هل غنمت النهضة “الثورة”؟

عادل سمارة

(ملاحظات من نقاش إشكالية الدين والعلمانية في حلقة بمعهد دراسات المرأة-جامعة بير زيت)

في أعقاب فوز حزب النهضة في تونس كحزب دين سياسي انكبَّ كثير من الكتاب العرب على إثارة عديد من القضايا المعلَّقة بحثياً على الأقل ومنها نقد الحالة الحزبية العربية ناسبين لها العيش كتجارب حزبية بافكار وإيديولوجيا مستنسخة من ثقافات غربية وشرقية…الخ. وهذه مسألة لافتة حيث لاحظنا في بداية الحراك في تونس ومصر افتخاراً بعدم وجود دور للأحزاب وإطراء لعدم حزبية الشباب الأمر الذي نتجت عنه حملة ضد مبدأ الحزبية رغم أنها ظاهرة اجتماعية سياسية عالمية وعصرية. وقد جائت نتائج الانتخابات التونسية لتبين أن الشباب، بما هم غير منظمين في صف و/أو رؤية لم يحصلوا على شيىء يذكر مقابل مبادرتهم وتضحياتهم التي حصدها جيل “هرمنا”.

كما أن النقد المنفلت لمسألة الحزبية ووصفها ك “مستوردات” من الغرب يُخشى أن يتحول مع التطورات الجارية في الوطن العربي إلى رِجعة جديدة إلى الوراء تقود إلى وقف التفاعل المعرفي بيننا وبين العالم وتحديداً في مستويات الفكر والثقافة بينما يتواصل انفتاحنا على السردية العالمية الكبرى، اي السوق مجسدة في علاقات المتاجرة ذات الطريقين المحددين بيننا وبين نفس الغرب الذي يتم الوعظ بتحاشي العلاقة المعرفية معه، وهما طريق الاسيتراد السلعي من جانبنا وطريق التصدير السلعي من جانبه والذي تلخصه أدبيات المصرف الدولي: “تحرير التجارة الدولية Liberalization of International Trade ” والتي مبتداها ومنتهاها هو التبعية الممأسسة والبنيوية. هذا مع العلم أن الفكر والثقافة والنظريات وتحديداً النقد هي التي تؤسس للحيلولة دون التبعية ومنها التبعية الاقتصادية.

فاعتبار التجارب الحزبية مستنسخة ومشتقة من “الأجنبي” أمر مقصود به القضايا الفكرية في القومية والاشتراكية وصولا إلى إغلاق باب التفاعل والتلاقح الفكري المعرفي العالمي الذي هو منتج تفاعل تاريخي للبشر. هذا ناهيك عن الانتقائية من جانب من يتهمون غيرهم بالاستنساخ. فإذا كانت القومية والاشتراكية والعلمانية مجرد صياغات غربية لا اسس لها في تاريخ الأمم، فإن الديمقراطية واللبرالية وخاصة مستواهما الاقتصادي (اي الراسمالية) هن ايضاً من نفس المنبع الغربي أو الشرقي فما معنى عدم نقد قيام الدين السياسي بالأخذ بها؟ ما هو معيار تحديد مسألة ما بأنها مستنسخة وأخرى لا؟ هل هو عمق فهمها وتحليلها ونقدها وتجاوزها واقترابها من الواقع المحلي؟ أم هو رضى الغرب الراسمالي عنها؟

ينص برنامج حزب النهضة التونسي على أمور منها: “التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية من جهة وخصوصيات الهوية الإسلامية للمجتمع من جهة أخرى…وتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية) لينك البرنامج(http://www.365p.info/livre/index.html. وفي هذا السياق يؤكد البرنامج على مكتسبات المرأة المحققة في الزمن السابق… وإنفتاحها على الآخر وبالاخص الغرب نفسه”

الأمر المفارق هنا أن كثيرا ممن يكتبون يُطرون هذه المكونات في البرنامج دون الإشارة إلى أنها (بلُغتهم) مستنسخة عن الغرب تحديداً. فمن هو العامل المحدِّد هنا؟ هل هو القناعة بالمسألة نفسها ايّا كان مصدرها ؟ أم التقيد بالمحددات التي يطرحها الغرب، وهو نفسه الذي يقوم كثير من الإسلاميين باتهام القوميين والماركسيين بالاستنساخ عنه!

هذه المكونات، سواء نصَّت على الأخذ بالعلمانية أم لم تنص، فهي تعني أخذاً ما بالعلمانية، وهذا تطور جيد ولافت. وقد يستثير بعض التساؤلات عن حدود مصداقية هذا الأخذ. وهذا أمر تصعب الإجابة المسبقة عليه مما يوجب وضعه في بطن الزمن إلى جانب وجوب قيام القوى العلمانية قومية ويسارية بتسهيل طريق حكومة النهضة ورقابتها ونقدها في الوقت نفسه. لا يمكن لمثقف أو مفكر أن يأخذ على عاتقه مغامرة تأكيد أو نفي التزام هذه الحكومة أو تلك بهذه المسألة أو تلك. بل الأمر ابعد، فنقاش المرء مع النهضة وغيره ليس في أخذه عن الغرب أو غير الغرب، ولكن السؤال هو في محتوى القضايا المعلنة وفي فرص تطبيقه لها تطبيقاً بيئوياً. مثالان:

1- كيف يمكن لحزب النهضة أن يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية (وهذه بالمناسبة مصطلحات اشتراكية اساساً) في بلد أهم مرتكزات اقتصاده ريع السياحة وتحويلات عمالته في الخارج؟ هذا من جهة ومن جهة ثانية “انفتاحه على الآخر وخاصة الغرب نفسه”؟ هل الانفتاح هو “استيراد” الأفكار؟ أم السلع؟ وأليس هذا استنساخاً. أما الأهم فهو: كيف يمكن تحقيق تنمية إلى جانب الانفتاح حتى الاقتصادي؟ وهذا يذكرنا بأخطر سرديات الاقتصاد السياسي اللبرالي “حرية التجارة” والتي بدأت مع آدم سميث وصولاً إلى ميلتون فريدمان، بينما تطبيقيا، ما مورس هو الحماية؟

2- ما مضمون الدولة المدنية؟ إذا كانت هذه صيغة مضادة للدولة الأمنيةـ وهي تبدو كذلك، من حيث احترام المواطنة…الخ، فإن هذا يكشف عن أمر مخيف حقاً، لأن ما تحتاجه الأقطار العربية هو الحماية والكفاية وليس الانفتاح. يحتاج دولة تضبط نزيف الفائض إلى الخارج، تتحكم بالفائض ليتم استثماره داخل البلد وتعمل على إقامة قطاع عام لتشغيل نسب متزايدة من العاطلين عن العمل، وتوفر حدا ادنى للأجور، وتحمي الصناعة الوطنية وتؤمم القطاعات الرئيسية في الاقتصاد. بدون هذا يكون التغيير قد وفر للمواطنين مواطنة تتحدث في السياسة وقد تنزل إلى الشارع بأمان، ولكنها لا تتتحدث في الاقتصاد وكفاية الحاجات…الخ.

رغم ضيق المساحة، لعل المناظرة مع النموذج التركي مفيدة هنا. ولكن ليس في قراءة اللحظة الحالية، بل السياق التاريخي. من الطريف الإشارة أن بعض المثقفين الذين يقرأون اللحظة مقطوعة عن السياق التاريخي يعتبرون التاريخ لغة قديمة يجب استبدالها باللحظات في عصر السرعة! فعمر التجربة التركية الحديثة من عمر سايكس-بيكو في الوطن العربي والثورة البلشفية في روسيا، نتحدث إذن عن ثلاثة تجارب هي من المخلَّفات المهزومة إثر الحرب العالمية الأولى.. سمح الغرب آنذاك لتركيا بالبقاء بعد هزيمتها، وغفر لها مذبحة الأرمن، ومنحها جزءا من سوريا، وأبقى بيدها جزءا من كردستان. بكلمة، تمتعت تركيا بتخفيف قبضة المركز الإمبريالي عنها مما ساعد نظام أتاتورك القومي على تحديث البلد وخاصة صناعياً. هل كان سبب هذه المرونة تجهيز تركيا اللبرالية لمواجهة المد الشيوعي البلشفي (1917)؟ لِم لا؟ وهذا ما تجلى لاحقاً بدخول تركيا الأطلسي. واعترافها بالكيان الصهيوني والحفاظ على علاقات استراتيجية معه. أما الاتحاد السوفييتي فحقق التنمية عبر حصار الغرب له وغزوه 1918 ومن ثم انتهاج سياسة فك الارتباط. بينما خضع العرب لتجزئة واستهداف دائم.

الأهم في هذا السياق، أن الدين السياسي التركي الحالي قائم على قاعدة بنية صناعية بيد برجوازية غير كمبرادورية، ذات طموح إنتاجي وبالتالي طموح تصديري والبحث عن موقع في أوروبا وعن اسواق عربية وهو التطور الذي أعطى مساحة للمرأة هناك كي تحصل على حقوق يبدو أنها احد شروط التقدم الصناعي وبأنها تماسست إلى الحد الذي ليس سهلا على الإسلام السياسي رده إلى الوراء، كما ليس في مصلحته الطبقية لأنه كنظام ليس مجرد فرقة بونانبرتية أو زمرة عسكرية بل منخرط طبقيا مع البرجوازية التركية. لا حاجة للعودة إلى سحق تجربة محمد علي بمصر، بل نُشير إلى أن تجربة عبد الناصر جرى تحطيمها بدور خارجي ومحلي. فهل لهذه مداولات؟

وبالعودة إلى تونس، لا مناص من الابتعاد عن حصر النظر في “جماليات الربيع العربي” انتقالا إلى سؤال الاقتصاد السياسي. هل تتوفر في تونس مقومات التجربة التركية بالمفهوم الاقتصادي التحديثي ولا نقول التنموي؟ وهل لدى حزب النهضة ما يتمسك به من النموذج التركي غير الإبقاء على ما حققته المرأة إضافة إلى لعبة الانتخابات؟ هذا جميل، لكنه لا يكفي. ودون إطالة، فالشباب الذي فجر الحراك، لم يأخذ لا مقاعد برلمان ولا مواقع عمل؟ فهل في جعبة النظام الجديد ما يلبي ذلك ضمن الانحصارية القُطرية التونسية وإعمار أفضل للمساجد؟ هذا سؤال اللحظة؟

وهذا يفتح على سؤال يفرض نفسه، طالما تغير النظامان التونسي والليبي إلى نظم ديمقراطية يرضى عنها الغرب تماماً بل كان المساهم الأساس في الحالة اللبيية هل يسمح الغرب ببداية علاقات وحدوية بينهما؟ وهل لديهما هذا التوجه؟ نسأل هذا، لأن ما يحتاجه المجتمع ليس مجرد رفع شعارات ووضع نصوص برامج بل تطبيقات اجتماعية اقتصادية على الأرض. فما نعرفه أن الكثير من المصانع التونسية اشترتها شركات غربية خلال عهد بن علي، هل يمكن توظيف فوائض نفط ليبيا في إعادة تصنيع تونس؟ وإذا كان نفط ليبيا “اللبرالية” بيد الغرب. ما العمل؟ إن سؤال التنمية والاقتصاد السياسي هو السؤال الحارق وليس فقط سؤال الديمقراطية.

ثير هذا وقد انتشرت في الوطن العربي حماسيات ثقافوية في أعقاب ما أُسمي “الربيع العربي” تدعو إلى خلق لغة جديدة ومعرفة جديدة ومصطلحات جديدة على أعتبار أن القومية والوحدة العربية والاشتراكية وأدوات التحليل الاقتصادي الاجتماعي، وأدوات الاقتصاد السياسي غدت قديمة لا يمكنها التعامل مع التطورات والجديدة. وقد يكون من الطريف بل المُفارق أن هذا الاندلاق العربي على اللبرالية يتزامن مع مأزقها في المركز، اي مركزها متجلياً في الأزمة الاقتصادية والمالية وبدء حراك شعبي وصل إلى الاستنتاج أن ما معنى اللبرالية السياسية إلى جانب البطالة. ها هم حين ذاقوا طعم بؤسنا يتململون؟

إن الهجمة على لغة وأدوات معتقدات وسرديات متهمة بالقديمة، إلى جانب إطراء لغة ومعتقدات أقدم من جهة، أو الدعوة لنحت لغة وأدوات جديدة، يوجب التفكير والحذر وخاصة في هذه اللحظة الحرجة أو الانتقالية، إن صح التعبير، من اللغة والمعرفة وأدوات التحليل الدارجة إلى ولادة الجديد المتوخى. وبالطبع لا ننادي بإغلاق باب الاجتهاد كما فعل بان تيمية، بل ننادي بوجوب النقد المشتبك والمتخطي. فإذا كان المجتمع العربي في حراك ما، هل ينصحه هؤلاء المريدون بالتحرك دون أدوات تحليل إلى أن يولدوا تلك الأدوات، أم أن توليد الأدوات هو مهمة الحراك نفسه؟ قد يجيب على هذا السؤال ما آلت إليه أوضاع الشباب في تونس حيث تورثت نضالهم الأحزاب التقليدية وخاصة حزب النهضة. وكما يبدو حتى اللحظة على الأقل أن وضع الشباب في مصر ليس أفضل، لا سيما إذا لاحظنا الغزل غير العذري ولا المستور بين الولايات المتحدة وجماعة الإخوان المسلمين ناهيك عن العسكر.

من نجاح “الاستنساخ” إلى الأزمة الاقتصادية!

ليست تهمة الاستنساخ بالأمر الجديد في التاريخ العربي الحديث، فقد دابت الأنظمة العربية على نعت القومية والعلمانية والماركسية بأنها أفكار مستوردة وأن الشعب العربي وخاصة بثقافته الإسلامية يرفضها ويتجه إلى الدين، لكن وقائع حقبة النهوض القومي البرجوازي العربي تدحض هذه المزاعم. فالشعبية التي حققها النظام الناصري والذي كان يتحدث ويحاول بناء اشنراكية عربية، قد حظيت حتى بقبول الأمة العربية جميعها وليس المصريين فحسب. وحينها لم تمنع مصر الناصرية التدين ولم تغلق المساجد، بل قاربت العلمانية كما قاربت الاشتراكية وفي الحالتين من منظور قومي. وهذا يطرح السؤال الواضح: هل المسألة في انعطاف الشارع نحو الدين؟ وهل جرى هذا الانعطاف لأن الشارع رفض الاشتراكية والقومية؟ وفي النهاية ما هي اسباب ذلك الرفض إن حصل؟

هل يكمن السبب في المسالتين التاليتين:

· عجز الحركة القومية والاشتراكية عن الانتصار على الكيان الصهيوني والامبريالية والأنظمة العربية التابعة للمركز الراسمالي ؟

· ومجيء انظمة الكمبرادور التي بعد تصفية التيارين القومي والشيوعي وضعت الشارع أمام أحد خيارين:

o إما دعم الأنظمة القائمة

o أو الانحياز إلى الإسلام السياسي؟

ولا شك أن الخيار واضح. ولكن الأمر الذي رافق هذه التطورات في الوطن العربي لا يقف وربما لم ينجم عن المسألة الإيمانية ولا حتى عن الإسلام السياسي، بل نجم عن الشروط الاقتصادية الاجتماعية التي رافقت صعود الكمبرادور بشقيه الريعي النفطي والريعي غير النفطي وترافقهما مع الهزيمة القومية في الصراع مع الكيان وحلفائه. لذا، قادت هذه الأزمة المتشعبة إلى الرجوع إلى الدين كملاذ ليس مكلفاً من جهة، وكتعبئة روحية تثير الراحة والاطمئنان من جهة ثانية، إنه الشعور بالراحة في أحضان الملاذ الأخير. ولكن، إذا صح زعمنا بأن المجتمعات الريعية هي اقرب إلى اللجوء للغيبيات وخاصة خلال الأزمات كملاذ، فهل يجوز لنا دعم ذلك بالإشارة إلى أن الدين السياسي في الغرب والمترافق مع حقبة العولمة متجلية في تطورات اساسية هي:

· الأزمة الوضعية الممتدة في المركز منذ 1963 والمشتدة اليوم

· تفكك الكتلة الاشتراكية مما سمح للراسمالية الهجوم على مكتسبات العمال ولا سيما مع غياب الكتلة المضادة

· وسمح نفس التفكك بالهجوم على دول ونهب ثرواتها العراق ليبيا

إن التقيد بموافقة الغرب وصداقته تدفعنا لكلمة عن مرحلتين في تجربة الجزائر. بدأت الثورة الجزائرية وانتصرت وهي في صراع مع الغرب وكانت عربية الطابع، وبالطبع لم تكن ضد الإسلام، ولكن كانت آليتها الأساسية للتعبئة هي العروبة. ولكن الظروف تغيرت. فحينما فاز الإسلاميون في انتخابات أوائل التسعينات، رفض الغرب ذلك ودخلت البلاد في دوامة عنف لا حدود لها. وبالمناسبة، لم يهب الغرب لإنقاذ الإسلاميين المنتخبين كما يحاول في سوريا اليوم لصالح إسلاميين غير منتخبين! فاي غرب الذي يتحدث عنه حزب النهضة؟

بقي أن نقول، إن الدين مقوم اساسي في المجتمع التونسي والعربي، ولكن التدين والإيمان بالله لا يكفيان لحل الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية، ولا نعتقد أن الدين نصح بالتدين وترك شؤون الدنيا. فما قالع عمر بن الخطاب ما زال حياً: “إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة”.

لا غنىً عن السؤال: كيف يعيش المجتمع، هل في التدين وصداقة الغرب حلاً لمشكلة الفقر؟ هل كان التدين هو حافز حراك شباب الانتفاضة في تونس؟