الأطروحات الأم للمجتمع المدني:

سؤال في شروط وجود مجتمع مدني ودور الأنجزة محلياً؟

الجزء الثاني

د. عادل سمارة

المجتمع المدني

تظل مسألة المجتمع المدني حجر الزاوية في مساهمات غرامشي النظرية، وهي مسألة من الاتساع والمرونة بحيث يمكن للفكرين الراسمالي والاشتراكي تبنيها بطريقته الخاصة، بتفسيره الخاص. وقد يعود السبب في توفر فرصة لكلا النقيضين في استثمارها، ربما إلى أن غرامشي كان تجريبياً في كثير مما عرض وربما لأنه ركز على البنية الفوقية (انظر لاحقاً) وهذا ما وفر فرصاً لتعدد تفسيره ومن ثم استثمار هذه الخاصرة اللبرالية له. إن المجتمع الصناعي والدولة القومية الحديثة هما مجال تفكير وتحليل واستنباط أفكار غرامشي ولكن ليس ليشرحهما كمعلم مدرسي يكرر الدرس نفسه لعقود بل ليصل منهما إلى هيمنة الطبقة العاملة.

مرة أخرى، تركيزنا على غرامشي آتٍ من الشعور بوجود قراءات واستخدامات وتوظيفات تناقض ما ذهب هو نفسه إليه، هذا مع وجوب التأكيد أن غرامشي لم يكن بداية ولا نهاية مسألة المجتمع المدني كل فكر هو امتداد لفكرٍ ما، قبله بطريقة ما وبدرجة ما، لكن هذا لا يعني أن الفكرين متطابقين، أو لا خصوصية للثاني أو اللاحق،، لا بل اكثر، يمكن لللاحق ان يختلف بشكل جذري عن سابقه. إن ربط الجديد بالقديم ومحاولة نسبه إليه وحصره فيه هو إشكالية فكرية وربما سياسية مقصودة. لوحظ ذلك في قراءة كثيرين للعولمة قراءة تحاول تغطية جوهرها الرأسمالي الحالي بما هو سيطرة وهيمنة واستغلال آلَ مؤخراً إلى استعمار مباشر من المركز للمحيط.

ويتم الأمر نفسه تجاه المجتمع المدني الذي ينسب البعض وجوده إلى منتهى القِدم في محاولة لفكِّه عن مرحلة تبلوره الأساس أي مرحلة الرأسمالية الصناعية، كالقول بأن المجتمع المدني مسألة في منتهى القدم ولا ترتبط بالمجتمع الصناعي الحديث إلا بالمفاهيم الحديثة التي عولجت بها. يبدأ المجتمع المدني القديم منذ لحظة انفصاله عن الطبيعة العمياء والدخول معها في صراع تحقيق الوجود والبقاء وصولا إلى مختلف درجات الارتقاء الأخرى التي لا نهاية لها والتي يجسدها المجتمع المدني الحديث  حيث ارتقى صراع الإنسان ونضاله إلى البحث عن الحرية للفرد والطبقة والمجتمع بمعنى أنه تجاوز القلق على مجرد الوجود والبقاء وأصبح، بل يجب أن يكون قد اصبح اكثر إنسانية.

يشتمل المجتمع المدني على علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى  الإنتاجية. إنه يشــتمل على مجمل الحياة التجارية و الصناعية لمرحلة معينة و بذلك يتجاوز المسألة السياسية. هذا ما يقوله ماركس في الإديولوجية الألمانية . المجتمع المدني هنا بنية تحتية ، بينما يظهر عند غرامشي كجزء من البنية الفوقية ، اي أجهزة الهيمنة في الدولة؛ الأجهزة الإديولوجية (الإعلام والتعليم- التربيـــة والمؤسسات القانونية والقانون والشرطة والجيش—الجهاز القمعي Coercive Apparatus)،  والاقتصادية للدولة البورجوازية الحديثة. وهذا يُظهر بوضوح أن المجتمع المدني ليس قوة مضادة للدولة البرجوازية بل هو حالة استقلال نسبي بل بالأحرى (امتداد للدولة او المجتمع السياسي وهذا ما يسميه غرامشي بالدولة الممتدة Extended State)،بكلمات أخرى، يشكل المجتمع المدني في المجتمعات الرأسمالية المتطورة موقع امامي للمجتمع السياسي او الدولة) وإنما محكوم لا مباشرة، من المجتمع السياسي اي الدولة، التي بدورها توظفه لتسويد هيمنتها. بهذا المعنى،فإن الدولة الراسمالية تصل إلى مرحلة تتمكن فيها السلطة البرجوازية (المجتمع السياسي) من تطويع المجتمع المدني بحيث يتشرب ويتمثل ويُعيد إنتاج إيديولوجيتها وكأنها من عندياته. (سنبين ذلك في الهيمنة أدناه). لكن هذا كله هو نصف  أو مقدمة ما رمى إليه غرامشي لأنه استهدف هذا من أجل تقويضه على يد الهيمنة الثورية لفكر الطبقة العاملة.

الحزب:

إلى جانب، بل وفي خدمة الطبقات الاجتماعية اشترطت التشكيلة الاجتماعية الاقتصاية للراسمالية تشكيل القوى السياسية التي تعبر عن تلك الطبقات، او هكذا يُفترض. لذا، تشكل الإحزاب والقوى السياسية إحدى أهم مكونات المجتمع المدني بما هي ذات تنظيم ودور سياسي اجتماعي واضحين. لقد ركز غرامشي كثيرا على الحزب وما اسماه “الأمير الجديد” لقيادة الطبقة العاملة في نضالها لتركيز وانتصار هيمنتها في مواجهة هيمنة البرجوازية. هنا علينا التنبه أن غرامشي تحدث عن هيمنتين متناقضتين (متصارعتين وهكذا يبقى المجتمع المدني ميدانا متنازع عليه من قبل الطبقات المتصارعة) وانحاز إلى واحدة هي هيمنة فكر الطبقة العاملة، وهذا بخلاف الفهم المسطَّح الذي يتحدث عن هيمنة واحدة هي هيمنة البرجوازية بهدف تجميلها وبقائها، هذا الفهم هو الذي يسحب المحرك الثوري من فكر غرامشي والأخطر يسحبه من واقع من يقعون ضحية هذا الفهم المخصي.

مسالة الحزب عند غرامشي فيما يخص المجتمع المدني محورية. واهم ما قاده إلى ذلك فشل مجالس العمال في الثورة البلشفية في قيادة نضال الطبقة العاملة قيادة سياسية طبقية، هذا قاد غرامشي إلى الاعتقاد بأن الحزب الشيوعي بالمعنى اللينيني ضرورياً. فالحزب هو الذي، برأي غرامشي، سيُوعِّي ويقود الطبقة العاملة لتحقيق هيمنتها. وهذا يستدعي نقاشاً لحالة الوطن العربي فيما يخص الأحزاب سواء الهجمة ضد الحزبية منذ الفترة الناصرية، وصولاً إلى إلغاء الأحزاب باعتماد الحزب الواحد ، حزب السلطة، وصولاً إلى الهجمة الأخيرة بعد الثورات والانتفاضات والثورة المضادة حيث يتم اعتبار الحزبية مسألة معيقة للثورة! وهذه حالة انحطاط في الوعي السياسي يليق حقيقة بمجتمع في الكثير من مستويات حياته ما زال غير راسمالي، فما بالك بما هو أرقى من الراسمالية!

إن هذا الخطاب الذي يأخذ المجتمع إلى ما قبل العصر الحديث، إنما يقود بشكل غير مباشر إلى رؤية المجتمع كجسم ضخم متاسق كتيم مصمَّت لا تناقض فيه ولا تفاوتاً، وهذا مخالف للديالكتيك الذي يفترض التناقض كمحرك للتطور. وهذا ما يطرح الانتفاضات الحالية على المحك بمعنى المطالبة بالديمقراطية بدون رؤية ولا مشروع ولا تأطير؟

يرى غرامشي أن: “… ليس الحزب الاشتراكي حزباً طائفيا وإنما منظمة طبقية، إنه ينظر إلى الدولة كسلطة طبقية للبرجوازية كنقيض له. إن دخوله في تنافس على السلطة مع البرجوازية مثابة انتحار له، لأنه بهذا يبتعد عن الدور التاريخي للبروليتاريا … ليس هدف الحزب الاشتراكي القبض على  السلطة بل استبدالها، استبدال نظامها وإلغاء حزب الحكومة واستبدال المنافسة الحرة بتنظيم الإنتاج والتبادل[1]

تشكل هذه الفقرة جوهر فهم غرامشي للمجتمع بمعنى أن المجتمع هو بنية طبقية في عصر راس المال، وأن السلطة السياسية محط صراع بين الطبقات ممثلة في الأحزاب السياسية لكل طبقة. ومن الواضح انه يرفض السقوط في الاحتواء البرجوازي للحزب الاشتراكي بحيث يتنافسان على وصول سلطة الدولة بمعزل عن طبيعة الدولة، لذا، لا يقبل بالإمساك بالسلطة بل بتغيير جوهر الدولة وصولا إلى الإنتاج والتبادل. اي ان الديمقراطية السياسية لا تكفي بل يجب أن تنتهي إلى تحقيق تنظيم الإنتاج والتبادل. وتنظيم الإنتاج يتضمن بلا مواربة حق العمال في الإنتاج بما هم المنتجين.

إلا أن فهم غرامشي المجتمعي أعمق وأكثر تعقيداً  من هذا، فلم يكن فهمه المجتمعي اقتصادوياً بحتاً، بل يركز على التفاعل والاعتماد المتبادل بين البنيتين التحتية والفوقية ولا يرى أن الاقتصاد مجرد انعكاس لنمط الانتاج او أن الاقتصاد فضاء حراً  يعدل نفسه ذاتيا بعيدا عن الواقع الموضوعي او ان القاعدة الاقتصادية  مطابقة تماما للواقع الموضوعي، او أن الحقل الإيديولوجي مجرد آلية لإعطاء مشروعية لنمط الإنتاج المهيمن.

بالمقابل في تبرير بعض اليسار لدخول انتخابات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة كان الشعار التقليدي، أن كل حزب يسعى لاستلام السلطة. هذا استبدال لطرح غرامشي وتماشي مع المفهوم الانقلابي والبرجوازي لتبادل السلطة على قاعدة شرعية السلطة البرجوازية فما بالك بسلطة تحت الاستعمار الاستيطاني؟ بكلمة أخرى، هذا أحد اشكال الفهم الأحادي للهيمنة، والذي يتجاهل جوهر موقف غرامشي من وجود وصراع هيمنتين.

تميل أطروحات غرامشي  اجتماعيا ً إلى رفض الاعتماد الميكانيكي على الاقتصاد وهذا اساس تركيزه على البنية الفوقية إلى ما يقارب الانحياز، فهو يرى أنه خلال الأزمات في الواقع العملي لا بد من بروز دور الفكر والفلسفة للإجابة على الأسئلة المستعصية مع ضرورة تناولها بشكل جديد اعتماداً على المتغيرات التي أتت بها المرحلة الجديدة. والفكر والفلسفة هنا من مهام هذا الحزب. إن غرامشي منحاز اجتماعيا، اي في فهم وتغيير المجتمع إلى إعطاء دور كبير لبناء أسس الفكر الجماهيري ويؤكد على معركة الفكر والثقافة للطبقة العاملة وحتى للبرجوازية لأن صراع الأفكار سيرغمها على قراءة عقلانية  للواقع. ومن هنا اهتمامه بالحزب والحزبية.

من هنا نلحظ اهتمام غرامشي بدور الوعي في تحريك الجماهير بمعنى أن حركتها بالوعي تصبح حركة مع رؤية وليست حركة داهمة  مقودة بالمصالح في نطاقها الضيق. بكلمة أخرى، فإن الوعي هو الذي يعطي المصالح مضمونها ومعناها ووجوب الدفاع الواعي عنها. حينما نتحدث عن الوعي الجماهيري، فإننا نتحدث عن المجتمع العصري في دولة عصرية.  وإذا كانت الشيوعية تعني إدارة الناس لحياتهم دون سيطرة سلطة طبقية، فإن هذا يجعل من الوعي أمراً أكثر أهمية وحساسية ومصيرية.

رغم النقد الشديد لنظرية مكيافيللي الفيلسوف السياسي الإيطالي، والذي يمكن تسميته أب الواقعية السياسية، فإنه هو أول من نادى بالتحرر من المَلَكية المطلقة وهيمنة الكنيسة أو بكلمة أخرى هو أوَّل  من اسس للمجتمع المدني. ولا يخفى أن غرامشي قد تاثر به كثيراً. (1). وبالطبع، لا متسع في هذه الورقة لمتابعة التطويرات النظرية على هذه المسألة ما بين مكيافيللي وغرامشي وحتى ما بعد غرامشي نفسه. ما يهمنا هنا أن غرامشي اعتبر الحزب هو “الأمير العصري” في تطوير لنظرية مكيافيللي. لقد جادل بأن الحزب الثوري هو القوة التي ستمكِّن الطبقة العاملة من تطوير مثقفيها الراديكاليين، وهيمنة بديلة في المجتمع المدني. والسؤال هنا، اين يقع الحزب الثوري في مسألة البنيتين التحتية والفوقية؟ هل يمكن اختصارالإنسان في البنية التحتية؟ أونسبه إلى البنية الفوقية كمجرد جزء منها، أم أن الإنسان اساس البنيتين، وفي مناخات وظروف معينة يعطي الأولوية لهذه او تلك في مسيرة جدلية الحياة نفسها؟

لا تسعفنا الغاية من هذه الورقة لمناقشة الكثير من النقاش والجدل والنقد لما يتعلق بالبروليتاريا، ونحن نعلم أن غرامشي ولوكاتش عاشا قبيل النصف الثاني من القرن العشرين حين كانت أزمة الراسمالية قد قاربت قتلها.  وفي حقيقة الأمر يتكامل غرامشي ولوكاتش وإن بديا مختلفين نسبياً. ففي حين يركز لوكاتش على الوعي الطبقي بالعموم، يركز غرامشي بشكل اكثر دقة على الحزب وعلى المثقفين ودورهم في التوعية والثورة كآلية لتعمم البروليتاريا هيمنتها على الطبقات الاجتماعية الأخرى مقابل هيمنة البرجوازية.ربما نجد في التطوير الذي اضافه بولنتزاس على الطبقة في المجتمع المدني بأنها لاتكون طبقة بدون الوعي السياسي الطبقي، نجد بعض اسس هذا في أطروحات غرامشي التي تركز على دور الإيديولوجيا للطبقة وخلق كل طبقة لمثقفيها.

يقول غرامشي “الكتلة البشرية لاتتميز ولاتصير مستقلة من تلقاء نفسها من دون أن تنظم نفسها بالمعنى الواسع، ولا تنظيم  بدون مثقفين، أي بدون منظمين وبدون قادة[2]. لكن غرامشي لا يبتعد عن الديمقراطية الماركسية في خضم الصراع الاجتماعي. ففي حين يرى ان المجتمع السياسي اي الدولة البرجوازية تفرض هيمنتها بالقسر والسيطرة (وانتزاع الرضى من الطبقات المحكومة)، فإن البروليتاريا تفرض هيمنتها بالإقناع والثقافة على الطبقات الأخرى. وربما هنا وحسب نفهم ما معنى وأهمية الوعي للثوريين وليس اكتفائهم بالحماسة.

كما ينتهي غرامشي إلى ما انتهى إليه ماركس بأن الدولة لا بد ان تنتهي كلما ارتقى المجتمع المدني القائم على الوعي البشري او كما بشر ماركس ” حلول إدارة الأشياء محل إدارة الأشخاص”.

سؤالنا أو تساؤلنا في هذا الوضع : هل المنظمات غير الحكومية قابلة للتحول إلى بُنى حزبية تضطلع بمهمات الحزب التي هي مركزية في حياة أي  مجتمع عصري؟ هل هي مؤهلة اساساً من حيث المنشأ والتمويل ومركبها الاجتماعي  لهذا الدور؟ وإذا كانت عاجزة عن هذا  اجتماعياً فماذا عن أهليتها للمشاركة في التحرر الوطني؟ (أنظري/ر لاحقاً)

الهيمنة

إن قِدم مسألة المجتمع المدني مهما كان فيها من صحة،  يجب أن لا يطغى على التطور الأساس لهذه المسألة من حيث ما آلت إليه في حقبة الراسمالية الصناعية والأهم التطوير الأساسي الذي انجزه انطونيو غرامشي فيما يخص نقد ونقض الهيمنة في هذا المجتمع وصراع النقيضين، هيمنة الطبقة العاملة/الطبقات الشعبية في مقاومتها لهيمنة الطبقة الراسمالية. فكما ورث غرامشي مسألة المجتمع المدني عن سابقيه، لينين، وماركس وهيجل، فقد ورث عنهم كذلك آلية عمل هذه المسألة وطورها بشكل أفضل وهي الهيمنة.

يرى غرامشي أن الهيمنة (Hegemony) هي الوجه الأكثر مهارة وذكاء من السيطرة ( Domination )، بمعنى أن السيطرة تتم بالقمع واستخدام الدولة للقوة في تثبيت سلطتها وبالطبع مصالح الطبقة التي تمثلها، في حين أن الهيمنة هي آلية (تمزج ما بين الإكراه القسري والقوة الناعمة ولهذا فهي) اكثر مرونة، هي تشريب الناس لما تريدهم الدولة أن يسيروا بموجبه إلى درجة يعتقدون معها أن ما يقومون به وكأنه من إبداعهم الذاتي، إنه استدخال إيديولوجيا الدولة، وهذا يكفل للدولة بالطبع “سلاما” اجتماعياً وبالطبع طبقياً. على أن الوصول إلى المجتمع المدني بشكله العصري في الغرب الراسمالي وتحقيق الهيمنة بمفهوم الدولة المدنية البرجوازية مثابة عملية قامت او تقوم على دخول المرحلة الصناعية أو لنقل الحداثة بمفهومها العام وخاصة اعتماد العقل وتجاوز الكنيسة وقبول العلمانية. وإذا كان هذا فهم البرجوازية للهيمنة وللمجتمع المدني، فإن كثيرين يضلُّون بهذا الفهم أو التفسير المقصود، يضلون عن ما هدف إليه غرامشي بمفهوم الهيمنة. وهنا يكمن تبهيت وتمطيط مفهوم المجتمع المدني بمعنى أنه بدأ منذ تمكُّن الإنسان من تطويع جوانب من الطبيعة بفعل تحدي الوجود اي الانتقال من المشاعية البدائية إلى المجتمعات الاستيطانية التي ظهرت للعيان مع تطور تكنولوجيات الزراعة التي قادت بدورها لانتاج الفائض الجتماعي/الإقتصادي الذي مكن من ظهور الطبقات: المنتجة للفائض والمقتطعة له والمهيمنة علية (الكهنة، التجار والعسكر). إن هذا التمطيط  لمفهوم المجتمع المدني إلى ذلك الغور التاريخي الممعن في القدم مثتبة تبهيت سياسي طبقي مقصود وغير علمي على الأقل بالهدف.

يرى غرامشي أن هناك هيمنيتن واحدة لكل طبقة رئيسية في المجتمع الذي يسيطر فيه نمط الإنتاج الراسمالي:

· هيمنة البرجوازية (الدولة) التي تحاول بسط إيديولوجيتها على الطبقات الشعبية

· وهيمنة الطبقة العاملة التي هي نقيض هيمنة البرجوازية وهدفها التغيير، كما اشرنا في بداية هذه المقالة.

وعليه، فإن الفهم المسطح والشكلي لغرامشي هو مفهوم تدجيني إستلابي يُفرغه من محتواه الطبقي والنضالي، ويحوله إلى مفكر مدجَّن. كما يعتمد أو يستخدم البرجوازيون الاهتمام الكبير لدى غرامشي بالمسألة الثقافية لتمرير تفسيرهم الخبيث هذا.

إن ما لم يرتق إليه غرامشي، وفي هذا سقطة مركزانية اوروبية، أو عدم التقاط التطورات، هو الهيمنة وبلدان المحيط. هذا لم يعالجه غرامشي حيث كان مأخوذاً باوربا الراسمالية. لكن أوروبا لم تكن في أوروبا بل كانت في كل العالم؟ هل كان يعتقد أن تحرر أوروبا اشتراكيا سينسحب على العالم كله؟ حتى لو حصل سيظل هذا تفكيرا مركزانيا اوروبيا. ولماذا لم يتنبه غرامشي إلى أن الدولة الراسمالية الغربية ذات المجتمع المدني هي الدولة الاستعمارية امبريالية التي وهي تذبح امم المستعمرات لم يرفض ذلك مجتمعها المدني!! هذا ما نقترح معالجته بعنوان الهيمنة الثالثة.

قد نجد المعنى الحقيقي للمقصود بالهيمنة لدى لينين، وهو الأمر الذي يتهرب منه محرفي/ مدجِّني مفهوم غرامشي للهيمنة. وهذا التهرب هو قطع مقصود لجذور تبلور مفهوم الهيمنة لدى غرامشي كي يصبح اغتياله أو احتلاله اسهل وأكثر إمكانية:

استخدم لينين مفهوم الهيمنة للإشارة إلى القيادة السياسية للطبقة العاملة في الثورة الديمقراطية. وهذا يوضح طبقية الهيمنة، هيمنة طبقة من خلال حزبها. وهو ما طوره غرامشي لاحقاً في تحليل دقيق ليوضح لماذا لم تحصل الثورة الاشتراكية الحتمية كما كان تنبأ بها الماركسيون الأُول  في بواكير القرن العشرين. آنذاك كانت الراسمالية متجذرة بعمق. وقد أدرك أن الراسمالية تتحكم ليس فقط عبر العنف والقسر السياسي والاقتصادي، ولكن ايضاً الإيديولوجي، من خلال هيمنة الثقافة والتي بها تصبح قيم البرجوازية  بديهة أو إحساس وشعور عام Common sense”   بأنها قيم الجميع، هذا ما نسميه استدخال الهزيمة.

وهكذا فإن إجماعاً ثقافياً قد تطور إلى درجة أنه في  الطبقة العاملة أصبح الجيد لديها هو الجيد لدى البرجوازية، وعليه تساعد على إبقاء الوضع الراهن وليس الثورة ضده. لا بد للطبقة العاملة من تطوير ثقافة خاصة بها تُطيح التصور الذي تمثله القيم البرجوازية والذي يبدو كأنه قيماً “عادية” أو “طبيعية” للمجتمع، ولكي تجذب الطبقات والمثقفين المقموعين لصالح هدف البروليتاريا.

تمسك لينين بأن الثقافة هي عامل مساعد للموضوعات السياسية، أما بالنسبة لغرامشي فالهيمنة الثقافية اساسية لإحراز السلطة ويجب إنجازها أولاً. من وجهة نظر غرامشي، فإن اية طبقة تطمح للسيطرة في الشروط العصرية لا بد أن تطمح لما هو أبعد من الطريق الضيق لمصالحها “الاقتصادية-المشتركة” ولكي تمارس قيادة ثقافية وأخلاقية، وأن تقوم بتحالفات ومساومات مع العديد من القوى.

لقد أسمى غرامشي هذا الاتحاد بين القوى الاجتماعية ب “الكتلة التاريخية”، مستعيراً المصطلح من جورج سوريل. وتشكل هذه الكتلة أساس الإجماع على نظام اجتماعي معين، والذي بدوره ينتج ويعيد إنتاج هيمنة الطبقة السائدة عبر سلسلة من المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والأفكار. وبهذا المعنى، فقد طور غرامشي نظرية ركزت على أهمية البنية الفوقية في كل من الحفاظ على وكسر علاقات البنية التحتية. وهنا لا بد من محاذرة فخّ الكتلة التاريخية بمعنى أن غرامشي لم يكن ليروج لها في ظل النظام الراسمالي بل طرحها ليشرح تكتيك البرجوازية، وعليه، فإن دفع تحليله إلى نهايته يجب أن يستدعي كتلة تاريخية بقيادة الطبقة العاملة. في هذا السياق لا يسعنا إلا ان نشير ان تطبيقات هذه الفكرة في ظل العولمة النيوليبيرالية تتجسد في تشكل الكتلة التاريخية للطبقة الراسمالية المتخطية للقوميات Transnational Capitalist Class بما في ذلك مؤسسات ومثقفو المجتمع المدني لخدمتها وذلك بهدف تدجين المجتمعات في المركز والمحيط وشبه المحيط لتسهيل سيرورات إعادة الهيكلة الاقتصادية واللبرلة السياسية والهندسة الاجتماعية للحيلولة دون اي مقاومة منظمة تنشأ من البنى القاعدية لهذه المجتمعات ضد مشروع العولمة النيوليبيرالي لذلك ليس سرا أن غالبية دول المركز وبالتنسيق بينها وبين مؤسساتها وصناديقها تقوم بتمويل مؤسسات الأنجزة في التشكيلات الاجتماعية المختلفة والمتباينة في المنظومة الرأسمالية العالمية. على سبيل المثال تمويل الافكار والمشاريع العاملة في حقل “الديموقراطية وحقوق الإنسان”.

بهذا المعنى، فإن الحزب رافعة اساسية لهيمنة الطبقة التي أفرزته كي يمثلها، ولكن، أين تقع منظمات الأنجزة من هذا الأمر؟ أية هيمنة تسعى لنشرها اجتماعياً طالما هي ممولة من الخارج بالمال السياسي، ربما هناك استشناءات محدودة؟ ما مساهمتها وهي تنشر الثقافة الأميركية في الديمقراطية المخادعة، بعض حرية القول هنا، ومقابل حرية ذبح امم هناك. كيف تتجاوز القرار الرسمي من الغرب بالتعامل مع الصراع العربي الصهيوني من مدخل أن ما بيد الكيان هو للكيان؟ وبكلمة: هل هي جزء من المشروع الوطني التحرري، هل هي مشاركة وهل تمن بالصراع الطبقي للطبقات الشعبية ضد الكمبرادور، ام هي بتحصيل حاصل جزؤ من الثورة المضادة، أداة للهيمنة الثالثة، الهيمنة الخارجية؟ (أنظري/ر لاحقاً)


[1] The Antonio Gramsci reader, selected writings 1916-1935. Edited by David Forgacs,  the New York University Press, 2000, 40-41

[2] – المصدر السابق – ص – 199. المصدر السابق – ص – 199.