الأطروحات الأم للمجتمع المدني:

سؤال في شروط وجود مجتمع مدني ودور الأنجزة محلياً؟

الجزء الأول

د. عادل سمارة[1]

(ورقة مقدمة في مؤتمر: فلسطين الواقع السياسي الراهن ومتطلبات التغيير .المنظمات  غير الحكومية  والمجتمع  المدني  بين  استلاب وتشويه  الدور الى التكامل،  جدل التحرر الوطني والبناء الاجتماعي. في جامعة بيت لحم 3 حزيران 2011)

مقدمة:

رغم معالجة أكثر من مفكر لمسالة الهيمنة قبل المفكر والمناضل الأممي أنطونيو غرامشي، إلا أن مساهماته  أدت إلى شبه حصرية هذه المسألة فيه. ربما كان همَّ غرامشي هو تفسير لماذا أمكن للدولة ومن ثم الإيديولوجيا البرجوازية أن تُبقي على تماسكها رغم الجوهر الاستغلالي لنظامها! ( لماذا صمدت الدولة الرأسمالية، خصوصا في المركز الرأسمالي، رغم التناقضات البنيوية المتأصلة في طبيعة الرأسمالية وما أنتجته وتنتجه من أزمات اقتصادية وسيااجتماعية تمثلت على سبيل المثال بالحرب الكونية البرجوازية الأولى والأزمة المالية للعام 1929 وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية)، وفي هذا السياق ربما ما لم يُعالج هو، أو أحد بعده، المستوى النفسي الذي يمكن قراءة أطروحات غرامشي على اساسه. فمقارباته السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي تحلل الهيمنة تشي بفائدة ما من قراءة الأمر بعلم النفس، بمعنى كيف ينعكس التطور المادي، الحياة المادية على الطبقات الشعبية فتتمثل أطروحات السلطة التي تستغلها؟ فالهيمنة لدى غرامشي متركزة في البنية الفوقية، اليس علم النفس ضمنها؟ لكن لهذا مجال آخر.

لكن أطروحة غرامشي هذه بثوريتها ظلت محصورة في النطاق الأوروبي، اوروبا الراسمالية المتقدمة وإلى حد ما المتخلفة ممثلة في أوروبا الشرقية وخاصة الاتحاد السوفييتي عشية وبعد بضع سنوات من ثورة أكتوبر البلشفية.  وبهذا المعى كان غرامشي مركزانياً أوروبياً بلا مواربة حيث لم يتطرق، على الأقل في هذا المجال، للعالم الثالث، هذا مع أن كتابات ماركس عن الاستعمار والمستعمرات قد سبقته بكثير ناهيك عن أنه عايش لينين الذي كان أول من تنبه للنظام العالمي ،وشاركه في ذلك بوخارين،  ببنيته مركز/محيط وأول من تعاطى مع دور المستعمرات وشعوب الشرق في الثورة الاشتراكية، وكونه عاش فترة ما بين الحربين الإمبرياليتين والفاشية في إيطاليا . وقد تكون هذه الكتابات التي افترضت أن يقوم المركز بإعادة خلق/تطوير المحيط على شاكلته هي التي طمأنت غرامشي أن الجنة الموعودة هي في عِبِّ أوروبا فتساوق مع اختزال العالم في أوروبا تحت وهم أنها “سوف تجر، بل سوف ينجر”  العالم ورائها! فأي اطمئنان غيبي! وفي هذاالاعتقاد سحب لتطور حيز ما على كل حيز آخر مهما كانت الاختلافات تاريخيا وثقافيا وواقعيا؟ وفي هذا تمهيداً لما نسميه الهيمنة الثالثة. فالأولى هيمنة الدولة البرجوازية في المركز، والثانية هيمنة الطبقات الشعبية في المركز نفسه أما الثالثة، والتي هي هيمنة المركز دولة وطبقات شعبية على المحيط ويتعاون أو حتى استدعاء برجوازية المحيط لههذ الهيمنة، هذه هيمنة مركبة من برجوازيتي المركز والمحيط، هيمنة على الطبقات الشعبية في المحيط لاختراق واحتجاز الثورة العربية الحالية.

لم يشهد غرامشي ظاهرة الأنجزة حتى نسائله فيها، لكنه ركز وطور فكرة المجتمع المدني ومؤسساته ودورها في ترسيخ وادارة هيمنة الطبقة الحاكمة— تعمل مؤسسات المجتمع المدني بالوكالة— وفي حالة الأنجزة تعمل بالأجرة– عن الطبقات الحاكمة في هندسة المجتمعات وترويضها وتوجيهها لمقتضيات ومتطلبات ومصالح الطبقات الحاكمة إن كان ذلك عن وعي أوعن دون وعي) ، لكن استخدام أهل المجتمع المدني والأنجزة لأطروحات غرامشي تخولنا مسائلتهم من منظور اطروحات غرامشي نفسها طالما ترتكز قراءاتهم للمجتمع المدني على أطروحاته لا سيما أنهم ليسوا من مدرسته حتى نفترض أنهم يضيفون إلى المعرفة الثورية تطويراً لها. ونقصد هنا تحديداً فك منظمات الأنجزة عن منظمات المجتمع المدني،أي عن الأحزاب والنقابات والجمعيات، واتحاد المرأة والطلاب ومختلف المنظمات الجماهيرية والقاعدية أنه منظمات الأنجزة آتية من الخارج (ما تمت تسميته باللكنة العلمية لعلم الاجتماع البرجوازي بمؤسسات المجتمع المدني المتخطية للقوميات Transnational Civil Society Organizations (حتى ولو بتمويلها وآتية من الأعلى لأنها تبدا بمدي/رة ومكاتب.( وفي هذا السياق نجحت الطبقات الحاكمة في المركز الرأسمالي من حشد وتجنيد مؤسسات مجتمعها المدني واستخدامها لاختراق المجتمعات المدنية ومؤسساتها في دول العالم الثاني والثالث منذ بداية السبعينيات مستهلة ذلك في دول جنوب أوروبا—اليونان،ايطاليا، أسبانيا والبرتغال لحرفها عن تطلعاتها الشيوعية والاشتراكية وجرها إلى مسار الليبيرالية من خلال الصناديق الألمانية التابعة لأحزاب المسيحية الاشتراكية والديموقراطية الاشتراكية. هذا النموذج تم استخدامه لاحقا لاختراق أوروبا الشرقية من خلال السلال الثلاثة لمعاهدة هلسنكي لتقويض اسس الدولة في اوروبا الشرقية وفي الثمانينيات تم نقل النموذج إلى أمريكيا اللاتينبة والفلبين  وفي التسعينيات وحتى يومنا هذا يتم التركيز على الوطن العربي)[2].

لذا تعالج هذه الورقة في قسمها الأول أطروحات غرامشي التي بمجملها معالجة لإشكالية الثورة الاشتراكية في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الراسمالية المتقدمة في حينه، وهذا يعني أن أطروحات غرامشي هي قراءة لمجتمع هذه التشكيلة. فهي تعالج المجتمع المدني والبنية الفوقية والحزب  والدولة والهيمنة بمستوييها البرجوازي والبروليتاري. وهي معالجة بهدف رؤية مدى تطابق شروطهاالأساسية مع واقعنا المحلي وذلك من مدخل نقدي /تحليلي للكثير من الخلط المفاهيمي والعملي بين أطروحات غرامشي وبين توظيفها واستخدامها وخاصة محاولات المماثلة بين المنظمات الحزبية والقاعدية ذات النبت المحلي والمنظمات غير الحكومية الأجنبية التمويل حتى ولو كانت محلية.

هذه الورقة إشكالية بذاتها حيث تعالج إشكاليات قاد استخدامها المتواصل إلى تحويلها إلى بديهيات قطعية الأمر الذي نكثِّفه في إشكالية المفهوم وإشكالية الواقع، وما يتمفصل عنه من إشكالية إدماج وخلط المفاهيم إلى درجة يُفهم منها تماثلها، وهي ليست كذلك، أي إدخال مفهوم المنظمات غير الحكومية (الأنجزة) في مفهوم المجتمع المدني والأنجزة في المنظمات الأهلية والقاعدية وإدخال هذه المفاهيم  ومن ثم حضورها كبُنى في جدل التحررين الوطني والاجتماعي وهو الجدل الذي لا نُجمع عليه كفلسطينيين، فبيننا من يرى الوطني وقد أُنجز في حدود 1967 وأقل! وحتى الذين يؤكدون على هذا الجدل فمنهم من يوظف المجتمع المدني وحتى الأنجزة في مشروع التحرر الوطني مما يستوجب قراءة دقيقة نقدية ومشتبكة. وهذا لا يستقيم مع المناخ والمبنى النظري الذي صيغ للمجتمع المدني هناك في بلدان المركز وتحديداً أطروحات أنطونيو غرامشي. قد يُجادل البعض: لِمَ لا ننتج منها تطويراً على ضوء واقعنا؟ لا بأس لِنَرَ إن كان واقعنا من القوة بمكان بحيث يحمل المهمة؟

في القسم الثاني تحاول هذه الورقة فيما تحاوله تفنيد الأنجزة وتبيان إن كانت حاملاً لأي من التحررين الوطني والاجتماعي والتفريق بل إيضاح الفوارق الفعلية كما اشرنا بين الحزب والأنجزة ليس على صعيد ما يسمى منظمات المجتمع المدني بل كذلك في الواقع الاجتماعي. إن خلط الإثنين معاً يشكِّل مقتلاً لمبدأ الحزبية، وإظهاراً للأنجزة والمؤسسات الثقافية الاستعمارية الغربية من مجالس ثقافية أو ملحقيات او قنصليات…الخ ناهيك أن منظمات الأنجزة ومَن ورائها يمكن أن تحَّل الأحزاب وتصيبها بالرخاوة والمواربة ولن تملأ الفراغ المتأتي عن ذلك، وهي ليست مرشحة لتحل محل الأحزاب من حيث ولادة ودور ومهام الأحزاب وليست كفؤة لذلك. لذا فهذه العلاقة والتداخل والخلط بين الإثنين مثابة حملٍ مقلق بل مخيف.(تجدر الاشارة هنا إلى أن فكرة اختراق المجتمعات المدنية في العالمين الثاني والثالث جاءت لتفكيك المثلث الحميمي الساخن الذي وصل إلى أوجه في الستينات والسبعينيات من القرن المنصرم والذي ارتكز على الافكار الثورية والمثقفون الثوريين والطبقات الشعبية والذي كان آخذا بالإبتعاد عن المركز الراسمالي ويهدد مصالح طبقاته الحاكمة وكان يحمل بذور فك الأرتباط عنه.

يقوم التحرر الوطني اساساً على القوى السياسية المنظمة تحديداً وعماده الكفاح المسلَّح بلا مواربة وبتخصيص أدق قوامه حرب الغواروصولاً إلى حرب الشعب طويلة الأمد بالسلاح والتنمية والثقافة وتحرر المرأة بما هو أعلى من “حرية” المرأة الممنوحة من الرجل، فهل منظمات الأنجزة مؤهلة لذلك؟ هل ذلك في نيتها؟ ويقوم كذلك التحرر الاجتماعي على القوى السياسية والقطاعات المجتمعية وخاصة الطبقية منها. فهل هذه القوى والقطاعات من الاقتدار بمكان لإنجاز هذه المهمة باقتدار مجتمع مدني؟ أما والتحرر الاجتماعي هو من مهمات منظمات المجتمع المدني، فهل التحرر الاجتماعي من وظائف الأنجزة أخذاً بالاعتبار منشأها وتمويلها؟

قادتنا هذه التساؤلات إلى اكتشاف إشكالية أعمق هي تداخل واختلاط ابعد من مفاهيمي. تداخل بين دور منظمة/مكتب الأنجزة وبين الحزب السياسي، أو تلك المرونة والسهولة التي تحول الحزب إلى انجزة والأنجزة إلى حزب سياسي! هذه فقط من عجائب وإبداعات التشكيلات المشوهة. وتحول المقاومة الشعبية إلى تطبيع، والأكاديميا إلى تخارج ثقافي، والأبحاث الميدانية في الأكاديميا إلى تقارير مطلوب  إنجازها حيث أراد وأصرَّ  الممول على المكان والموضوع، والممول هنا انجزة أو أكاديميا أو حكومات مباشرة! باختصار، حين تصطف أية مؤسسة ممولة من الخارج إلى جانب القوى الحقيقية المكلفة تاريخياً بالتحررين الوطني والاجتماعي، وحينما ترتبط الأكاديميا بالتمويل الأجنبي بدل أن تكون قاعدة للتعليم الشعبي ومحاورة المضطَهدين، وحين يختلط التطبيع بالمقاومة الشعبية، وحين نشارك في إنتاج روايتنا بالتوازي والتساوي مع رواية العدو عن الوطن…هناك مشكلة[3].

يفتح هذا الحديث ابواباً تتوالد بغزارة، منها احتلال المفهوم أو المصطلح. ليس جديداً أن تقتنص إيدولوجيا مصطلحات من مكونات أخرى ضمن حرب الإيديولوجيات، ولا نقصد تفاعلها أو مراجعة إيديولوجيا ما لموقفها.  تمثل ذلك في استخدام المصرف الدولي لمصطلحات التنمية والتنمية المستدامة، أو استخدام أل Overseas Development Agencies ODA ، مصطلح التنمية، وهذه اساساً مصطلحات للمدارس واستراتيجيات التنمية والاشتراكية. ولعل أكثر ما أُغتيل من مفاهيم كان مفهوم المجتمع المدني كما صيغ بوضوح على يد غرامشي[4]. أما مفهوم العمل الأهلي فقد خلط الأحزاب الثورية بالمنظمات المختلقة والممولة من المركز الإمبريالي. هذا ما يوجب وقوفا طويلاً حذراً.

طالما نناقش مسألة المجتمع المدني ومن مدخل كونه تراثاً غرامشياً بشكل خاص، فلا بد من البدء بأطروحات الرجل لمعرفة اين نموضع أو نجلِّس ما يُكتب ويُقال اليوم عن المجتمع المدني وهل ما تزال له علاقة باطروحات غرامشي، أم هي أمر آخر؟

I. هل الراسمالية شرط وجود مجتمع مدني؟

بمعزل عن كون الراسمالية، بمفهومها مسيرتها التاريخية وحتى واقعها الحالي، هي توليد التطور في أوروبا، الحداثة الأوروبية، وبمعزل عن الدور الأوروبي في أمرين هامين عالمياً هما:

· تواكب التطور الاقتصادي الاجتماعي في أوروبا، النهضة، مع حقبة زمنية لم يكن فيها مركزاً في العالم قادر على احتجاز تطورها، مما يعزز قولنا فيما يخص الطريق الراسمالي: “لا اوروبا بعد أوروبا “[5]

· استخدام أوروبا القوة العسكرية لقهر العالم وقطع طريق تطور الهند والصين، استكمالاً لقطع تطور الحضارة العربية الإسلامية إلى أنماط إنتاج أخرى وتشكيلات اجتماعية اقتصادية أخرى،

فإن الرأسمالية هي الحقبة التاريخية بمعناها المادي الحي/الاجتماعي الاقتصادي الثقافي والطبقي كذلك الذي تولدت فيه نظرية/ات المجتمع المدني، اي ان مدنية المجتمع في مرحلة الرأسمالية كانت نتاجاً ضرورياً لهيمنة نمط الإنتاج الراسمالي مما يجعل اية قراءة للمجتمع المدني، بالمفهوم الغرامشي خاصة، وحتى بمفاهيم سابقيه، تشترط وجود تشكيلة اجتماعية اقتصادية بهيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي مما يعني وجوب محاكمة أي طرح عن المجتمع المدني ضمن شروط وبمعايير هذه التشكيلة. بل تبين مسألة المجتمع المدني أن الرأسمالية قد قطعت شوطاً في تجليس المجتمع يقتضي هذا التجليس دوراً لقطاعات مجتمعية تساهم في تجليس التشكيلة نفسها، وإن كانت أحياناً معارضة لجوهر التشكيلة، وكونها معارضة، فهي ليست بالشرط والقطع  نقيضة، وهذا محور أساسي في تكوين ما يسمى المجتمع المدني.

يثير هذا التقوُّل مسألة هامة وهي: بما أن المرحلة التاريخية للراسمالية قد ولَّدت المجتمع المدني، فهل الرأسمالية حاضنة طبيعية للمجتمع المدني بمعناه الإنساني العام، ام هي حاضنة لمجتمع مدني موظَّفاً/مدجَّناً  لمصالحها، مجتمع مدني في حدود مدنية الرأسمالية؟ وهل تسير الراسمالية بشكل عفوي أم برؤية قصدية (غائية) تقودها اساساً السوق ومحركها الربح اللامحدود؟ ستجيب الأسطر التالية على بعض هذا. وهل هذا هو المجتمع المدني الذي تحدث عنه غرامشي أم أن هناك قراءات مختلفة ومن ثم توظيفات لغرامشي تنتهي إلى استخدام الأطروحات وقلبها راساً على عقب.

المجتمع المدني من توليدات نمط الإنتاج الراسمالي. تلاقح اللبرالية والراسمالية للحفاظ على التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي كي يبقى خط الإنتاج مشتغلا دون تقطُّعات ويتحقق المعدل اللامحدود للربح. وهذا ما يفسر الشكل الديمقراطي في الغرب الرأسمالي، بمعنى توفير حد معين من الديمقراطية يغطي الديمقراطية السياسية سواء في تشكيل النقابات أو الأحزاب على أن تكون جميعاً ضمن هيمنة الدولة، التعددية السياسية والتعددية الاقتصادية كذلك “دعه يعمل دعه يمر”. وهما التعدديتين اللتين آلَتا إلى اشكال خطيرة مجتمعياً. فلم يعد  للتعددية السياسية ذلك الدور المحرك والمقرر في السلطة السياسية. يمكن انتخاب اياً كان (مع أن النجاح لمن ينفق أكثر)، ولكن في التحليل الأخير بوسعه التصرف بمعزل عن الدستور وعن التفويض المجتمعي. نسترجع هنا ما قاله سيسل رودس حين قرر استعمار واستيطان روديسيا/زيمبابوي اليوم لتلافي ثورة عمالية في بريطانيا، وما فعله توني بلير بعده بزمن طويل حين شارك بحجم بلاده الوضيع إلى جانب  بوش في تدمير العراق رغم المظاهرات الرافضة للحرب والعولمة وبروز منظمات غير حكومية فيها، ولكن كثيرا من نفقاتها كانت من “جيب” أكبر مضارب في التاريخ جورج شورش (سوروس) اليهودي البلغاري!.

إن التعددية السياسية  الراسمالية هي مفرخة الفردانية أو تفريد المجتمع والناس إلى أفراد بشكل ذرِّي. لعل أوضح تعبير عن قصدية هذا التفريد والتذرير ما قالته تاتشر:”ليس هناك شيء اسمه المجتمع، هناك الفرد وربما الأسرة”.  فالمآل النهائي للراسمالية هو تفكيك المجتمع إلى أفراد وحتى في حالة القطاعات الاجتماعية والأحزاب فهي مهيمن عليها بما يدجنها ضمن نظام توحيد السوق ليس فقط السوق القومية بل توحيد السوق العالمية.  كما آلت التعددية والمنافسة الاقتصادية طالما هي مرتكزة على الملكية الخاصة و “حق” الكسب المفتوح وتوسيعها بلا حدود، آلت إلى الاحتكار وإلى هرم يزداد تدبُّب قمته باضطراد وتنحط وتتسع حياة قاعدته باضطراد ايضاً. تضخم الطبقات الشعبية وذوبان الوسطى فيها وتضاؤل حجم الطبقة الراسمالية إلى ما يقارب النخبة مع انفتاح السوق العالمية بلا حدود، وحدة السوق العالمية.

ولندخل عميقاً في موضوعنا يجدر التنويه بأن توليد المجتمع المدني ترافق مع الثورة الصناعية. ولكن، لماذا لم يكن تبلوره هكذا في حقبة الإقطاع حيث كانت هناك مراتبية (تراتبية) طبقية كذلك؟

قد يكمن التفسير في الفارق الجوهري بين المرحلتين. فإذا كانت السوق موجودة في كليهما وقبلهما، فإن مما تجاوزت به الرأسمالية مرحلة الإقطاع بشكل خاص هو العمل الاجتماعي، هو تجميع التفكك الفرداني للفلاحين في نطاق العمل المأجور حيث الصناعة حتى الأولية منها تحتاج إلى سلسلة بشرية لتجهيز الإنتاج مما خلق البنية الطبقية للطبقة العاملة. هنا، في المرحلة الراسمالية،  يتجمع العمال من اجل الإنتاج ويتفرقوا بعدها كأفراد في بقية يومهم وحياتهم، وحين يتبلوروا في نقابة تتم عملية تدجينهم بالديمقراطية السياسية الشكلية التي تحافظ على بقاء خط الإنتاج مشتغلاً، ولا يقوى ساعدهم إلا ببلورة حركة عمالية. اي مرة أخرى يبقى السوق هو الهدف وهو نفسه مسرح خدمة الملكية الخاصة، اي تسخير العام في خدمة الفردي. هذا إلى جانب ظهور الدولة القومية/العصرية في أوروبا (بعد ويستفاليا في 1648 اي انها تزامنت مع صعود نمط الأنتاج الرأسمالي في القرن السادس عشر المديد الممتد من 1450 حتى 1640 وكذلك تزامنها مع الثورة البروتستانتية التي جاءت جميعها لخدمة عملية التراكم لرأسالمال ) الدولة في سلطة طبقة فرزها نمط الإنتاج الراسمالي حيث العامل الاقتصادي بجوهره الصناعي هو المقرر في التحليل الأخير. الدولة الإقطاعة الصغيرة سابقاً محكومة بعلاقة مباشرة ويومية مع مجتمعها المحلي في حين لم تكن تنحصر الإمبراطوريات في مجتمعها القومي وحده، بل كانت تتفرع عنها دولا انفصالية اخرى، كبيزنظة عن الرومانية والأندلس عن الأموية، المهم أنه في ظل الدولة العصرية الرأسمالية قد تطلَّب هذا الارتباط الحُكمي  ترتيباً مدنياً للبلد. (إعادة هيكلة جذرية للمجتمع برمته)

إذا صح شرطنا هذا لمدنية المجتمع أن يكون للصناعة دور فاعل وأساسي، اي وجود تشكيلة اجتماعية اقتصادية رأسمالية حقيقية، فهل يمكن سحب أطروحة المجتمع المدني هذه على بلدان المحيط، راسمالية المحيط؟ هل عرضت أو تعرض هذه المجتمعات مناخ وشروط المجتمع المدني المشار إليها من غرامشي نفسه طالما يتم نسب قراءة “اصحاب المجتمع المدني هنا” إلى أطروحة الرجل. أم أن هذه التشكيلات الرأسمالية غير المكتملة، بل الانتقالية تولد مجتمعا مدنيا غير ناضج ولا مكتملا؟ إن كان حديثنا هذا مخطوئاً، فما معنى أن ما حسم الأمر في مصر وتونس حتى الآن هو الجيش؟ وما معنى أن هاتين الثورتين بقيتا في نطاق الثورة الأولى أي المطلب الديمقراطي، دون التوجه نحو الثورة الثانية، اي التحرر القومي من التبعية للمركز والتحرر من الارتباط باتفاقات التطبيع والكويز Qualified Industrial Zones-QIZ والغاز مع الكيان،والثورة الثالثة أي التنمية والاشتراكية ؟ اي لم تتولد الهيمنة النقيضة، الهيمنة الثانية هيمنة الطبقات الشعبية التي تدفع باتجاه مشروع ومطالب الحرية الاقتصادية والتنمية والاشتراكية.

ليس هنا مجال قراءة والفرز ما السبب الأساس في تواصل التخلف، هل هو الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة، ام هي الطبقات الحاكمة التي من مصلحتها استمرار التخلف[6]. ما يهمناهنا، أن مجتمعات لم تترسمل وتتصنع بما يكفي لا توفر شروط مدنية المجتمع بمفهوم غرامشي، فما معنى استخدام هذه  النظرية دون توفر سياقها التاريخي، ناهيك عن عدم الإنشغال في توفير هذا السياق؟


[1] أشكر الصديق د. مفيد قسوم على ملاحظاته النافذة على هذا النص، ويبقى اي تقصير علمي وعقيدي هو مسؤوليتي الشخصية.

[2] See Mufid Qassoum, 2004. Glocal Dialectics in the Production and Reproduction of the Palestinian Space under the Various Phases of Globalizations. Uinversity of Illionis at Chicago. Unpublished Ph.D. Dissertation.

[3] هذه إشارة إلى كتاب مشترك وُضع من قبل السيد سامي عدوان أحد المدرسين في هذه الجامعة مع صهيوني. يقف الكتاب على تساوي روايتنا كشعب طرد من وطنه  مع رواية الكيان الصهيوني الإشكنازي كغاصب واستعمار استيطاني! إن أخطر السهام التي يوجهها بعض الفلسطينيين إلى قلب القضية هو إشعار العدو بتوازيه حقوقيا وحقا معنا. وكتاب مشترك من احد المحاضرين في جامعة بيت لحم /سامي عدوان، مع صهيوني لا يختلف عن فلسطيني يعيش في الكيبوتسات مع صهاينة، ويزعم أنه قومي عربي السيد أحمد اشقر. أنظر لهذا مقالة عادل سمارة في:   كنعان النشرة الألكترونية ، السنة الحادية عشر ـ  العدد 2556، أول أيار (مايو) 2011، الثورة والاختراق والتجسس (الحلقة الثانية)، البُعد الطبقي للثورة المضادة: قراءة طبقية في الاختراق والتجسس.

[4] يعتبر غرامشي صاحب فكر سياسي مبدع داخل الحركة الماركسية. ويطلق على فكره اسم الغرامشية التي هي فلسفة البراكسيس (النشاط العملي والنقدي _ الممارسة الإنسانية والمحسوسة). وغرامشي يؤكد استقلالية البراكسيس إزاء الفلسفات الأخرى. إنها ممارسة ونظرية في آن معا ولهذا فإنها فلسفة سياسية. إنها التاريخ -الحي-قيد-التكون، وهي كذلك تصور للعالم يمكن استخلاصه من الآثار الماركسية الفريدة التي يعتبر غرامشي أنها تتكون من ثلاثة أقسام: الاقتصاد السياسي والعلم السياسي والفلسفة. وهو ينقب فيها عن المبادئ الموحدة في علاقات الإنسان بالمادة (التي هي نتيجة براكسيس سابق) عبر التاريخ الذي هو إنتاج ذاتي للإنسان.

[5] درجت أدبيات التنمية على القول بأن “لا يابان بعد اليابان” من خلال توظيف الإحتكارات الخمس الواقعة تحت تصرف المركز وهي: المعرفة التكنولوجية: القوة العسكرية الكاسحة: راس المال التمويلي: الوصولية للمواد الخام: والهيمنة على الإعلام العالمي)  بمعنى أن المركز لن يسمح لأي بلد بالنمو الراسمالي الفعلي بعد اليابان. وهذا صحيح ولكن ربما الأهم أن أوروبا الغربية التي رغم حروبها الداخلية الطويلة كانت تتطور بشكل متوازٍ مما يشير إلى أن من مقتضيات المركزانية الأوروبية احتجاز أي تطور لغير أوروبا. إشارتنا هنا لافتة إلى المركزانية الأوروبية التي كانت تتشارك تحديثاً رغم الحروب القومية الداخلية فيما بينها، وهذا يستدعي من العالم الثالث مركزانية خاصة به تقوم على وجوب فك الارتباط.

[6] أنظر عادل سمارة مقالات الثورات والتجسس والاختراق، في نشرة كنعان الإلكترونية الأعداد 2552، 2556، 2558، 2562، موقع “كنعان: https://kanaanonline.org/