سؤال في شروط وجود مجتمع مدني ودور الأنجزة محلياً؟
الجزء الخامس والأخير
د. عادل سمارة
ملاحظة: يمكن للقارئ ان يطلع على النص الكامل لهذه الدراسة في موقع “كنعان” على الرابط التالي:
http://kanaanonline.org/studies/?p=14
آليات إدخال الأنجزة في المجتمع؟
بناء على موقع ومرحلة تبلورها وعلى طبيعة علاقة مركز/محيط ومركزية السوق فإن آليات إدخالها إلى مجتمعاتنا هي آليات مثيرة للقلق الوطني ومن ثم الطبقي. هي آليات تستدعي ما نسميه الاختراق. ليست هناك من آلية لقراءة العلاقة بين الطرف الممول والطرف المتلقي سوى آلية السوق. والسوق ليست مسألة بريئة ولا تطوعية. لا تقوم دول ذات تاريخ وحاضر استعماري بتقديم مساعدات قط بدون أن يكون هدفها إما تجنيدي مباشر و استثماري سواء لتحقيق مكاسب آنية أو استراتيجية.
بدأ الدخول إلى المجتمع المحلي عبر علاقات بين افراد أو تنظيمات محلية وبين المؤسسات بل والدول الأجنبية، وذلك تحت غطاء مساعدة الشعب الفلسطيني. كان ذلك قبيل الانتفاضة الأولى لكنه اتسع بعد بدء الانتفاضة إلى درجة كبيرة. ليس معروفاً لماذا تم اختيار هذا الفرد أو ذاك، هذه المنظمة أو تلك لتلقي المساعدات. من يدري مقدار المبالغ المحولة من الخارج إلى الداخل إلى هذا الطرف او ذاك، من يدري هل تورط هذا أو ذاك في صفقة سياسية فكرية ثقافية…الخ مقابل ان يحصل على الدعم. بكلمة أخرى، هناك غياب للشفافية تجاه منابع هذه الأموال، لنقل أموال الاختراق. وبالطبع ليست لدى شعبنا وسائل متابعة منابع هذه الأموال كما تتابع الولايات المتحدة ما يسمى ” منابع أموال الإرهاب لتجفيفها”؟ هناك أموالاً يمكن تصنيفها ضمن الإرهاب على الوطن. فما تفسير أن يتلقى هؤلاء اموالاً من دول اجنبية وخاصة المعادية لشعبنا وقضيتنا؟ بعض هؤلاء شرفاء جداً، ولكن لماذا يتم توجيه الأموال إليهم دون غيرهم؟ هذا ناهيك عن آليات ووسائل ومسارات وشروط إنفاق هذه الأموال.
العلاقة بتدهور المشروع الوطني
تتعدد آليات الاختراق التي تستخدمها منظمات الأنجزة الأجنبية، سواء بوجود أفراد ذوي توجهات لبرالية مندهشة بالغرب، أو ذوي ميول ارتزاقية أو من يرون العلاقة تجارية بحتة، أو ضمن نطاق البحث عن عمل…الخ. ولكن ما يوفر اوسع مناخ لهذا الاختراق ويوفر مظلة وغطاء لذلك هو تدهور السقف النضالي الفلسطيني وتفكيك المشروع الوطني.
صحيح أن فترة الانتفاضة الأولى قد وفرت مناخاً لتوسع مساحة التضامن الدولي مع شعبنا، ولكن هذه اللحظة بالذات قد وفرت مناخاً مزدوجاً، للمتضامنين وللمندسين. وبما أن جواز الدخول هو المال فإن الأطراف المعادية هي الأكثر مالاً. في المراحل الأولى للاختراق كانت شروط “المانحين” مرنة جداً وذلك لوضع موطىء قدم، ولاحقاً بدأت أعمال التشدد لانتقاء من يخدمهم بشكل أفضل إلى أن وصل الأمر إلى الطلب العلني بالتوقيع على وثيقة مناهضة الإرهاب! وهكذا يتم تكريس التبعية ومن ثم فرض شروط التجنيد.
ما كان لهذا الشرط العلني، ولا نعرف ما هي الشروط السرية، ان يحصل لولا تدهور السقف النضالي الوطني في الأرض المحتلة، ولولا تغلغل إيديولوجيا التسوية والاعتراف بالكيان والتطبيع كذلك. وعليه، فإن امتطاء لحظة الانتفاضة الأولى قد فتح النافذة الأولى للاختراق، أما اتفاق أوسلو فقد جعل كل شيء مباحاً، بدءاً من التمول من دول المركز كدول معادية علناً لقضية شعبنا الأساسية “حق العودة” انتهاء إلى مشاركة كثير من منظمات الأنجزة في علاقات تطبيعية مع منظمات صهيونية في الكيان وخارجه. بقي أن نضيف، أنه كلما تقادم الزمن على تدهور المشروع الوطني كلما اصبح الاختراق سلوكا عاديا إلى درجة وصل الأمر بكثيرين حد استهجان أن ننقدهم كمطبعين، واستهجان أن ننقد تحولهم إلى مخبرين ثقافيين وبحثيين للأعداء باسم الأكاديميا والبحث العلمي، واستهجان نقدنا لفلسطيني يعيش بين أعتى الصهاينة في كيبوتس مما يشعرهم بأنهم طبيعيين!!.
من بداية غير مرصودة إلى شفافية شكلية
بدأ التمويل الأجنبي المعلن في الأرض المحتلة منذ منتصف السبعينات. ولكن لا أحد يعرف متى بدأ بشكل غير معلن. كيف لنا أن نصدق اية دولة انها تعلن كل ما تفعل؟. ولكن لنفترض أن هذه بدايته، فهو بهذا المعنى قد حُفز بعاملين ليس شرطاً أن هناك تنسيقاً بينهما، لكنهما التقيا في النتائج:
الأول: وجود تراث التموُّل لدى منظمة التحرير الفلسطينية مما جعل تلقي الأموال أمراً عادياً بمعزل عن المصدر. فإذا كان “الممثل الشرعي والوحيد” متلقياً للتمويل من حيث أتى وخاصة من الدول العربية الرجعية والمعادية لشعبها، فلماذا لا يتجرَّأ اللبرالي على التمول من حكومات المركز؟ وبما أن م.ت.ف معتادة بل هي اسست لهذا التموُّل، فهي لن تبدي اعتراضاً على قيام غيرها بذلك، طالما لا ينازعها دورها القيادي. أما تحول المنظمة إلى سلطة أوسلو ففتح الباب لأي مال من المركز وهو الذي تجسد منذ 1993 في تلقي الحكم الذاتي مساعدات مالية، اي ريْع مالي Financial Rent مقابل تنازلات سياسية أخطرها الاعتراف بالكيان الصهيوني.
والثاني : أطروحة بريجنسكي في احتواء القوميين والمثقفين في بلدان المحيط. وهي الأطروحة التي وُضعت قيد التنفيذ برصد أموال تُرشُّ على بلدان المحيط وخاصة الأكثر توتراً بما فيها الأرض المحتلة.
طالما بدأت العلاقة غامضة من جهة، ومسكوت عليها من القيادة السياسية (التي بهذا كانت حصان طروادة) من جهة ثانية، صار سهلاً على منظمات الأنجزة أن تتحدث عن الشفافية وعن فساد سلطة أوسلو-ستان، وأن تزعم أنها منضبطة مالياً وبرنامجياً…الخ، ولكن دون أن تحقق شيئاً على الأرض، ودون أن تتعرض للمسائلة سواء في إنجاز ما تعهدت به أو كيف تتلقى التمويل وما مقاديره. بل صار سهلاً عليها طالما هي مصدر تمويل أن تخترق الأحزاب وتحل محلها.
بل لعل الأمر ابعد من ذلك، فهذه المنظمات هي التي تتحدث عن الفساد، وهي نفسها التي تنتقد بشدة التمويل الأجنبي وتنقد نفسها أحياناً كمنظمات او كشخوص بأنها ممولة أجنبياً، لكنها تواصل تلقي الأموال؟ فهل هذه شفافية؟
تنمية أم حداثة، ما بعد حداثة، وإعادة هندسة؟
إلى جانب حقبة العولمة واللبرالية الجديدة وإعادة التصحيح الهيكلي ترافق انتشار منظمات الأنجزة مع مسألتين هامتين اخريين:
· غرق بلدان المحيط في أزمة المديونية العالمية التي ينسبها البعض إلى طفرتي اسعار النفط 1973 و 1982 مما وضع البلدان الفقيرة تحت طائلة عبء إضافي لتمويل حاجات اساسية منها الغذائية والنفطية والتسليحية،
· التنبه المفاجىء للتنمية من قبل الأمم المتحدة حيث اسمت عقد الثمانينات، تفاؤل اليائس، بعقد التنمية الأمر الذي خلق “موضة” التنمية كما هي موضة الحديث عن المجتمع المدني.
ليس هنا مجال الحديث عن اسباب المديونية الأخرى. أما بخصوص التنمية فمن النادر أن وجدنا منظمة أنجزة لم تُطلق على نفسها ولم تستخدم في خطابها “التنمية”، إلى درجة لم يعد بوسع المرء التفريق بين التنمية والفساد.
لكن الوقائع على الأرض تتحدث عن غير هذا. ودون الخوض في الحديث عن معنى التنمية تحت استعمار استيطاني وعن الشروط الشعبية للقيام بتنمية تحت هذا الاستعمار، فإن هذه المنظمات لم تنجز شيئاً من التنمية. ما يمكننا القطع به ان هذه المنظمات وضمن تسمية نفسها جزءاً اساسياً من المجتمع المدني، قد تلقت أموالاً غير معروفة مقاديرها! وهنا يكون السؤال، إذا كانت المقادير تافهة، فلماذا التنطح لشعارات ضخمة كالتنمية؟ وإذا كانت مقاديراَ ضخمة، فأين مفاعيلها التنموية؟
ما نلاحظه على السطح أموراً أخرى. هناك أنشطة لهذه المنظمات فيما يخص نشر الفكر اللبرالي، وثقافة السوق، وثقافة الغربنة والتخارج كالتركيز على: الديمقراطية بالعموم، والانشغال بالديمقراطية تحت استعمار استيطاني، والتركيز على حقوق المرأة من مدخل الجندر وليس الوطن والطبقة، وعدم التعرض للفكر الراسمالي واعتماد التمول كاساس “للتنمية” دون حدوث تنمية، وإنفاق أموال على المكاتب والرواتب،والتعاطي مع نظائر صهيونية لها…الخ.
وعليه، بين التماهي مع ثقافة السوق والاعتماد على المال الأجنبي وهو مال سياسي، هو ريع مالي لترويج ثقافة سياسية هي ثقافة التطبيع والتسوية والابتعاد عن المقاطعة، وبين الوعظ لنصف المجتمع، اي للنساء بالابتعاد عن العمل الوطني والنضال القومي اي التكفير بالسرديات الكبرى، فقد راوح وانحصر نشاط هذه المنظمات ضمن الحداثة بمفهومها الاختراقي الغربي وبين ما بعد الحداثة بخطورتها على الثقافة والوجود الاجتماعي في البلاد.
وإذا ما قرأنا دورها وسياساتها ومواقفها من التطبيع والمقاطعة والعمل الوطني نجد أنها جزء من مشروع إعادة هندسة المجتمع، وفي هكذا موقع فهي تروِّج للهيمنة الثالثة، الهيمنة التي لا يمكن لسلطة الحكم الذاتي التصدي لها لأنها هي نفسها وليدة اتفاق اوسلو الذي هو وليد وصياغة المركز الراسمالي الغربي وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والكيان بالطبع.
ليس المطلوب أن نعلق الآمال على منظمات المجتمع المدني في بنية كالتي نحن عليها، ولا على منظمات الأنجزة بأن تكون قوة رفض شعبي للتسوية، ولكن كونها لا تقف معارضة للتسوية ولأوسلو تحديداً وكونها تتعاطى مع سلطة أوسلو كسلطة طبيعية، فهي بهذا الموقف تقع ضمن إطار إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني تحت الاستعمار الاستيطاني.
ترمي إعادة هندسة المجتمع إلى قضية اساسية او هدف أساسي بغض النظر عن فرعياته، وهو تفكيك التماسك النضالي للشعب الفلسطيني وتعييش المجتمع حالة الشعور بأن ما هو قائم ليس فقط الأمر الواقع بل الواقع بعينه الذي لا علاقة له بأي ماضٍ، وتحديداً لا علاقة له بالأرض المحتلة 1948.
ولتمرير وتكريس هذا الهدف لا بد من العمل على تصوير الحياة تحت الاستعمار الاستيطاني كحياة عادية، سواء عبر الانتخابات، والحديث عن تكوين دولة وتمرير وممارسة التطبيع والابتعاد عن المقاطعة، وتشجيع الاستهلاكية والانشغال بالحياة الفردية اليومية وهمومها، والارتباط بمديونيات مصرفية لا يقوم بها سوى شعب في حالة استقرار وطني واجتماعي كالاقتراض للمنازل والسيارات مما يغرق المواطن في القلق على تدبير حياته اليومية.
هنا يبرز الدور الحقيقي لمنظمات المجتمع المدني التي إذا كانت منظمات شعبية، فإن عليها الوقوف ضد الأطراف التي تحاول إقناع الناس بأن هذه هي الحياة العادية لمجتمع تحت استعمار استيطاني، والأطراف هي:
· سلطة أوسلو التي تستوعب قرابة 200 ألف شخص في وظائف باجهزتها مما جعلهم في حالة تبعية للسلطان كمصدر للرزق[1]. لا باس وإن شتموا وصرخوا ضد هذا النظام، لكنهم في النهاية بانتظار نعمته وقد لا يخرجون عليه. وعليه، فهذه السلطة تمارس السيطرة من خلال أجهزة الأمن والمخابرات التي تمارس القمع المزدوج: قمع حركات المقاومة المسلحة، وقمع المواطنين لإثبات هيبة السلطة
وهنا، ليست سلطة اوسلو-ستان جهازاً محايداً، بل هي جزء من الحركة الحزبية الوطنية التي تدجَّنت، بل إن التدجين هو سبب اساس في تقاطعها مع الأنجزة. كما تمارس سلطة الحكم الذاتي الهيمنة من خلال تدجين من يعتمدون عليها، وتمرير خطاب التسوية سواء بالزعم أن المدن مناطق محررة، وأن المطلب للشعب الفلسطيني هو دولة، وأن الاتفاقات التي وقعت عليها منظمة التحرير غير قابلة للنقاش، وأن التطبيع أمراً عادياً وأن المقاطعة تضر بالاقتصاد المحلي…الخ
· الدول المانحة، والتي تمول خزينة سلطة الحكم الذاتي كي تتمكن سلطة الحكم الذاتي من السيطرة والهيمنة على اعتبار أن السلطة والمانحين مشتركين معاً في مشروع التسوية.
· الأنظمة العربية التي تساهم في هذا الهدف اقتصادياً عبر تمويل المانحين للسلطة وسياسياً عبر المبادرة العربية التي طواها شارون في بطنه ومضى،
· وفي النهاية الكيان الصهيوني الذي هو المستفيد الأساسي من كل ذلك بمعنى أن ذلك الاقتران بين المال السياسي لتوظيف قوة العمل الشابة والمناضلة بدل تشغيلها في مواقع الإنتاج، إلى جانب تقويض وإهمال مواقع الإنتاج وخاصة الأرض، والتثبيت في روع المواطن أن الغرب هو ولي نعمته وكل هذه تفتح على التطبيع التدريجي على قبول أطروحة الغرب المجسدة في الوجوب على الفلسطينيين الاعتراف بالكيان الصهيوني. ويصبح هذا الاختراق اسهل وأكثر عمقا كلما اقترن به التراجع النضالي سواء في مستوى الكفاح المسلح أو العمل السياسي.
الفئات المستهدفة للأنجزة
أحد الفوارق الهامة بين التنمية والتحديث أن التنمية استراتيجية تستهدف المجتمع بأكمله، الجميع، أو الأكثرية، بينما التحديث قطاعي أو فئوي او نخبوي. بهذا المعنى، فإن الفئة المستهدفة لا تنسجم مع يافطة التنمية التي تستخدمها منظمات الأنجزة والمجتمع المدني عامة. وبما أنها غير حكومية، فالحكومة هي التي عليها تمثيل أو خدمة الجميع، إن تم تطبيق ذلك فعلاً في اي مجتمع طبقي، ولكن يبقى مع ذلك شعار التنمية مثابة رطانة لغوية.
يمكن فهم الحديث عن الفئة المستهدفة حين نعرف من هي الفئات التي أُستُهدفت سراً أو علانيةً. لعل الفئة المستهدفة الأولى دون الإعلان عن ذلك هي فئة المثقفين، وهي التي اشار إليها نبي العولمة في المحيط زبجنيو بريجنسكي. فهذه الفئة هي ناقلة “مشروع” الأنجزة إن لم نقل المجتمع المدني بمفهومه الغرامشي المستلب. هذه الفئة أو النخبة هي موطىء القدم، وهي أكثر المستفيدين فرادى.
لذا، يحمل النقد الموجه لمنظمات الأنجزة بأنها امتصَّت الكثير من المثقفين وخاصة من القوى اليسارية، يحمل مضموناً حقيقياً. هذا من جهة ومن جهة ثانية، فقد تمكن بعض هؤلاء المثقفين من البقاء داخل منظماتهم السياسية مما سمح بسيطرة تفكير الأنجزة ومواقفها السياسية على بعض هذه التنظيمات الأمر الذي انتهى إلى أنجزة القوى السياسية[2]. ولا حاجة للتفصيل هنا، بان هذه الأنجزة للقوى السياسية قد حولتها بعيداً عن جوهر الصراع العربي الصهيوني وشروطه ومتطلباته.
وفيما يخص الفئات المستهدفة الأخرى، لنقل علانية، هناك منظمات تستهدف المرأة، وأخريات تستهدف العنف ضد المرأة، النساء المعنفات، أو النساء الفاقدات، والبعض يستهدف الشباب في سن مبكرة، والنقابات العمالية والمهنية والبعض يستهدف اصحاب المشاريع الصغيرة…الخ. صحيح أنه من غير الممكن لمنظمة أنجزة أن تستهدف المجتمع ككل، ولكن لماذا تعمل كل منظمة بمفردها/ هل بينها تقسيم عمل؟ ما هو؟ المهم في الأمر أن هذا الاستهداف هو قطاعي وليس عاماً، مما يثير النقد للزعم التنموي، ويبرر لهذه المنظمات أن تعمل ضمن مجالات محدودة جداً مبتعدة عن مجالات في غاية في الأهمية وقريبة من مجال العمل الذي اختارته[3]، كما انه يسمح لهذه المنظمات باختراق النسيج المجتمعي طبقاً لاهدافها وشروط مموليها، وليس طبقاً لسياسة اقتصادية محلية او خطة تنموية وطنية.
ربما يُثار سؤال هنا: لكن، لماذا تسمح الحكومات لهذه المنظمات بكل هذا الدور؟
يردَّنا هذا السؤال إلى مديونية بلدان العالم الثالث وتلزيمها بتطبيق سياسات إعادة التصحيح الهيكلي كشرط للحصول على القروض. لقد وصل الأمر ببلدان كثيرة درجة العجز عن الاعتراض على قيام الممولين الأجانب بالتعامل مع المنظمات غير الحكومية كمعادل للسلطة نفسها[4] وذلك لحاجة هذه البلدان للمساعدات حتى ولو ضئيلة. هل هذا الاضطرار من أجل رفد التنمية، التحديث؟ أم إلى جيوب الفاسدين؟ وهكذا، فبالتمويل لم تخترق هذه المنظمات فحسب بل الأنظمة السياسية ايضاً.
بعض ما نتج عن منظمات الأنجزة والمجتمع المدني:
يسمع المواطن يومياً تردُّد عبارات المجتمع المدني، منظمات المجتمع المدني، المنظمات الأهلية، منظمات غير حكومية…الخ. كما يقرأ كثيراً عن اسماء مشاريع وانشطة وبيانات متعلقة بمختلف نواحي الحياة. ولكن إلى جانب هذه الضجة الواسعة، وهي إعلامية دعاوية، هل هناك وجود موضوعي على الأرض بحجم الدعاية نفسها؟ ما هو معيار تقييم دور اي طرف، حزب، منظمة، طبقة، نقابة في المجتمع؟ومن الذي يحدد ذلك؟ هل هي السلطة، المنظمة نفسها؟ القوى الأجنبية؟ أم واقع المجتمع السياسي والحياتي؟
من أجل قراءة متماسكة لهذه الظاهرة، لا بد من النظر إلى اصول تكونها. وهنا لا بد من التنبه إلى خلط الفئات تحت المصطلح الواحد سواء عن جهل أو قصد. وبغض النظر عن مدى انطباق المصطلح بصيغته التأسيسية لدى غرامشي وفي المجتمع الراسمالي الصناعي، فإن حالة التكوُّن مفصلية هنا. فلا يمكن اعتبار حركة سياسية نشأت محلياً أو نقابة أو حتى جمعية خيرية نشأت محلياً لا يمكن إدراجها إلى جانب منظمة غير حكومية تكونت بتمويل خارجي مهما كان نظيفاً. والإشكالية هنا ليست فقط في عملية التموُّل على خطورتها، بل كذلك في طبيعة البنية. فالمنظمات غير الحكومية تبدأ عادة بفرد أو قلة من الأفراد إضافة إلى مكاتب وإمكانات مالية، وتحافظ على هذا الشكل طوال دورة حياتها. ولا يمكن اطِّلاع صغار الموظفين على مصادر ومبالغ التمويل. وحتى لو علموا ببرامج العمل، فمصادر التمويل ليست في متناول الجميع. كما أن منظمة الأنجزة تعمل ضمن القطاع المستهدف بل الفئة المستهدفة.
أما الحزب فمشروع وطني سياسي مجتمعي يستمد قوته من مدى ترسخ جذوره الاجتماعية والطبقية ومن مشروعه النضالي في القضايا الوطنية. ففي حالة المناطق المحتلة، ينشغل الحزب السياسي الحقيقي في ممارسة كافة أشكال المقاومة الحقيقية ضد العدو وخاصة الكفاح المسلح. وعليه، من الخطورة بمكان خلط الجميع تحت تسمية منظمات المجتمع المدني، وخاصة المنظمات الممولة من الخارج.
المهم أن مدى جدية ومشروعية اية منظمة مجتمع مدني في وطن مستعمَر استيطانياً كامنة في دورها الوطني، وفي تناقضها مع أعداء الوطن. فهل يمكن لمنظة أنجزة تتمول من دول معادية أن تعادي هذه الدول؟ هناك في السنوات الأخيرة مزيداً من الوعظ بالعمل الاجتماعي و “المقاومة الشعبية” دون تحديد طبيعة هذه المقاومة بل بقصد تمييع المفهوم والمبدأ الحقيقيين للمقاومة الشعبية، بل حرب الشعب. لذا، لا بد لكل من يطرح المقاومة الشعبية أن يجيب على اسئلة اساسية: هل تنفي الكفاح المسلح أم لا، هل تمارسه أم لا؟ هل تعترف بالكيان أم لا؟ هل تمارس التطبيع مع الكيان ومنظماته ومع الكمبرادور العربي الذي يرعى الكيان ومع الغرب الراسمالي الذي يحتل الوطن العربي أم لا؟ هل تتمول من مؤسسي ورُعاة الكيان ام لا؟ هل هي مقاومة سلمية ضد عدو لا يمارس سوى العدوان المسلح؟ هل هي مع اتفاق أوسلو؟ هل تتصرف وتستفيد وتعمل ضمن اوسلو وتزعم أنها ضد هذا الاتفاق؟. هذه الأسئلة الحارقة بهدف كشف محاولات التغطية على ابتعاد منظمات الأنجزة والمجتمع المدني الممولة من الخارج عن الثوابت الوطنية والقومية وبالتالي عن المقاومة الحقيقية.
ما أفرزته منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج، بل التي لا تعيش إلا بذلك التمويل هو شريحة من اصحاب الدخل أو العائدات غير المنظورة. وهي شريحة تحظى، نتيجة لدورها بدخل متميز مقارنة بالأجور والمداخيل للمحليين من نفس الفئة والعمل، ولكنها تفقد بالمقابل دورها السياسي الناشط سابقاً في العمل الوطني والتنظيمي، كما تصل إلى وضعية لا تستطيع معها العودة إلى الوراء، اي إلى ما كانت عليه. وليس هذا الترهل صدفة بل هو ضمن خطة.
من نتائج تبلور هذه الشريحة دورها الثقافي بمعنى نشر الثقافة الراسمالية الغربية عامة وثقافة الوعظ بالسلام والديمقراطية في مجتمع يخضع لاستعمار استيطاني. من هنا نشاهد منظمات غير حكومية تعقد دورات لتدريب النساء على المفاوضات!، والرجال على اللاعنف، وتعقد مؤتمرات للنساء الفاقدات اي اللواتي فقدن الرجال أو الأبناء بسبب المقاومة.
هذه الثقافة الرخوة هي التي تمارس التطبيع كما لو كان أمراً عادياً. ولا يتوقف التطبيع هذا على التطبيع مع الكيان الصهيوني بل كذلك في تسهيل واستدعاء مطبعين عرباً لدخول الأرض المحتلة. وبالطبع تخفي كل منظمة من هذه مطبعيها وربما تفضح تطبيع غيرها. كما يتم استخدام الأماكن والمواقع الممولة من الخارج في استضافة مطبعين عرباً. ناهيك عن استضافة أعداء للشعب الفلسطيني أمثال الموسيقار الصهيوني دانييل بارنباوم. بهذه المسلكيات ودون تعرُّضها للنقد والرفض الاجتماعي يتضح أن هذه المنظمات /الظاهرة قد استفحلت تحت غطاء منظمات مجتمع مدني.
وإذا كان جوهر أطروحة غرامشي عن المجتمع المدني وتحديداً عن الهيمنة هو التناقض بين الهيمنة البرجوازية وبين هيمنة الطبقة العاملة، فاين تقف هذه المنظمات؟ قد يصح ما استنتجناه آنفاً أنها تعمل من أجل الهيمنة الثالثة. وضمن دورها في خدمة الهيمنة الثالثة تُقحم هذه المنظمات قيماً وثقافة حداثية غربية على مجتمع ذي قيم أخرى، اي غير حداثي بالمفهوم الراسمالي الغربي، فلا يعود التاريخ والتراث العربي ذي قيمة، ولا الثقافة العربية الإسلامية ولا مهام التحرر والوحدة العربية ضمن اهتماماتها، ولا السرديات الكبرى القومية والاشتراكية والدين وتنتهي كما في الأرض المحتلة إلى ترويج ثقافة الجندر والتمكين والمساواة بين الرجل والمراة بدل تحرر المرأة وحريتها، وهي ثقافة إبعاد المرأة عن النضال الوطني والقومي والذي ينتهي كذلك إلى إبعادها عن النضال الطبقي. إن المبالغة النسوية اللبرالية والراديكالية في معاداة النضال القومي تقود في التحليل الأخير إلى إضعاف دور المرأة ويحولها إلى حريم، رغم الزعم بأن الهدف أو النتيجة المتوخاة هي تحرر المرأة، أو حتى تمكينها[5].
تحت غطاء المجتمع المدني وثقافة السلام، تشارك الكثير من منظمات “المجتمع المدني” في علاقات تطبيعية سواء في التموُّل أو عقد وحضور ندوات ومؤتمرات مشتركة مع ممثلين عن منظمات ومؤسسات الكيان، أو تسهيل سيطرة الأكاديميا الغربية على الجامعات المحلية واستضافة فرق فنية أجنبية تحت مزاعم ضرورة الفن من أجل الحياة وعدم تناقضه مع المقاومة في حين يكون الهدف خلق وتوسيع نخبة في المجتمع بعيدة عن الهم الوطني مما يولد روح تناقض وحاسدية بينها وبين الأكثرية الشعبية. وهذا يعني استهداف المجتمع بالتفكيك والشقاق الداخلي مما يؤدي في النهاية إلى تراخي النضال الوطني.
إن خلق وتوسيع وتمويل شريحة العائدات غير المنظورة الناشئة عن الأنجزة، ونقصد هنا مدرائها وموظفيها الكبار لم يكن صدفة بقدر ما هو عمل منظم مقصود به ترسيخ قيم الديمقراطية الراسمالية الغربية التي تشجع الفردانية وليس الطبقية، والتي تقدم النموذج الأميركي للمواطن الذي لا هموم سياسية وطبقية لديه، بل جشع استهلاكي، ورخاوة وعي طبقي وشعور بافضلية على الآخرين إلى درجة الاستهانة بقتل العراقي اعتقادا من الجندي الأميركي أنه بهذا ينشر الديمقراطية في العراق[6]. إن تخارج شرائح محلية لصالح هذه الثقافة هو نمط أخطر من التبعية الراسمالية الرسمية لأنه يخترق النسيج الاجتماعي. على أن الأدهى في وجود وسلوك هذه الشريحة فهو:
· أن الغرب الراسمالي وخاصة الأميركي يعتبرها مطية لتسويق ثقافته ولا يعتبرها قادرة على تمثُّل ثقافته لأنها شرقية[7]
· وأن هذا الانبهار يحجب عن هذه النخبة وعن مجمل المجتمع حقيقة كذبة المجتمع المدني في الغرب ناهيك عن وجود التفرقة العنصرية والفقر والاستغلال بفظاظة داخل هذا المجتمع نفسه.
هذا التخارج إلى ثقافة الغرب وحداثته ليس اكثر من احتفال بمولود لن يأتي لأنه نتاج حملٍ كاذب، “أن تحسب الشحم في من شحمه وَرم” -المتنبي”
لقد اشرنا في موضع سابق إلى مناخ ظهور وتوسع هذه الظاهرة، نسبناه سياسياً وكفاحياً إلى تدهور المشروع الوطني، هبوط سقف المطالب الوطنية من تحرير الوطن عبر المشروع القومي العربي وعبر كسب الرأي العام الشعبي العالمي، إلى الانحصار في دويلة في أجزاء من الضفة والقطاع، “أوسلو-ستان”، والاعتراف الممتلىء بالكيان الصهيوني وممارسة التطبيع ووقف المقاطعة مع الكيان والإمبريالية وتمفصلاتها من الحكومات غير الحكومية والكمبرادور العربي، واعتبار الصراع فلسطيني-إسرائيلي، بل بأنه كان صراعاً! ولكن هذا التوضيح بقي قاصراً ما لم نملأ الخطاب الصحيح بالمبنى الاجتماعي المادي للمجتمع.
فالإمكانات المالية الغزيرة المتوفرة لمنظمات الأنجزة والمراكز /المجالس الثقافية والملحقيات…الخ خطيرة حينما تُصب في مجتمع بنيته الإنتاجية فقيرة، متخلفة ومُعاقة التطور بسبب كل من:
*الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وخاصة سياسة تدمير البنية الإنتاجية
* غياب سياسة تنموية محلية بدءاً من منظمة التحرير وصولا إلى سلطة الحكم الذاتي
* ووجود قطاع خاص كمبرادوري أكثر مما هو إنتاجي
* وإصرار المساعدات الدولية على أن تكون ريعاً مالياً لتنازلات سياسية وعلى تجنب الاستثمار الإنتاجي.
هذا الفقر الإنتاجي وبالتالي التشغيلي يعطي قوة إضافية لمصادر المال وحامليه، فيتحول رجل الأنجزة أو سيدة الأنجزة إلى رمز اجتماعي وسياسي لأنه مصدر تمويل وتوظيف. وعبر هذا الدور يصبح من الشخصيات السياسية التي تقرر في العمل الاجتماعي والسياسي والوطني!! ويصبح كادر الحزب المأنجز صاحب قرار في حزبه مما يقود إلى فقدان الحزب لحزبيته. من هنا يصبح الحديث عن دور للأنجزة في المشروع الوطني أمراً عادياً، بغض النظر عن : أي دور!!
إن لاستقلالية الفرد والطبقة والمجتمع اقتصادياً دورها الحاسم في استقلالية القرار والموقف، أو عدم الاستقلالية. فليس الأمر أن تكون لدينا افكار وقناعات، بل الأمر أن نمارس تطبيق وخدمة هذه الأفكار بحرية. ليس من الإنصاف أن ننسب إلى منظمات الأنجزة والمجتمع المدني (بغض النظر عن هذا التعريف أو ذلك لها)، أن ننسب لها كامل الخلل في إعادة تشكيل/تشويه المشروع الوطني: الاعتراف بالكيان، انتخابات تحت الاحتلال، دولة ممنوحة وعلى شكل أرخبيل برِّي، ديمقراطية متراكبة على الفساد والمحسوبية، حقوق إنسان من دول تذبح الإنسان، جندر…الخ فهي شريك في هذه كلها من بين شركاء كُثر. ولا تنفع الإدانة هنا بقدر ما نود التأكيد أن هكذا توليفة، لا يمكنها حمل مشروع وطني ولا تحرري اجتماعي.
ويبقى السؤال الأخير، إذا صحت محاولتنا فك الدمج بين الحزبية والأنجزة، وبالتالي وضع الأنجزة ضمن حجمها الحقيقي فما الذي تعمله ولا يمكن للمجتمع ذاتياً أن يقوم به؟ إذا كانت لا تقوم بالتنمية وإنما تخلق شريحة العائدات غير المنظورة، ولا تساهم في النضال الوطني بل تنشر الرخاوة النضالية، إذا كانت لا تساهم في الوعي الطبقي السياسي بل تخدم وتكرس إيديولوجيا السوق، إذا كانت تمارس التطبيع مع الثلاثي المعادي للشعب والأمة، فما الذي يبقى منها؟
إنه ما قال عنه السيد المسيح: لا تعبدوا إلهين: الله والمال. ما يُعبد في هذه الحالة هو المال؟ ولكن، إذا كان هذا المال مسخراً لأفراد وفي افضل الحالات لمجموعة من الأفراد فهل المجتمع بحاجة له؟ بالقطع…لا. إن مجتمعاً لا يمكنه إعالة نفسه، لا يمكنه تمثيل نفسه، ويغدو بقائه على أجندة الانتهاء. أما التاريخ فيقول إن ثروة كل مجتمع كافية لمجموعه ما لم تُسرق أو توزع توزيعاً ظالماً.
[1] يتضح هذا من استخدام سلطة اوسلو لسيف ديمقليس في دفع رواتب الموظفين، فكلما ارتفع السقف النضالي أو قارب الارتفاع زعمت السلطة أنها لا تتوفر على رواتب الموظفين في نهاية الشهر!
[2] See Adel samara, Imprisoned Ideas,
منشورات مركز المشرق /العامل للدراسات الثقافية والتنموية،1889، ص 131
[3] توجهت بالسؤال لمنظمة تعمل في مجال حقوق الإنسان إن كانت على علم بتقرير اليونيفيم عن البغاء في الأرض المحتلة وتسويق النسوة لهذا الغرض إلى داخل الكيان الصهيوني، فأُجابت: هذا ليس مجال عملنا!
[4] أليس مستغرباً في حالة أوسلو-ستان، أن يأتي رسميين أميركيين فيلتقوا برجال الأنجزة قبل رجال السلطة الرسميين؟ أليس لهذا معنى؟
[5] أنظر عادل سمارة، تأنيث المرأة بين الفهم والإلغاء، مصدر سبق ذكره.
[6] من اللافت أن أكثر من كتبوا حماسة لصالح تدخل الولايات المتحدة في سوريا من خلال أدواتها السعودية، والوهابية ومنظمات الأنجزة وقناة الجزيرة وجماعة المستقبل اللبنانية وحزب التحرير والنظام التركي، كان اكثر المتحمسين/ات لهذا العدوان هم من الأنجزة المحلية. كان ذلك واضجاً رغم تغطية أنفسهم بالحديث عن الحرية وعن المحتجين الحقيقيين والمُحقين من الشعب العربي السوري. لم يكترث هؤلاء بأن المشروع هو تحطيم القطر السوري قوميا واجتماعياً تحطيم ستكون المرأة أولاً ومن ثم الأقليات الصغيرة والعرب المسيحيين هم ضحايا ذلك كما في العراق وأكثر. نعم هي مهمة صعبة أن تكون حريصاً على البلد وقضية المقاومة والممانعة لأن في ذلك ما يفيد النظام القائم وغير الديمقراطي، وهذا على اية حال التحدي الذي يواجه النظام والذي عليه الفبول الفعلي له وبه.
[7] Seel Samara, Beyond De-Linking: Developemnt by Popular Protestiob vs Development by State, Chapter 3,
2005. منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله.