نجحت في غل يد رئيس الحكومة عن الاقتراب من اي موظف محسوب على الحريري حتى و لو استوجبت الحماية السكوت عن خرق القانون او الدستور و تعطيل قانون العقوبات، و اقفال باب مجالس التأديب، و كذلك حتى اذا بات المديرالعام فوق الوزير التابع له، و القاضي فوق القانون الذي يجب ان يقضي بموجبه، و الضابط العدلي بات “رئيس جهاز امن خاص”.

لا شك بان الامر هذا شكل تحدياً كبيراً و خطراً امام رئيس الحكومة الذي راى نفسه امام حلين:

1) اما العمل بمنطق الدولة و الاستغناء عن كل “ثابت افسد ثباته و تجرده ” بالالتحاق بالمتغير على ما ذكرنا اعلاه ما يعني اخراج الموظفين الذين استمروا في ممارسة العمل في المرفق العام بحس فئوي ان لم نقل انهم يعملون في سياق روح مشروع غربي تنفذه “الحريرية السياسية “.

2) او الاحجام عن المعالجة بالاستناد الى تبريرات قد يكون منها القول “الافتراضي “:

– ” اني اصبر على الخطأ ” حتى لا اهدي الخصوم فرصا يستفيدون منها في العام 2013 في الانتخابات و يعودون الى السلطة اقوى مما كانو ثم يهدمون اي بناء اقيمه على انقاض بنائهم الذي يجب ان يهدم بحكم القانون؟

– او ان في بلد كلبنان يقوم على الطائفية، تكون حماية الموظف مسؤولية الشخص الاعلى في طائفته و هي حماية اولى بالرعاية من حماية المصلحة العامة و نصوص القانون؟

– او القول ” لا استطيع ان احاسب مخالفا هنا و اترك مخالفا هناك ” من طوائف اخرى يحميهم مسؤولون اخرون و الا خرقت مبادئ العدالة و المساواة بين الموظفين و المواطنيين؟

– او القول بانه مقتنع في اعماقه بان وجوده في الحكم الان هو وجود انتقالي ظرفي لانه “اغتصب حق” سواه، و يجب ان لايمعن اكثر في الامر؟

يخشى ان يكون الرئيس ميقاتي قد اختار حتى الان الحل الثاني ما يفرض التساؤل:

هل يقبل رئيس الحكومة تحمل مسؤولية اعمال موظفين رسميين يمارسون عملهم بوحي وبتوجيه من خصومه السياسيين، ويحاكون ميول الفريق المعارض المناقضه للخيارات السياسية للاكثرية التي يرأس حكومتها؟ وان تبقى بعض قرارات حكومته خاضعة في تنفيذها لارادة خصومه؟

نسأل بعد نذكر بان دستور لبنان جعل من مجلس الوزراء السلطة التنفيذية ولم يجعل من رئيس الحكومة حاكما للبنان.

:::::

نشر في البناء اليوم 4112011