سؤال في شروط وجود مجتمع مدني ودور الأنجزة محلياً؟
الجزء الرابع
د. عادل سمارة
ملاحظة: يمكن للقارئ ان يطلع على النص الكامل لهذه الدراسة في موقع “كنعان” على الرابط التالي:
http://kanaanonline.org/studies/?p=14
II. موقع المجتمع المدني، الأنجزة
في المشروع الوطني
لست ادري من هو ذلك المبدع الذي صاغ “عقدة الخواجا” ذات يوم. كان يقصد فيما قصد طبعاً الخواجا المسلَّح في وطن أعزل. لم تُسقَط هذه العقدة، وإنما تحورت إلى المستوى الثقافي، إلى اختراق الوعي ليحل استجلاب او استيراد الثقافة والمفاهيم محل جدل المعرفة الإنساني. وسلعة الثقافة أخطر بكثير من سلع الاستهلاك المادي لأنها تعيش طويلاً بل لا تموت. نستهلك السلع الاستهلاكية والسلع المعمِّرة في مدى اقصاه عشر سنوات، أما سلعة الثقافة والفكر فتبقى في المرء وينقلها إلى غيره. وحين تكون العلاقة علاقة متعالٍ ومتلقي تكون النتائج كارثية. أليس هذا شأن الدمقرطة التي اتت بها التسوية السياسية وروجتها منظمات أنجزة بلبوس منظمات المجتمع المدني؟ ديمقراطية “نخب أول” تحت استعمار استيطاني اقتلاعي؟ هل أكثر من هذا محاولة لشطب ذاكرة شعب؟ ثقافة أن المرأة يجب أن تظل خارج العمل الوطني والقومي لأن الوطن حين يتحرر يبقى للرجل، والوطن مستلب تماماً في حالتنا. ثقافة الجندر في مواجهة ثقافة الوطن والطبقة[1].
والأمر الأكثر طرافة وألماً أن الديمقراطية التي يصدرها إلينا الخواجا الجديد، غدت بالنسبة له سلعة قديمة، حيث نقلته الأزمة المالية الاقتصادية إلى الفاشية، وأعادته إلى الشكل الاستعماري الكلاسيكي اي المباشر. أصبحت ديمقراطية الغرب تفويضاً مفتوحاً للحاكم في مجتمع يزعم المدنية محلياً ويبرر قيام طبقته العاملة بالمذابح في الخارج كي يبقى معدل الربح للشركات الكبرى عالياً، وخلال كل هذا يمول منظمات الأنجزة عندنا! اليست هذه معادلة عجيبة؟ خطورة هذا التفويض أن نتائج الانتخابات البرلمانية مضمونة لنفس الطبقة وإن كانت شرائحها تتبادل الحكم وهذا أحد اسباب الإبقاء على هذه الديمقراطية لأن نتائجها مضمونة لنفس الطبقة، أليست هذه ديكتاتورية؟ أليس قبول التعاطي مع منظمات ومؤسسات هذا الغرب هو نموذج على تسويق الهيمنة الثالثة؟
إن قراءة وتوظيف مساهمات غرامشي في بلدان العالم الثالث ومنها الوطن العربي هي مسألة اكثر تعقيداً من المستوى النظري البحت. بل هي، وعلى اساس البراكسيس تشترط المستوى العملي اي النقدي والكفاحي. فرغم أكثر من مئة عام على بدء النهضة العربية إلا أن المعيقات الداخلية (الثورة المضادة) والعدوان الإمبريالي الخارجي والاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد حالت دون إنجاز مقومات اساسية للمجتمع المدني بالمفهوم الغربي العام سواء على مستوى: التحديث والعلمانية واعتماد العقلانية.
على ان هذا ليس كل ما يشترطه الوضع العربي إذا ما نظرنا إليه من مدخل الكينونة القائمة بذاتها، ومن مدخل الثقافة والحضارة العربية الإسلامية، من مدخل البدء من الذات، من الوجود القومي العربي المغرق في القدم، والذي لم يضِع في ثنايا التاريخ كما زعم هيجل عن أمم بلا تاريخ. لكنني حاولت قدر الإمكان حصر الورقة في أطروحات غرامشي وفي توفر شروطها في الوطن العربي والأرض المحتلة ليس تقيداً حرفياً بها، وإنما بقصد الإثبات انه حتى هذه الشروط ليست متوفرة هنا، مما يجعل اللغط الغزير عن المجتمع المدني عندنا أمراً بلا معنى، وطحنا للهواء.
وبغياب هذه الحوامل والشروط التي تضمنتها أطروحات غرامشي ولو بشكل نسبي، وفي ظل أنظمة الاستبداد والتبعية والنهب، فإن الحديث عن مجتمع مدني بالمفهوم العصري يظل في أرقى حالاته مسألة اجتهادات في الوطن العربي. يساعد على استنتاجاتنا هذه غياب المؤسساتية في الوطن العربي وغياب الديمقراطية وحرية الفرد وسيادة القانون في دول يتساوى فيها التوريث بين المملكة والجمهورية.
إن من شأن التقدم الصناعي أن يؤكد ويرسخ القاعدة الاقتصادية المادية التي لا بد منها لتأكيد وجود المجتمع المدني كما طرحه غرامشي وهذا ما لم يتحقق بالمستوى المطلوب عربياً وهو لا شك في قطريات أفضل من الأخريات. وإلى جانب هذا التقصير التحديثي والتحديث المقصود هنا هو الراسمالي) يعاني الوطن العربي من سيطرة البطريركية/الذكورية في تحالفها مع الراسمالية غير الإنتاجية من جهة ومع السلطة السياسية التي تعيق التنمية ويقع معظم ثقلها في التحليل الأخير على المرأة.
بهذا المعنى فإن الحديث الكثير عن المجتمع المدني في الوطن العربي فيه من الرطانة أكثر مما فيه من الواقعية. إنها محاولات حداثية (بالمضمون الأوروبي) في مجتمع ليس حداثياً ولم يمر بالتحديث، ولا نقصد هنا الحداثة بمعناها الأوروبي حصرياً كما لا نقصد أن الحداثة أوروبية بحتة بل هي إنجاز تاريخي إنساني شامل، كانت الحداثة الأوروبية آخر وأحدث طبعاتها.
قادت الحداثة وبالتالي المجتمع المدني الأوروبي طبقات برجوازية ذات توجه إنتاجي تحكمت بالفائض المحلي وأرست قاعدة صناعية إنتاجية، وهذا بعكس الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي التي تقوم في هذا المستوى بحركتين مضادتين للتاريخ:
· تطوير اللاتكافؤ في الوطن العربي بين قطر وآخر[2].
· وتعميق التخلف واحتجاز التطور في القطر الواحد.
تفيد قراءة غرامشي مجتمعياً في إلقاء الضوء على الهيمنة المتخلفة، هيمنة الاستبداد، التي جرى إيلاجها في الوطن العربي، وهي طبعة هيمنة خاصة بأنظمة الاستبداد. فلو راجعنا المعتقدات الإيديولوجية التي سادت في الوطن العربي مثل: الديمقراطية لا تلائم العرب، أو لا غنى عن الشخصية القيادية الكارزمية، أو الترسيخ في روع المواطن العربي أنه لا يستطيع الانخراط في عمل جماعي، وأن العرب منقسمون فئويا وطائفيا ودينيا وليس طبقياً…الخ، وحتى الخطر وهو استدعاء القبائلية والعشائرية كلما بدأت بوادر أزمة لأي نظام قطري عربي (العراق، ليبيا) والعشائرية في الأراضي المحتلة…الخ، كل هذه في حقيقة الأمر ليست سوى آليات لتثبيت الوضع الاستبدادي التابع. وربما من اكثر مفارقاتها حلول العشائرية في مقام الحزبية أو كبديل عنها. وبالطبع فإن سلسلة الثورات الحالية يجب أن تنسف تماماً مختلف هذه المزاعم. لا بل اكثر، فالثورة في مصر تمثل تجربة شعبية لا سابق لها، وإن كان ما يزال مصيرها معلقا في قدرتها على الانتقال إلى ما هو أعلى من الديمقراطية السياسية اللبرالية.
إن منظور غرامشي للمجتمع المدني هو منظور شامل يبدأ قوميا (بالمفهوم الوطني) وينتهي أممياً في شروط الانتقال المجتمعي إلى درجة كافية من الرسملة، نعم الرسملة كشرط. وإن كان هو نفسه لم يتطرق إلى بلدان المحيط وكأنه يعتقد “من مدخل مركزاني أوروبي” أن ما يحصل في أوروبا “يجب” أن يتبعه الجميع!!. لذا، فإن ما جرى في الوطن العربي هو معاكس تماماً لهذا المنظور التعميمي. ففي ظل الدولة القطرية يتم أو تم ضرب المشروع القومي، وهو المشروع الأقدر على إنجاز التحديث والحداثة، بل ما نريده وهو التنمية. لا بل إن احتجاز التطور وسيطرة الكمبرادور في الوطن العربي كان من بين مقاصده الحفاظ على البُنى القبلية والعشائرية فيه لأن هذه تتقاطع وخدمة البطريركية والتبعية وتلعب دورا كبيراً في طمس الحزبية والصراع الطبقي وهو ما يوفر للأنظمة الحاكمة فرص الاستمرار. وهذا مناقض بالطبع للوحدة وسيادة القانون ووجود مؤسسات حديثة وحداثية للمجتمع المدني. وإلى جانب هذه الإشكالات التي تخلدها الأنظمة، تتم تغذية مشكلة اخطر وهي تأليب الأقليات غير العربية في الوطن العربي ضد العرب وتأليب العرب ضدها مما يؤكد لا مدنية المجتمع ويعزز الارتباط المتخارج لهذه الأقليات على صعيد المشروع القومي الأمر الذي ينسف مفهوم وحق المواطنة والشعور بها كذلك.
بغض النظر عن ارتفاع هذا الحزب أو ذاك إلى المقام الاجتماعي التاريخي للقيام بدوره المفترض بل الضروري، ليس هنا مقام الحديث عن الأحزاب لأن ذلك مفهوماً للجميع. سنحاول في هذاالقسم التركيز أكثر على منظمات الأنجزة في محاولة لفرزها عن احتلال مشهد المجتمع المدني المفترض هنا وبالطبع احتلالها أو حلولها أو إحلالها محل الأحزاب السياسية. فالحزب ليس الأنجزة، ويجب أن لا يكون ذلك. بل الأمر ابعد، يجب أن تكون منظمات الأنجزة ادوات للأحزاب، إذا كانت هذه المنظمات محلية، وإن كانت اجنبية فيجب إفرادها ووضعها في دائرة الشك والنقد. إن لم يحصل هذا، فهناك خللاً. لذا، وطبقاً لما هو في هدف المؤتمر نستطيع الجزم بأن وضع الأحزاب ومنظمات الأنجزة على قدم المساواة أو حتى كمتشابهين متماثلين في المجتمع المدني هو إشكالية بحد ذاتها. فالأحزاب قوى تغيير مجتمعي سياسي اقتصادي وطني ومن ثم طبقي، هي مشاريع تحرير، إعادة بناء البلد ومن ثم إقامة سلطة التحرر الوطني والاجتماعي. الأحزاب تمثل طبقات اجتماعية يفترض ان تكون ذات وعي سياسي طبقي، ومن لا يتمكن من تمثيل نفسه يمثله الغير. فهل، في فترة الانحطاط الحزبي يمكن لمنظمات الأنجزة أن تمثل مجتمعات ومن ثم طبقات؟ بكلمة موجزة، كلما كان الحزب ثورياً، وكلما كان المثقف ثوريا ومشتبكاً، كلما كان على تناقض أعلى مع الأنجزة. وللقارىء أن يستنتج ما هو ابعد.
دور المثقفين وأنجزتهم
ربما كان تنبُّه بريجنسكي للمثقفين تأثراً بأطروحة غرامشي مع توظيف معاكس اي لصالح الثورة المضادة، ولا يقلل من هذا الاعتقاد كون غرامشي تحدث عن المركز وبريجنسكي عن المحيط، ولأن المسافة الزمنية بينهما بقرابة نصف قرن.
بذل غرامشي تفكيرا عميقا في مسألة المثقفين ودورهم في المجتمع. ورأى أن كل إنسان هو مثقف ولكن ليس لكل إنسان نفس الدور الاجتماعي للمثقف[3]“. لقد ميز بين المثقفين التقليديين الذين يرون انفسهم (بشكل خاطىء) كطبقة منفصلة عن المجتمع، وكذلك تفكير بعض المجموعات التي تفرزها كل طبقة من مراتبها بشكل “عضوي”. فمثل هؤلاء المثقفين العضويين لا يصفو الحياة الاجتماعية بتبسيط طبقاً لقواعد علمية، بل بالأحرى يمفصلوا، عبر لغة الثقافة، مشاعر وتجارب والتي لا تستطيع الجماهير التعبير عنها بنفسها.
بالنسبة له، فإن الحاجة لخلق ثقافة طبقة عاملة تتمثل في دعوة إلى التعليم الذي يمكن ان يطور مثقفين للطبقة العاملة الذين لا يقدموا فقط الإيديولوجيا الماركسية من خارج او بدون البروليتاريا، بل بالأحرى يجددون ويقدمون نقدا للوضع الراهن، للأنشطة الثقافية الجماهيرية الموجودة.
لا حاجة للقول أن غرامشي يرى هؤلاء المثقفين في الحزب الماركسي/الاشتراكي/الشيوعي، نقول هذا بغض النظر عن مشكلة قدرة كثير من الأحزاب على التعاطي الثوري والديمقراطي مع المثقفين، أو التعاطي المتخلف الذي يشكل قوة طاردة للمثقفين من الأحزاب. هذا إلى جانب وجود الروح الحلقية (لينين) لدى كثير من المثقفين الذين برغبتهم في التميُّز يسقطون في فردية خطرة تحذفهم إلى ألوان من الاتحرافات ومنها التهافت على منظمات الأنجزة. وفي هذه الحالة ينتقل المثقف الثوري النقدي من كونه مثقفاً عضوياً للطبقة العاملة إلى مثقف عضوي للبرجوازية. ربما يُجيز لنا هذا المقام التأكيد على أن المثقف العضوي النقدي لا بد ان يكون مشتبكاً كي يؤكد انحيازه الطبقي. يدفعنا هذا للتساؤل عن دور الأنجزة في التقاط المثقفين ومن ثم خسارة الأحزاب لهم. فهل الخلل في ألمثقف، الأنجزة أم الحزب؟
الأنجزة وليد المجتمع السياسي هناك وتشتغل في المدني هنا!
دعنا نكثِّف بعض ما قلنا بأن هناك قطبين متكاملين في نظر اللبراليين والبرجوازية المسيطرة/المهيمنة ومختلفين متخالفين ومتناقضين في نظر الثوريين الاشتراكيين/ الشيوعيين. إنهما المجتمع السياسي والمجتمع المدني. وبما أن الحديث في هذا المقام/المؤتمر عن منظمات المجتمع المدني وخاصة منظمات الأنجزة، فوليدة ايٍّ من القطبين هي؟
صحيح أن ولادتها غربية، في بلدان المركز، ولذا يكون السؤال الأول: هل هي هناك وليدة المجتمع السياسي ام المجتمع المدني؟ قد يكون الجواب، وليدة كليهما، سواء في تناقضهما أو تضاجعهما. فمنظمات الأنجزة اليسارية هناك هي غالباً متولدة عن قوى يسارية نقدية ضد النظام السائد. ولكن، يبقى السؤال ما علاقتها بذلك النظام؟ أما منظمات الأنجزة الأخرى فهي من صياغة السلطة السياسية/الطبقية الحاكمة، اي المجتمع السياسي. ومع ذلك، فإن كلتيهما في نهاية النهايات مموَّلة من دائرة ال ODA كدائرة حكومية رسمية. وما نقصده بحكومية هنا أنها دائرة من دوائر الدولة بما يعنيه دستورها والإيديولوجيا السائدة فيها ومصالحها الخارجية وسياستها الخارجية. وحين يتمول حزب يساري من بلده من المركز، ليس بوسعنا الجزم أن هذا الحزب لم يخضع لشروط الدولة الأم. من منا يدري إن كان هذا الحزب كذلك مخروقاً بعملاء للدولة يؤثرون على مواقفه وعلاقته بالبلد الذي ينشط فيه. هذا ناهيك عن أن كثيراً من الحركات اليسارية من بلدان المركز تتبنى وجهة النظر الصيهونية بدءاً من الاعتراف بالكيان وصولاً إلى تاييد احتلال العراق، والتحريض اليوم ضد سوريا.ومن هذه الأحزاب من هو مؤيد للصهيونية من مدخل عنصري مركزاني اوروبي، أو من مدخل إيديولوجي عقائدي وهو حال منظمات تروتسكية فيها الكثير من الصهاينة بغطاء كيهود ماركسيين”. ملخص القول، أن لا شيء بريء إلى درجة أخذه على علاته.
لكن منظمات الأنجزة الغربية التي تعمل هنا أو تخلق تمفصلات محلية لها هنا، وهذا كذلك شأن المؤسسات الثقافية الغربية والمجالس الثقافية والملحقيات وحتى السفارات والقنصليات الأجنبية وخاصة الغربية منها، ورغم منشئها الحكومي فهي تعرض نفسها وتعمل هنا كمنظمات مجتمع مدني وكأنها غير حكومية. والخطورة الأعلى أن يتعاطى معها المحليون كما تزعم وتعرض نفسها!
أما وقد علمنا أن منظمات الأنجزة هذه هي في معظمها ممولة رسميا بحصص من الدولة، هل تختلف عن المؤسسات الثقافية والدبلوماسية الغربية العاملة في المحيط؟ هل هي مضادة حتى لسياسات دولها: إيكو (الاتحاد الأوروبي)، فورد فاونديشن (الأميركية) فافو (النرويجية) نوفيب (الهولندية)…الخ، القنصليات. هنا لا بد أن نأخذ بالاعتبار إصرارهذه المنظمات على علاقة مع المنظمات الصهيونية المشابهة لها واهتماماتها الثقافية وحدود تنمويتها ومواقفها من حق العودة. ونضال المرأة النسوي؟
أثر موقع ومرحلة ولادة أنجزة ما
من حيث موقع الولادة، فمنظمات الأنجزة هي توليدات في بلدان المركز الرأسمالي الغربي. والمركز معروف ليس في ماضيه وحسب بل في واقعه وما نستشفه من مستقبل مخططاته بأنه بدأ استعمارياً، وما زال وسيبقى. وإذا كان هناك لُبساً في قراءة ما مضى، فالحرب المفتوحة بانواعها كحرب تبين أن الغرب الراسمالي سيُقاتلنا في بلدنا حتى يقتلنا أو يموت. وليس الأمر فقط لأن الحرب صناعة رأسمالية تقوم على تدوير راس المال بالتدمير وإعادة البناء (كما سماها جزيف شومبيتر ب “الهدم الخلاق”) كما هو الإسم الحقيقي للمصرف الدولي، بل والعلاقة بنا اكثر، إنها علاقة من له مصالح دونها سيؤول وضعه إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ومن ثم الانفجار الثوري ضد النظام القائم. هذا عن طبيعة موقع الولادة.
فماذا عن مرحلتها؟
تواكب توليد المنظمات غير الحكومية، والبعض منها اسمى نفسه منظمات طوعية، تواكب مع ظاهرة مركَّبة ثلاثياً: هي العولمة/ والنيولبرالية والتصحيح الهيكلي. وبداية دعنا نقول إن نبيَها هو زبجنيو بريجنسكي الذي دعا منذ بداية السبعينات إلى وجوب اهتمام الولايات المتحدة الأميركية باختراق الحركات القومية والمثقفين وحتى المزيفين منهم في بلدان المحيط. كان هدف الرجل هو انتزاع المثقفين من حركات التحرر الوطني نظراً لدور المثقف حين يكون عضويا نقديا ثوريا ومشتبكاً. حينها تكون الحركة الجماهيرية بلا رؤية. لماذا اهتم بريجنسكي بنزع المحرك الثقافي؟ اليس كي تكون هذه الحركات عمياء بلا رؤية؟ أليس لكي يعزز الديماغوجيا السائدة أن الجماهير دوما على حق؟ ليست دوما على حق فكثيراً ما تُخدع بقيادات ديماغوجية وربما مشبوهة؟ أما بيت القصيد، فهو كمثقف عضوي للنظام الطبقي السائد، فإنه كتب هذا ضمن حربه على الأمم التي تحاول التحكم بثرواتها. هنا يقوم بريجنسكي بضرب الحزب عبر اختراق المثقفين تمهيداً لأنجزة الحزب نفسه. وهنا يكون للمال دوره في تجنيد كل من لم يبني نفسه ولم يُبنى ثوريا وتحديداً عقيديا، فإما يجند للحاجة للمال أو يُجنَّد لأنه “زهق”الفقر والتقشف فاسترخى للاستهلاكية. في هذا المستوى نجد كثرة من الحزبيين وخاصة اليساريين وبالطبع منهم المثقفين الذين استمرؤوا العمل في الأنجزة أو تكوين انجزة أو العمل في المؤسسات الثقافية الغربية وحتى الرسمية منها كالمراكز الثقافية والقنصليات والملحقيات، واصبحوا خبراء يُنقلون من وظيفة وحتى من “مُهمَّة” إلى أخرى ومن ظلال دولة إلى أخرى، ويشعرون بانهم عاديين كبقية البشر! ولا يعود هذا الاستمراء إلى مستوى وعي الفرد وانتمائه وحسب بل يعود اكثر إلى سقف العمل الوطني وانحطاطه حين لم يعد الحزب نموذجا ثوريا وطنيا يُحتذى. بل واصبحت الأحزاب تخشاهم وتبيح لهم ذلك لأنهم مصادر تمويل ! تجدر الإشارة هنا إلى أن السياسة الأمريكية لدعم مؤسسات “حقوق الإنسان” كانت من بنات افكار بريجينسكي في عهد نظام كارتر وشغل حينها مستشار الأمن القومي للرئيس. وعندما جاءت إدارة ريغن وجدت ان سياسة دعم “حقوق الإنسان” لا تكفي وحدها في اختراق المجتمعات المدنية في اوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والوطن العربي بل استحضرت ما يسمى ب “مشروع الديموقراطية” او “مشروع “ترويج الديموقراطية” والذي تبناه في حينه جورج شولتس وتم تأسيس الوقفية القومية National Endowment for Democracy للديموقراطية لتعمل علنا بدلا من عمل السي آي آيه السري[4].
والعولمة المقصودة هنا هي العولمة التي نزعم أنها الحقيقية، اي هي المرحلة الأكثر تطورا/عدوانية للراسمالية، لأنها في طور أزمة الراسمالية التي بدأت منذ بداية ستينات القرن الماضي وهي ممتدة ومتفاقمة حتى اليوم. وبما هي طور راسمالي في علاقة المركز بالمحيط، فهي ثالثة درجات هذا الطور في علاقة مركز محيط الذي بدأ بالاستعمار فالإمبريالية ومن ثم بالعولمة والتي تُجدد اليوم دور الاستعمار العسكري المباشر من جهة تخلق حالة جديدة هي استعمار البلد من البلد نفسه ضمن تقسيم عمل، يكون المركز قوة تدمير من الجو وقوى الاختراق المحلي على الأرض كما في ليبيا، إن نجحت الحالة! إن العولمة هي حالة النظام الرأسمالي العالمي في تكريس سيطرة المركز على المحيط، واستعادة تلك السيطرة عبر تفكيك حركات التحرر الوطني التي أصبحت دولاً، وتأكيد ان مرحلة ما بعد الاستعمار لم تنتهِ، وتفكيك بلدان الاشتراكية المحققة، والتسويق لما يسمى موات الإيديولوجيا، والإبقاء على إيديولوجيا السوق والتكفير بالسرديات الكبرى، والأهم من بين هذه كلها تحرير التجارة الدولية بفتح اسواق المحيط ومناجمه للمركز، إما بالطوع وإما بالقوة.
وعن هذه الأرضية وعليها كان اعتماد السياسة الاقتصادية اللبرالية الجديدة في المركز والتي قامت على الخصخصة، وبيع القطاع العام لراس المال الخاص، وتحطيم النقابات العمالية للاعتداء على مكتسبات العمال، ومغادرة دولة الرفاه ووعظ المرأة بالعودة إلى المنزل، وزيادة الضرائب على الطبقات الشعبية والوسطى، وتقديم مرتجعات ضريبية للشركات الكبرى وتكريس ديماغوجيا ثقافية مفادها “ليس هناك اي بديل” اي لا بديل للراسمالية (الشعار الذي ساد بريطانيا خلال حقبة تاتشر There is no alternative TINAتينا)، إنها تحرير التجارة الدولية لصالح الشركات الكبرى اي سيطرة هذه الشركات على الدولة القومية.
تقابلها في المحيط سياسات التصحيح الهيكلي التي هي قيام صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي بإعادة هندسة بلدان المحيط التي تقدمت إليهما أو أُرغمتا على التقدم إليهما بطلب المساعدة الاقتصادية، الاقتراض ولا سيما بعد أزمة المديونية، فقدما لها “الوصفات” التي ملخصها ومفادها: تطبيق سياسة توفر للحكومات ما يسمح لها بدفع ديونها واقساط ديونها للمصرف الدولي والدول والمصارف التجارية وذلك عبر: إلغاء الدعم عن السلع الأساسية، تقليص الدعم الصحي وتقليص دعم التعليم، تخفيض قيمة العملة حسب تعليمات صندوق النقد الدولي. أما الأخطر، فإن هذه الحكومات لم تستخدم القروض في التحديث والتنمية بقدر ما استخدمتها للفساد مما حال دون القدرة على السداد. ولو لخصنا هذه السياسة لكان جوهرها: وضع قيادة دول المحيط بيد دول المركز. لم يخرج الاستعمار ايها السيدات والسادة، بل عاد و/أو استُدعي! وهذا يؤكد مقولتنا بأن مرحلة ما بعد الاستعمار لم تأتِ، ولهذا نقاش آخر.
من هنا تحديداً كان انتقال دول المركز في تصريف مساعدات للمحيط بتحويل معظم المساعدات من مساعدات موجهة بين دولة ودولة إلى مساعدات موجهة بين دولة ومنظمات الأنجزة في الدولة التابعة!
إن العلاقة بين السياسة النيولبرالية وبين التصحيح الهيكلي في المحيط هي علاقة ناظمها سياسات العولمة. وهذا ما يمكننا تسميته من ناحية طبقية تكوين القطاع العام الراسمالي المعولم[5] بما هو تحالف الطبقات الحاكمة على صعيد عالمي بما يجعل أو جعل فعلاً، مختلف انحاء الكوكب مساحة مفتوحة لراس المال الذي قاعدته وقيادته ومخزونه المالي وإدارته وعائداته في المركز وتذيُّلاته ممثلة في برجوازيات المحيط كتمفصلات تابعة له. في هذه المرحلة نبتت وتوسعت منظمات الأنجزة، فماذا سيكون جوهرها وطبيعة قرارها؟ لماذا ترافقت مع هذه التطورات؟
من هنا وجوب التنبه إلى خطورة أن تلعب الأنجزة دور المعارضة من خارج جهاز الدولة فتبدو كجزء من المجتمع المدني وحتى بديلاً للعمل الحزبي، لاسيما انها “أطرى وأندى” فهي بلا عقيدة، وتدعو ضد العقيدة أو الإيديولوجيا مع انها غارقة ومغرقة في السوق كإيديولوجيا، وهي مصدر مال وتمويل واستهلاكية، وهي تحمل ثقافة وديمقراطية الغرب الراسمالي التي تبدو جميلة على الفضائيات، ولكنها استغلالية داخل مجتمعاتها ودموية في المحيط. هي اطر فيها متسعاً لتناقضات عجيبة، فبإمكان المرء أن يكون وطنياً وعميلاً [6] وأن يكون ضمنها. لا احد يحاسب أحداً ويمكن للمرء أن يكون دجَّالاً وقوميسار سياسي كذلك.
إذن، اين تقف الأنجزة ما بين الهيمنتين اللتين تحدث عنهما غرامشي؟ لم يتحدث الرجل عن التخارج، والغزو الثقافي وعن ما هو اوسع من الدولة القومية بمعنى أنه تحدث عن المجتمع المدني في هذه الدولة. لكن الأنجزة هي حالة غزو ثقافي من المركز إلى المحيط غزو ثقافي على عجلات مالية هي آلية لتشجيع ورعاية التخارج الثقافي من المحيط إلى المركز، هي مُرسلة ومرتبطة بالدولة الأجنبية كعدو وغازٍ وهي التي تنشر ثقافة راس المال ودمقرطته العنصرية سوءا بالحديث عن المجتمع المدني وحقوق الإنسان. اي إنسان، لم نعد نعرف! وثقافة الجندر بدل الوطني والطبقي والضد راسمالي. بهذا المعنى، هي ليست تماماً ضمن هيمنة السلطة الكمبرادورية الحاكمة في المحيط، ليست جزءا من جهاز الدولة، كما لأنها متخارجة فهي تقحم نفسها على منظمات المجتمع المدني المفترض أنها نَبتاً محلياً، هي تطالب بديمقراطية من النمط الغربي وتروج للسوق واللبرالية الجديدة، وهي ليست ضمن هيمنة الطبقة العاملة التي هي تحررية وطنية وثورية. تحاول منظمات الأنجزة استخدام المجتمع المدني كناقلة تزعم من خلالها أنها أداة المعارضة السياسية والتحول الاجتماعي. والسؤال هو: التحول الاجتماعي باي اتجاه؟ ولا سيما في مجتمع عربي وخاصة فلسطيني؟ باتجاه السياسات اللبرالية الجديدة، تقديس السوق والتكفير بالسرديات الكبرى، وممارسة التطبيع وتقويض المقاطعة، هي إذن مشروع الهيمنة الثالثة، أي هي وجه جديد للكولونيالية. ومن هنا نسأل المجتمع المدني في الغرب، كيف هو مدني بينما سلطته تستخدم ابناء الطبقة العاملة في الغرب لاستعمار الأمم الأخرىويفعل هؤلاء الأبناء…القتل !
[1] أنظر بهذا الصدد الفصل الأخير من كتاب عادل سمارة، تأنيث المرأة بين الفهم والإلغاء، الطبعة الأولى، منشورات دار الرواد بيروت، والطبعة الثانية منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2011.
[2] أنظر عادل سمارة، دفاعاً عن دولة الوحدة، منشورات دار الكنوز الأدبية، بيروت 2003 ومركز المشرق /العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2004.
[3] Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Books, p.9. Lawrence and Wishart: 1982. ISBN 85315-280-2.
[4] See Qassoum, 2004.
[5] Adel Samara Epidemic of Globalizaruin, Chapter One, Ventures in World Order, Arab Nation and Zionism. Palestine Research and Publishing Foundation, Glendale CA, USA 2001.
[6] أحد كبار وربما اكبر رجل أنجزة في الأرض المحتلة، “بادر لإدخال الموسيقار الصهيوني دانييل برنباوم إلى غزة ليعزف في يوم مصالحة فتح وحماس، وهو يعلم ان بارنباوم ايد مذبحة غزة 2008-2009، ولم يُخف صهيونيته؟أما أمن حماس في غزة، فسمح بذلك! هل هذا من رسوم المصالحة؟ ونفس هذا الرجل يعرض نفسه كقائد سياسي تغطيه اموال الأنجزة التي خلقت له “مريدين”! أليس هذا سحر الأنجزة الذي تنبه له الساحر بريجنسكي؟