نماذج ليبرالية
أحمد حسين
كان محمد حسنين هيكل في مرحلة عبد الناصر، يعامل جماهيريا على المستوى القومي العام، كأغنية وطنية من أغاني الثورة. كان الرجل يجيد الكلام ويجيد التحليل بأسلوب شيق يبدو موضوعيا إلى درجة المحايدة وعدم الإنحياز. ولكن أهم ميزة لديه هي لغة الصحفي اللبق الذي يجيد الإقتراب العقلي من المتلقي المتوسط الثقافة، وبما أن الغالب على ساحة التلقي العربية هو المثقف الشكلي والمتوسط الثقافة، الذي تأسره عادة هذه اللغة المتواضعة التي ترضي غروره، فقد وجد هيكل نفسه، بحميمية الموقع من الثورة وقائدها، وبأسلوبه الدرامي المثير، وتواضعه الظاهر، الذي يصل أحيانا حد مداهنة القاريء أو المستمع، وهذا حق مشروع واسلوب مشروع في التسويق المهني والشخصى على حد سواء…. وجد نفسه أقرب المشاهير على ساحة ثورة يوليو، بعد عبد الناصر، إلى قلوب الجماهير العربية.
ومن أشهر الحركات الفنية في أسلوب هيكل هو تدوير الموقف حول الواقعة أو النص، واختيار أحدها بالترجيح فقط بتردد مصحوب بالإعتذار، وأحيانا بالعودة بالتشكيك إلى شيء سبق وقاله في السياق. وقد يكون هذا حرصا على الموضوعية، أو حرصا على التنصل من المواقف الملزمة. خاصة وأن هيكل كان يحرص على التوثيق بالرواية أو النص المكتوب شاهدا على ما يقول. ولكن إدمان الوجدان الفني لأم كلثوم، جعل عشاقها يغفرون لها أغانيها الأخيرة التي لحنها لها عبد الوهاب وبليغ حمدي. ويبدو أن الوجدان العاشق الذي كان يغفر لهيكل بعض مداوراته النصية، ما زال يغفر له اليوم مواقفه السياسية المحيرة، وخاصة تلك التي قام بأدائها على شاشة قناة الجزيرة.
ومن حق هيكل علينا قبل مناقشة حلقته الأخيرة في الفضائية المذكورة، أن نشير إلى بعض ملابسات المرحلة الجديدة التي شكلت افتراقا جوهريا في التناقض والعداء لمرحلة عبد الناصر، وأحدثت انقلابات جريئة في المواقف على الساحة. أهم هذه الملابسات هي أننا نعيش اليوم مرحلة العودة إلى الأمام، التي أحدثتها القوى الدولية في المشاعة العربية، والتي تسميها أمريكا وقناة الجزيرة بالربيع العربي. وداخل هذه الملابسة الأم، ملابسات أخرى تشكل في طابعها وأهدافها الجوهرية، سلة الأهداف الخاصة بالربيع المذكور. ومن استجواباته المتعددة في قناة الجزيرة خلال السنوات الأخيرة، نلاحظ مدى الضغوط التي كانت تمارسها هذه الملابسات على هيكل، وكيف ظل غارقا في التوتر والحذر وكثرة الإستدراك، طيلة هذه الإستجوابات.
الملابسة الداخلية الأولى هي أن الدول الغربية أوكلت تنفيذ الإنقلاب الربيعي العربي، إلى أهم فصائلها على الساحة العربية، وهم الإخوان المسلمين والليبراليين. أما الإخوان المسلمين فهم يشكلون الجناح العسكري للفتح الإسلامي الأمريكي لمناطق الفتح الإسلامي العربي. وعلاقة هيكل مع الإخوان بالعودة إلى خطابه السياسي القديم والجديد تتسم بكثير من التحوط، وملامسة النفاق، والتبرئة غير المباشرة، لدورهم السياسي. ومع أن هذا يمثل الطابع المشترك لمقارباته لكل القوى على الساحة المصرية والعربية والدولية أيضا، كما أشرنا، إلا أن المغالطة، وتجاوز المواقف، والتجاهل، والسطحية المتعمدة، كانت دائما عماد توصيفه لحركة الإخوان المسلمين. ولعل عنصر التملق المهني كصحفي يريد فتح الباب أمام مصادر المعلومات، كان هو شاغله في مقارباته للقوى الأخرى، ولكن عنصر السلامة كان هو الشاغل الأهم بالنسبة له، فيما يتعلق بمقاربة الإخوان المسلمين. فمن الواضح أنه، كان كان يبدو عند الكلام عنهم، كصحفي متوسط، تنقصه الكثير من المعلومات بشأنهم، لدرجة أنه اعتبرهم حركة سياسية موضوعية،وشرعية وصحية بالكامل في المجتمع المصري. فكون المصريين متدينين في نظره هو رصيد تلقائي لحركة سياسية دينوية، ومبرر موضوعي لارتكاب الشرعية والبراءة وموضوعية الوجود لفئة سياسية ذات مشروع طائفي يستخدم الدين آلية استبداد اجتماعي، ومحمية سياسية لممارسة فقه الإستبداد ودعم مشروع الإستغلال الطبقي والفئوي. فشخص في مثل ثقافة هيكل لا يمكن أن يجهل هذه الحقيقة، ولكن للأسف يمكنه تجاهلها. لقد كان هيكل كصحفي بارز عين ثورة يوليو ونافذتها على العالم السياسي، ومستشارها المقرب. وكان الإخوان المسلمون عدو الثورة الأول، والعدو السياسي والإيديولوجي الإستراتيجي للأمن الوطني والقومي في مصر والعالم العربي في ظروف ثورة قومية تدعو للإشتراكية. فكيف يمكن القول أن رجلا كهيكل موجود في صميم الملابسة الإشكالية الأكبر في حياة الثورة، كان يجهل علاقات الإخوان بشركائهم الغربيين في محاربة ” القومية الممنوعة ” الوحيدة في العالم، وهي العروبة. وثقافيا وفكريا ألم يكن هيكل يعرف أن الموضوعية التاريخية والإجتماعية، تحتم أن يلتقي الإخوان جدليا مع الغرب. أم أن علاقتهم المفروضة والطبيعية هذه، استطاعت أن تتجاوز جدل السياسة والإجتماع والحاجة، وتكون نفسها في فجوة فراغها الخاص. وكيف يمكن تصور أن هيكل بثقافته التاريخية العميقة كان يجهل، أن الفكر الدينوي كان دائما هو حليف فكر الإستبداد على مر العصور؟ هل كانت الكنيسة حليفة للإقطاع ثم للملك ثم للإستعمار ثم للمحافظين الجدد بالصدفة؟ هذا كلام مدرسي من العيب قوله لرجل في ثقافة هيكل تجاوز المراقبة إلى الإنغماس في الفكر التاريخي. ولكن هل من العيب أيضا أن يتجاوز هيكل أمانة الفكر والمعرفة، لأي هدف ذاتي كان، خاصة مع عشاقه على ساحة الإلتزام الذي قربه من الملايين؟ ألم يعرف المؤرخ البارز أن الرجال الدينويين كانوا عبر العصور يمثلون عدمية الإلتزام والإيمان بحكم أنهم أتخذوا من الدين ألية للدجل السياسي والإرتزاقي. هل نسي أن الكرادلة الذين كان يستوزرهم النظام الملكي كان معظمهم من الملحدين، وأن باباوات الكنيسة كان بعضهم من الللأخلاقيين، وكلهم ملوكا دينويين استبداديين؟ فهل يعتقد حقا أن الكرادلة والبابوات الإسلامويين سيكونين مختلفين؟ لقد كان على ذكاء هيكل أن يحميه من الإضطرار إلى الكلام التهريجي، وتفضيل الصمت عليه.
وهيكل بدليل توجهاته الفكرية والتفكيكية ليبرالي حتى النخاع. وفي الحقيقة أن المثقف العربي يشبه الإسلامويين إلى حد بعيد، من حيث انفتاحه على العدمية وتحين الفرص وتسويق الإلتزام. فهو غالبا ضعيف الشخصية ثقافيا، وارتزاقي مريض بحب الذات، منبهر بالشهرة، ومبتلى بعقدة الموقع. وقد أثبت بشكل لا يقبل الجدل أنه أسوأ عينات المشاعة العربية اجتماعيا وأخلاقيا، وأردأ مثقفي العالم. وليس هذا تعميما على الإطلاق ولكن على الإكثرية. فقد كان نجاح الغرب في تجنيدهم مذهلا، يمتد من القمة إلى القاع. وفي حين أن الإسلامويين يشكلون تنظيما فئويا بعيد الأهداف، فإن هؤلاء يمثلون ظاهرة خريفية للسقوط الفردي الإرتزاقي بأشكاله. فما أن فردت أمريكا حلواها على الرصيف حتى تساقطت كثرتهم عليه مثل الذباب. وكان كما يبدو، على هيكل أن يحمي رصيده الفخم على ساحتهم، من ناحية، رغم احتقاره المؤكد لهم مستوى وسلوكا، لآنهم يشكلون في نظره معادلة العرض والطلب الثقافية. ولكن ليس هذا هو الأهم على أهميته، في اعتقادي. إن المودة الفكرية للغرب، كانت دائما هاجسه الأول. فهو ساحته الثقافية ومصدر شهرته كصحفي عالمي. ولديه صداقات سياسية وصحفية معروفة هناك، هذه الشبكة من العلاقات، ظلت تشكل ساحة طموحه في الشهرة وتبادل المعلومات، ونمطه الفكري الليبرالي. إنه لن يسيء علاقاته بهذه الشبكة المتعددة المنافع، تحت أي ظرف كما فعل حينما كان سفيرا صحفيا للثورة هناك. وبعد ازدهار الربيع العربي والسقوط الوشيك للمشاعة العربية تحت التأثير السيادي المباشر للغرب، بوكالة إخوانية ليبرالية، لم ير هيكل أي بأس في الإنحياز المتحفظ إلى الموقع السيادي الجديد كعادته. فهو كليبرالي، وكمثقف عربي، وكمكره أخوك لا بطل، يدرك شرعية انحيازه العلني، إلى الواقع. وقد يبدو هذا تفكيرا مقبولا في حالة رجل أو مثقف عادي، ويشوبه الكثير من التحفظ في حالة هيكل. وهذا يقود إلى ملابسة ذاتية كان لها أهمية حاسمة في تحول هيكل، رغم ضيق مساحة المستقبل أمامه كرجل في الثمانينات، أطال الله عمره.
من لم يلحظ نرجسية هيكل الفاقعة، خلال مخاطباته، فهو من ضحايا الغفلة التي تسببها الرموزية. لم يتحدث هيكل عن أحد من أبطاله أكثر مما تحدث عن هيكل. كانت لفتاته المتواضعة عن دوره، وحكاياته الهامشية عن نفسه في السياق، وتأثر الآخرين بآرائه، تبدو وكأن الرجل يتلو سيرته الذاتية، وأنه هو الشخصية المركزية في الموضوع، والباقون في السياق ظلال خلفية لحضوره. وأكثر ما كان يفعل ذلك حينما كان يتحدث عن عبد الناصر، لآرتفاع الجدوى. هذا الكلام من جانبي لا يمكن قبوله على عوهنه كما يقولون. وعلى المعني باكتشاف الحقيقة العودة إلى حلقات ” مع هيكل!! ” التي بثتها قناة الجزيرة. مع هيكل في ماذا؟. ولماذا على البرنامج أن يحمل أسم الراوية بدلا من الموضوع؟ هل علينا أن نعرف عن ثورة يوليو ورجلها وعن عبد الناصر من خلال علاقتهم بهيكل وليس من خلال علاقة هيكل بهم؟ أعتقد أن قناة الجزيرة توزع الإشرطة الخاصة بالمقابة بأسعار رمزية، ولن يكون الحصول عليها صعبا. هناك ستسمع عبد الناصر وهو يتحدث عن هيكل بصوت هيكل نفسه. ون المؤكد أنه كان لحميمية قناة الجزيرة، الموقع الليبرالي الشامل، تأثيره على الإسم والمضمون السياقي، ولكن فقط برضى هيكل ودوافعه النرجسية المستحكمة.
أعتقد أن هذا التمهيد المطول كان ملزما لهذا المقال، الذي يزعم أنه وجهة نظر خالية من أي تفكيك غير موضوعي في المضمون. أما الدافع للكتابة فهو فضح النموذج الليبرالي العربي وعدميته، وإسهامه في مؤامرة الآخر خيانيا، على مصير المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ولو بجغرافيا الموقع المشترك. يمكننا أن نرضخ لمصيرنا القسري، ولكن لماذا نتطوع إعلاميا وفكريا بالكذب لمصلحة ذلك الآخر؟ هذا التساؤل هو الذي يمكن أن ينقلنا إلى ردود هيكل على استجوابه الأخير في….. الجزيرة!!
كان المذيع المجاور أثناء هذه الحلقة، كعادة مذيعي الجزيرة كموقع استعلامي لا علاقة بمهمة الإعلام الحيادي، يحاول جر هيكل إلى تصريحات درامية مع أو ضد أحد الأطراف، أو على الأقل الحصول منه على بعض خفايا المواقف على الساحة المصرية التي لا بد أن هيكل لديه الكثير منها. ولكن ذلك لم يكن سهلا مع رجل مثل هيكل يعرف ما يريه المذيع، وبالطبع ما يريده هو. فحصل منه على الكثير من مواقف المجاملة والتهرب التي لم تفد مهمته الإستعلامية بشيء، ولكنها أفادت ربما مصداقية الإعلام الموجه للموقع، من خلال بعض التشابه بين ما يريد هيكل وما يريد الموقع. أي أن هيكل كان على استعداد للدفع للموقع، من نزاهته وموضوعيته، وقدرته على استخدام المغالطات الغامضة، ولكن ليس الدفع المباشر نقدا من موقفه السياسي المماليء لكل الأطراف، الذي أراد تقديمه. وهو بالطبع لم يكن أقل حنكة من مذيع مدرب في قناة الجزيرة في مجال المداورة. وهكذا استطاع هيكل استطاع أن يسجل لالتزامه الليبرالي المماليء للغرب وأمريكا كثيرا من النقاط لحسابه الشخصي، وليس لحساب المهمة الشخصية للمذيع أو للموقع، رغم التشابه الحميم بين موقف السياسي وهدف الإعلامي.
كانت الصورة التي قدمها هيكل للوضع داخل مصر هي الصورة التي يقدمها الإعلام السيادي الغربي، الحريص على عدم الظهور بمظهر الإبتذال المفرط، كما تفعل الحزيرة. فلو قدم هذه الصورة في السي..إن.إن او النيو يوررك تايمز، لتلقى الكثير من بطاقات التهاني من أصدقائه الغربيين. فماذا تريد أمريكا خاصة في ثورة الربيع المصري، أكثر من أن يقال أنها تتصل بأصدقائها في مصر لتسأل عما يحدث هناك؟ أليس هذا ابتذالا لا يليق حتى بالإعلاميي الربيع العربي من العرب؟ فمصر تعيش ربيعا من الأزمات الذاتية التي لا دخل لآمريكا بها. والجيش المسؤول عن الأمن القومي لمصر لم تكن مخابراته العسكرية تدري بما سيحدث في البلد إلى درجة المفاجئة. وأن شباب الثورة هم الذين قلبوا حسابات الجيش المندهش، وليس هو الذي أجهض حركتهم التحررية، بسيناريوهاته الكاذبة حول حماية الثورة وهو يقصد احتواءها وإجهاضها كما حصل. هل سأل هيكل نفسه إذا كان هناك مصري واحد سيحمل كلامه هذا محمل الجد؟ أم أنه قرر توظيف ابتذال المرحلة الأمريكية الجديدة السياسي والأخلاقي والإنساني، مثل غيره من الليبراليين العرب أمثال تيزيني وغليون ومذيعات الفضائيات العربية، لصالح التحلل من أي التزام فكري أو أخلاقي أو سياسي؟ من الذي سيصدقه من المصريين أن الوضع اليوم في مصر ليس أكثر خطورة وسوءا على مستقبل الشعب المصري، من عهد مبارك؟ ليس بإمكان أحد سوى هيكل أن يتصور أن أمريكا حينما قامت بإسقاط مبارك، فعلت ذلك لمصلحة الشعب المصري. أو أنها لم تفعل ذلك بتواطؤ الجيش والإخوان ” المساكين “، وبعض رموز الحزب الوطني الذين حاول الجبش وحكومة قراقوش حمايتهم من القضاء المصري. أليس الجيش هو الذي تزعم محاولة تنصيب عمر سليمان ولي العهد الأمريكي،ولكن الخطة تم تعديلها بضغط من الشعب في ميدان التحرير. لقد كاد الشباب والشعب المصري يحققون التحول الثوري الحقيقي في مصر، وكان الفضل للجبش في إجهاض زخم الوضع بالمناورة وكسب الوقت، ليعطي لعناصر الثورة المضادة الفرصة لتعديل الوضع بالتيئيس والرشوة والإرهاب. لقد أدرك الحس الشعبي هذا وعبر عنه، وهو لا يمكن أن يخطيء، لأنه حس عفوي يعايش انعكاس التجربة وخامات الواقع المعاش، وليس موقفا سياسيا، قادما من أروقة النوايا الحسنة أو السيئة. هل هناك معنى إذن لتجاوز هيكل للوقائع، سوى إضفاء صفة البراءة على القيادات العسكرية الطنطاوية المسجلة بالإسم في ملفات أصدقاء أمريكا؟ وهل يمكن الإدعاء أن حماس هيكل في هذا المجال كان حماسا أرعن يخالف كل الوقائع والدلالات السلوكية. لقد لعب الجيش تحت قيادة نخبه الكبيرة دور عدو الشعب. ولم يتحرك هذا الجيش حركة واحدة تخرج عن السيناريو الأمريكي قيد أنملة. حمى الشعب من مذبحة النظام، لآنها فقط ليست في صالح ذلك السيناريو، حيث سىتسبب ذلك حتما في خروجه عن سياقه المحسوب. هذه الحماية الكاذبة هي التي استغلها الجيش فيما بعد لتمرير كل ألاعيب الثورة المضادة تحت سمع العالم كله وبصره بما فيه هيكل نفسه. وما يثير دهشة الوقائع والعقل المنظم هو أن كل المغالطات والتجاوزات التي قدمها هيكل تتطابق بالصدفة مع مقتضيات السيناريو المذكور :
·الجيش الذي يقود الثورة المضادة ويحافظ على جمود الوضع وتهدئته، ليعطي الفرصة للسيناريو الأمريكي للوصول إلى غايته، يمكن في حالة تعذر ذلك شعبيا، القففز إلى موقع السيادة السياسية، ويقوم بإنقاذ الوضع من هناك. أي حمل السيناريو على الدبابات وأكتاف الأمن القومي إلى الغاية. وهذا لا يخيف هيكل، فطالما أنقذ العسكريون بلادهم من الأزمات. أي أن الطنطاوي أو غيره منهم يمكن أن يلعب دور ضباط يوليو. بهذه اللهتة الذكية الفاتحة لشهية البعض، تنفس هيكل الصعداء. لقد قام بتلاوة السيناريو الأمريكي البديل بكثير من البراءة،والإلتزام واالواضح بمصلحة الشعب المصري.
· بما أن الصورة البديلة هي مجرد التفاف تكيكي على ألية تنفيذ السيناريو الأصلي بحذافيره، فالصورة يجب أن تكون على الوجه التالي كما يقول هيكل حرفيا :
….أنه متعاطف مع الإخوان بسبب كل ما تعرضوا له, بل إنه قال مرارا إن الديمقراطية في مصر لا تستقيم إلا إذا كان هناك طرفان: التيار الديني الإخوان واليسار.. واستطرد: كل ما أطلبه لهذا البلد فرصة لأن يبني مستقبله.
والمطلوب هو إذن تمرير السيناريو الأصلي بحذافيره، ‘لى أنه باعتباره اقتراحا صادرا عن هيكل ولا شأن لآمريكا به. هذا يمثل نوعا من الإنهيار السلوكي العصبي. كيف يتخيل هيكلأن مئات ملايين المغفلين في المشاعة العربية سيأكلون التفاحة مرتين. إن هيكل يبدو رغم السن في تمام صحته العقلية، ولكنه يعتمد كثيرا على أسلوب الإعلام الليبرالي الغربي. وحكاية عطفه على الإخوان لما لحق بهم من اضطهاد هي عطف تمهيدي سوريالي على محاولته إبعاد الإخوان المسلمين عن شبهة التحالف مع أمريكا أثناء أضطهادهم لمبارك، الذي راهن على نتنياهو والسيناريو الإسرائيلي الذي ما زال يستبعد بحزم، تسليم الوكالة الأمريكية في المشاعة العربية للإخوان المسلمين. لا يمكن لنرجسية هيكل أن تحتكر الصدق والكذب. فالنرجسية مطب مرضي وليست مهارة.
· النادي الناصري في مصر، ربما ليس برئاسة هيكل مباشرة، ولكن من الواضح أنهم يعتبرون تنظيراته دستورا لهم. ومع أن نادي الهواة هذا، لا يشكل مضايقة سياسية لأحد، إلا أن رموزية عبد الناصر المجني عليه، تشكل وزنا توجيهيا في الوجدان القومي العربي لا جدال فيه، خاصة خارج مصر. وفي دول الممانعة بالذات. وأسقاط النظام السوري وحزب الله، يقع في لب النوايا الربيعية لأمريكا في المشاعة العربية. ولعل هذا بفسر موقف الناصريين الغريب من سوريا والإخوان والديموقراطية ( الليبرالية ) كانعكاس مباشر لتنظيرات هيكل. وهي خدمة من الدرجة الأولى بالنسبة لآمريكا، فالناصرية على ضعفها التنظيمي والسياسي، ما تزال تمارس تإثيراتها العفوية على قطاع واسع من الناس الذين ما زالوا يعيشون في دائرة النزاهة الفكرية.
وهذا شيء محزن على مستوى فذاذة الرجل العربية والعالمية، ومقرف وعديم الإخلاص على مستوى ربيعية هيكل الذي صنعته ثورة يوليو وعبد الناصر. لو كان هيكل مواليا لغير ذاته، كلاما يعطي جرائم أمريكا وحلفائها الإسلامويين حقها الموضوعي من التنديد، وعلى رأسها اغتيال ثورة يوليو وقائدها. ولكنه تجاهل أية إساءة موضوعية للغرب عموما، واختصه وعملاءه الأزليين بهدايا مرتفعة الثمن على حساب المصريين وغيرهم.
4 – يلخص هيكل الموقف في أن مصر قدتم تجريفها؟؟ ( لعله يقصد أبو الفتوح والكفاءات الإسلاموية والمال العام ). ,ان شعبا من ستة وثمانين مليونا ليس فيه كفاءة واحدة لرئاسة الجمهورية. متجاهلا أن الثورة، أية ثورة حقيقية في العالم تخلق كفاءاتها، وتكتشف كنوزها المغيبة، وتبلور القائد الثوري خلال السياق. هل كان عبد الناصر عندما قام بالثورة يملك سيناريو مكتمل لكل ما فعل؟ تراكمات الوعي في السياق الثوري هي القائد المنتخب جماهيريا بديموقراطية الإلتزام الشعبي. هذه هي الديموقراطية الوحيدة الممكنة. أما هيكل فيرى الديموقراطية في تحالف الإخوان واليسار ( الليبراليين ). وهي رؤية رؤيوية جليلة، تتطابق تماما وبالصدفة وحدها مع السيناريو الديموقراطي المعد لمصر. ولن ندخل مع هيكل وهو يبتذل عقولنا بهذه الجرأة، في كيفية دمقرطة الغيب، أو دمقرطة الناس، ولكننا نريد أن نسأله : هل هناك شروط موضوعية للديموقراطية غير النوايا الحسنة لكلينتون ووزير خارجيتها أوباما؟ هل يمكن أن تتعايش الديموقراطية مع التبعية للخرج، أم أن استقلال الإرادة الشعبية داخليا وخارجيا هو ضمانتها الوحيدة؟ أم أن هذه يوتوبيا ورفاه لا سبيل له. إذن ما فائدة الديمواقرطية سوى ستر عورة الإستبداد؟ وما فائدة الشعب المستعبد سياسيا واقتصاديا لقوى خارجية مستبدة من هذه الديموقراطية سوى تنظيم أليات العمالة، وتسهيل مهمة النهب والإستبداد بالوكالة أمام القوى العميلة؟ هل هذا أيضا يوتوبيا؟ هناك كثير من الشعوب تتمتع بالديموقراطية الشكلية والسيادة الوطنية، فلماذا لا يصلح هذا لمصر كمرحلة انتقالية، لتنتظم في سياق الولاء الحر للمصلحة الوطنية على الأقل؟ لماذا على الفلاح والعامل والمستثمر أن يعمل في إطار مصلحة لصوص العالم الدوليين؟ لقد سبق لهيكل أن أجاب عن هذا السؤال في سياق مقابلوقد كتبت عنها لذلك ما أزال أتذكرها وكن ليس بنصها الحرفي. قال هيكل ما معناه، أن هذا العالم أمريكي تتحكم فيه أمريكا بكل شيء، ولا يمكن العيش فيه بدون أمريكا. ونقول لسيادته بأدب : هذا غير صحيح. نحن من سكان هذا العالم أيضا، ونعرف أن أمريكا استخدمت كل وسائلها السياسية والإقتصادية والمخابراتية ضد إيران ضد سوريا وضد لبنان وضد كوريا الشمالية وضد الصين وضد روسيا. واستخدمت كل قدرتها على التدمير في العراق وافغانستان والصومال، ولم يخسر في هذه المحاولات أحد سواها، إذا حددنا أهداف الصراع. فلم هذا التجاوز الجرئ للوقائع؟
هذا هو هيكل. مفكر قومي ليبرالي تنازل عن مصداقيته كلها لأمريكا.