التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية

د. منذر سليمان ـ واشنطن

المقدمة:

شملت تغطية مراكز الفكر والابحاث الاميركية الاسبوع المنصرم عددا متنوعا من المواضيع، لكن المرجح ان تتضائل حجم ونوعية الاهتمامات قريبا نظرا لبدء موسم الاعياد الرسمية لعيد الميلاد المجيد ورأس السنة الجديدة.

وسيتناول التحليل المتضمن نبأ الاعلان وفرادة أهمية القاء القبض على عدد من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية في لبنان، وما نراه من تغيير في مركزية اهتمامات الوكالة في قفزة تعد خارج القواعد التقليدية للمهام التجسسية للتجنيد وجمع المعلومات الاستخبارية الى الانطلاق بالاعتماد الاقوى على سلاح الطائرات دون طيار لشن هجمات على اهداف بشرية عن بعد. وعليه، نعرب عن اعتقادنا ان تلك الاستراتيجية التي تولي اهمية كبرى لوسائل التقنية المتطورة كانت سببا وراء الاخفاقات العملية التي ادت الى الحجم الكبير لاعتقالات العملاء في الساحة اللبنانية؛ بل ان السبب الرئيسي المسكوت عنه هو في كفاءة وقدرة الاجهزة الامنية العربية على تسديد ضربة موجعة لأحد اهم الاجهزة الاستخبارية العالمية، ان لم يكن اهمها على الاطلاق. وكما حذر عدد من الساسة الاميركيين مرارا، فان تلك “الاخطاء” ستستمر ان لم تقلع الوكالة عن استراتيجيتها الراهنة وتعود الى الاستثمار التقليدي في الجانب البشري لجمع المعلومات وتجنيد العملاء في الساحات المستهدفة. لكن هذه المناشدة تأتي من باب تسكين الاوجاع لا علاجها لأن الامر يتطلب فترة زمنية ليست بالقصيرة، كما هو معروف في عالم التجسس والاستخبارات.

ملخص مراكز الابحاث

تناول معهد الدراسات الحربية Institute for the Study of War السعي السياسي للرئيس الافغاني حميد قرضاي في البحث عن قاعدة دعم لجهوده في استمرارية العلاقة مع الولايات المتحدة. اذ عقد لقاء استمر اربعة ايام مع مجلس الحكماء الافغان (جيرغا) في كابول من اجل مناقشة اقامة علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة والاستمرار في محادثات للتسوية مع الخصوم من عدمها. ويعرب البعض عن مخاوفه من ان اللقاء قد يتمخض عن دعم الحضور للتوجه السياسي لحميد قرضاي مما يمنحه قدرا من الشرعية ويتيح له دعوة لقاءات مماثلة في المستقبل تؤدي الى اخماد اصوات المعارضة في حكومته. ومن نتائج اللقاء صدور وثيقة تبناها مجلس الجيرغا من 76 بندا تحاكي الرؤيا السياسية لقرضاي حول ضرورة التوصل لاتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. الا ان الموافقة عليها وتبنيها تعتمد على تضافر عدد من الشروط من بينها توقف هجمات الاغارة الليلية التي تقوم بها قوات التحالف على المدن والمواقع الافغانية، واغلاق المعتقلات الواقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة وحلفاءها الدوليين، واشتراط مثول العناصر الاميركية التي ترتكب جرائم على الارض الافغانية امام المحاكم الافغانية. وعند تبني الاتفاقية، سيكون بوسع القوات الاميركية الاستمرار في البقاء في افغانستان لمدة قد تصل لعشر سنوات، وباستطاعة الحكومة الافغانية طلب تمديد العمل بها بعد ذلك.

وحصر معهد واشنطن الصهيوني Washington Institute اهتمامه بتجدد اعمال العنف في مصر، منوها الى الوضع الصعب الذي تجد واشنطن نفسها فيه قائلا “ان خيارات واشنطن السياسية تبدو محدودة حتى في افضل الظروف الديبلوماسية. فالادارة (الاميركية) قد تجد نفسها مضطرة الى تفضيل اولوية شؤون الأمن القومي على ما عداها من قضايا، والمطالبة بتأجيل الدخول في الانتخابات كي تضع حدا للفوز الساحق المنتظر للقوى الاسلامية. لكن من شأن التأجيل ان يحفز نشوب مزيد من العنف مما قد يعرض مكانة المجلس الاعلى للقوات العسكرية برمتها، والتي ستهدد كافة المكاسب التي سعت الادارة لصيانتها وحمايتها من التدهور. وبالمقابل، فان توجيه الاولوية نحو عملية التطور الديموقراطي قد يدفع بالمجلس العسكري المضي قدما في تنفيذ جدول الانتخابات المعلن بالرغم من موجة العنف الجارية، مما قد يعزز فرص فوز القوى السياسية الاسلامية. وربما من الحكمة النظر بخيار ثالث وهو حث المجلس العسكري على الاسراع في عقد الانتخابات الرئاسية، مما سيسفر عن بروز زعامة سياسية شرعية والتي سيكون بوسعها الالتزام بخيارات المجلس العسكري والحفاظ على مصالح الأمن القومي اكبر مما سيكون متاح لبرلمان منتخب.”

كما تناول مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations تجدد المظاهرات في مصر، مستضيفا احد الاكاديميين من اصول عربية والخبير في شؤون استطلاعات الرأي، شبلي تلحمي، الذي افصح عن نتائج آخر استطلاع اجراه في المنطقة بقوله ان نحو 43% من عموم المصريين يعربون عن اعتقادهم بأن قيادة القوات العسكرية تسعى للحد من الانتصارات التي حققتها الثورة. واضاف ان المجلس العسكري لا زال يحتفظ “بمخزون من النوايا الطيبة” لان الشعب المصري يريد رؤية “دولة عربية قوية تتزعم المنطقة،” لكن عددا من الشرائح الاجتماعية لا تزال قلقة من استمرارية تدخل القوات العسكرية في الشؤون السياسية. واردف ان نحو 30% ممن استطلعت اراؤهم اعربوا عن دعمهم لمرشحي الاحزاب الاسلامية، وفي المقابل لم يحصل اي من مرشحي الانتخابات الرئاسية على اكثر من 20% من الدعم.

بينما تناول معهد هدسون Hudson Institute ما اسماه الاستراتيجية الغامضة التي تنتهجها الادارة الاميركية نحو سورية، قائلا “بالنظر الى الطبيعة السياسية للشرق الاوسط، التي فضحتها بشكل كبير الحرب على العراق، فان قلق ادارة اوباما يجد ما يبرره لناحية ابطاء العمل لاعادة تكوين الدولة. ومع ذلك، لا يبدو انها تدرك عمق الرغبة لاجتراح حركة معارضة في سورية ودول الشرق الاوسط الاخرى المعرضة للاضطراب بان ذلك نتيجة مباشرة للغطرسة ذاتها. وقدرة الولايات المتحدة لرسم خطوط المناخات السياسية في الدول الاجنبية تبقى محدودة. ويبقى صناع القرار في الحزبين اسرى لما يعرف بصيغة “مخزن الخزف” التي عبر عنها وزير الخارجية الاسبق كولن باول. ولكن الحقيقة تفيد بأن واشنطن ليست مضطرة لشراء سلعة اقدمت على كسرها – لا سيما وان الضرر كان نتيجة العناية بالمحافظة على المصالح القومية الاميركية. بيد ان القناعة الناتجة عن مخزن الخزف اضحت احد اركان السياسة الخارجية المعتمدة، والتي كان لها الفضل في كبح جماح الولايات المتحدة من الاقدام على خطوات من شأنها حماية المواطنين الاميركيين والحلفاء والمصالح القومية. ولا يجوز الركون الى ان دافعي الضرائب الاميركيين سيقفون لدعم المغامرات الخارجية لا سيما ان تضمنت الكلفة اعادة تهيئة الدول الفاشلة، ومن ضمنها تلك التي يضمر زعماؤها وجمهورها عداء لنا بغض النظر عن حجم الدعم المقدم. وحاليا، نرغب في رؤية الاسد يقاتل من اجل البقاء في سورية لان في ذلك ميزة لكبح جماح نظام يرغب في بسط نفوذه خارج حدوده – تصدير الارهاب لاسرائيل ولبنان والاردن وتركيا. وبتحييد النظام العربي الوحيد الموالي لايران، فان سقوط الاسد في نهاية المطاف سيضعف النظام القائم في طهران ووكلاءه الاقليميين، خاصة حزب الله، الذي يعتمد في خطوط امداداته على الحدود اللبنانية – السورية. وبالنسبة للولايات المتحدة، فان هذا الانجاز البسيط يعد انتصارا سعينا لتحقيقه لاكثر من 30 عاما.”

اما معهد بروكينغز Brookings Institution فقد تناول مسألة الزعامة السعودية بالنظر الى وزير الدفاع الجديد قائلا “ان الوضع الصحي للملك مقلق. (الامراء) نايف وسلمان يعانيان من ازمات صحية كذلك. لكن العائلة المالكة تفضل الاستمرارية في المسار عينه. فقد اختارت (الامير) سلمان عوضا عن خالد نجل سلطان، بطل حرب الخليج الاولى عام 1991، والذي تقدم بعض الشيء لمنصب وكيل (الوزارة) الا انه ينبغي لجيله الانتظار فترة اطول للقفز الى الاعلى. فمهمة (الامير) سلمان في الرياض ذهبت لصالح احد الاخوة الاخرين، الامير سطام، الذي شغل منصب نائبه. فوزير الدفاع سلمان يتعين عليه معالجة اوضاع لم يعهدها من قبل. ومما لا شك فيه ان من اكبر المسائل حيرة لسلمان هي مسالة اليمن. اذ ان البلد يراوح على حافة حرب أهلية شاملة. من شأن الاضطرابات في اليمن ان تنتشر عبر الحدود المشتركة الى المحافظات السعودية في جنوب غربي البلاد. والقوات العسكرية السعودية تورطت في الازمة اليمنية في السنوات القليلة الماضية ضد القبائل الشيعية الحوثية المتمردة، والتي اضحى تمردها اكثر قوة مع انتشار اجواء الربيع العربي.”

اما المعهد الاميركي للتنمية المشتركة في اوروبا، جيرمان مارشال فند German Marshall Fund، فقد تناول الاستراتيجية المتوسطية في اعقاب الربيع العربي باستضافته جلسة نقاش في المؤتمر الخامس لمجموعة شراكة المتوسط. ومن اهم ما تمخض عنه النقاش بحث بعنوان “ما بعد الثورات: اعادة النظر بأمن المتوسط،” والتوصل الى تحديد العناصر الاساسية سريعة التغيير المكونة للاجواء الاستراتيجية في حوض المتوسط، وتحديد بعض الاولويات الجديدة الناجمة، ورسم الخيارات السياسية والتحديات التي تواجه اللاعبين والمؤسسات المعنية. ومن بين ما توصلت اليه ايضا، مناقشة بروز وتطور السياسات الديموقراطية في العالم العربي، في المدى المنظور، والتي باعتقادها انها ستؤدي الى مزيد من تعقيد في الاجندة الأمنية للاعبين الغربيين. كما ان القلق للنواحي الانسانية والغذاء وأمن المناطق المدنية، مصحوبا بالمشاغل التقليدية للدولة والامن الاقليمي، سيلعب دورا بارزا في المعادلة الامنية الجديدة.

وعالج معهد وقف كارنيغي Carnegie Endowment جاهزية روسيا للتحرك ضد ايران وبرنامجها النووي، في ندوة استضاف فيها الخبير في برنامج السياسة النووية والمقيم في برلين، مارك هيبز، الذي اعرب عن اعتقاده بانه من غير المرجح ان تقدم ايران على التعاون مع هيئة الطاقة الدولية بصورة كبيرة لمعالجة القضايا التي اتى ذكرها في تقرير الوكالة الاخير. واردف، انه في الاشهر القليلة القادمة ينبغي على واشنطن المضي باتباع سياسة دقيقة من اجل ابقاء الضغط قائما على ايران والعمل في ذات الوقت على درء نشوب ازمة تخرج عن نطاق السيطرة. فالولايات المتحدة، كما يقول هيبز، قد تنظر الى التزام روسيا بالجهود الديبلوماسية كفرصة لائحة، لكنها ستعتمد على نتائج المحادثات المقرر اجراؤها بين روسيا وايران ودول اخرى للتوصل الى خارطة طريق لتسوية ديبلوماسية للأزمة.

ولم يفوّت معهد ابحاث السياسة الخارجية Foreign Policy Research Institute الفرصة للنيل من حزب الله في ضوء الاحداث السورية، متسائلا ان كان بمقدور الحزب مواكبة التغيرات الجارية في المنطقة. وقال “الاشتباكات الاخيرة (في لبنان)، بالتزامن مع تصاعد موجة الانتقادات الداخلية لجماعة نصرالله، تؤشر الى تزايد موجة الامتعاض الشعبي من حزب الله وموقفه الراهن فيما يخص النظام السوري والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان مما قد يولد نتائج عكسية. ان احتمال خسارة حزب الله الدعم السياسي الحالي وتدهور البلد نحو ازمة سياسية جديدة من شأنها مجتمعة ان تهدد النفوذ السياسي للمجموعة وموقعها داخل الساحة اللبنانية. كما وانها تطرح علامات استفهام حول بقاء حزب الله لعب دورا نافذا في منطقة تشهد تغيرات سريعة. وهذا الحال ينطبق على حليف المجموعة وشريكها، نظام الاسد، ان قدر له السقوط. عندها، سيواجه حزب الله واحدة من اشد التحديات صرامة منذ تأسيسه في عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. وهل ياستطاعة الحزب العمل على بدء صراع مع اسرائيل من اجل نزع فتيل التوترات الداخلية المتنامية؟ انه أمر وارد، على الرغم من انه يبدو من غير المحتمل ان تقدم المجموعة على المغامرة للدخول في جولة اخرى من الاعمال العدائية مع اسرائيل وهي في موقف ضعف داخلي وغموض عام يكتنف المنطقة. وبالنظر الى السيناريوات البديلة، فان حزب الله قد يتمسك بمحاولة الابقاء على الوضع الراهن كما هو، مع عقد الآمال على نهوض سورية من العاصفة السياسية.”

وجاء اهتمام مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS في مسألة الاصولية الاسلامية والسياسات العربية، محذرا من رؤيتهما على انهما يشكلان تهديدا (للغرب). وقال “ليس هناك رابط بالفطرة بين مسألتي التقوى والتعصب. فعدد من المجموعات الورعة عبر العالم هي غير سياسية بالمجمل. والامر ينطبق على الرهبان البوذيين كما على سلفيي السعودية الصامتين. ويعتقدون ان الارادة الالهية تشكل تحديا ذاتيا وليس املاء جماعيا. بينما يفضل عدد من اكثر الاشخاص ورعا عبر العالم العيش ضمن مجموعات متجانسة، اذ بالنسبة للبعض منهم فان ذلك يشكل انسحابا من تبعات المجتمع بدل صهره لموائمة رغباتهم. كما ان الامر ينطبق على اليهود من طائفة الحسيدية في مدينة نيو سكوير في ولاية نيويورك مثلما ينطبق على الرهبان الاقباط في الاديرة الواقعة في غياهب الصحراء. فالمعركة على الاسلام السياسي كانت مختلفة لعدة عقود مضت. فالمجموعات الاسلامية ناضلت من اجل الحضور العام، قابلهم العلمانيون بالاقصاء. وفي عدد من الانظمة الملكية، سعى الملوك للعب دور متوازن بين الاطراف المتخاصمة، باسطين حمايتهم (وفي بعض الاحيان مكافأة) كل طرف وتذكيرهم لهم بأن مصيرهم يتعلق بالحاكم بشكل مطلق. ومن شان هذا العامل الديناميكي ان عزز النزعة الراديكالية لدى الطرفين وبنفس الوقت تعزيز استمرارية الصراع بينهما. ان من اهم النتائج المرجوة من الاضطرابات السياسية التي تعصف بالعالم العربي الدلالة على ان الوضع لا ينبغي ان يكون كذلك.”

وكعادة القوى اليمينية الاميركية المسكونة بالهواجس الأمنية، تناول معهد هاريتاج Heritage Foundation مسألة التهديد الناجم عن الاعتقالات الاخيرة لاحد المتهمين بالتخطيط للقيام بتفجيرات في مدينة نيويورك، وانعكاساته على مجمل الأمن القومي. وقال “اعتقال (المتهم) بيمنتل Pimentel يذكرنا بأن العمليات الفردية من الجائز الكشف عنها وتعطيل مفعولها من قبل الاجهزة الأمنية. وكما جرى مع مؤامرات ارهابية اخرى، فالعمل الفردي عادة ما يتصف بالنشاط المشبوه مما يتطلب يقظة وتحري تقوم به السلطات الأمنية. فالحفاظ على هيكلية قوية تتمتع بآليات ناجعة لمكافحة الارهاب تبقى السبيل الافضل للاستمرار في احباط مخططات شبيهة بذلك الذي تم تعطيله مؤخرا في مدينة نيويورك. فالهجوم الذي تم احباطه يشكل دليلا على استمرارية التهديدات الحقيقية. وينبغي على الادارة (الاميركية) العمل بقدر عال من الالحاح لمعالجة النواقص التي يعاني منها مجهود مكافحة الارهاب في الولايات المتحدة.”

التحليل:

هل اضاعت وكالة الاستخبارات المركزية البوصلة مرة اخرى؟

في سعي صناع القرار المحموم لتحميل مسؤولية احداث الحادي عشر من سبتمبر لجهة ما، شكلت وكالة الاستخبارات المركزية هدفا سهلا لاتهاما بالاهمال والفشل في اختراق وتقويض مخطط خطف الطائرات آنذاك. وحمل المسؤولون وصناع القرار الوكالة وزر المسؤولية حصرا لاعتمادها العالي على التقنية المتطورة والاقلاع عن اساليب الاختراق التقليدية القاضية بالتركيز على العامل البشري. واستندوا بمجملهم الى حجة تقضي ان ادارة المعركة بفعالية على “خطر الارهاب” يستوجب قيام الوكالة بتوظيف قدرات وطاقات اكبر لبلورة شبكات من المخبرين في منطقة الشرق الاوسط، والاقلاع عن الافتتان بالحلول التي توفرها التقنية المتطورة.

وبعد انقضاء عقد من الزمن على الجدل الصاخب الذي تغلغل في اروقة صناع القرار السياسي، واقرار الاجهزة الاميركية المختصة بنجاح الاجهزة الأمنية التابعة لحزب الله وللحكومة اللبنانية معا في تقويض وتفكيك شبكة عملاء وكالة الاستخبارات المركزية في الاراضي اللبنانية، لا تزال الوكالة منخرطة في حرب نشطة على ثلاث جبهات عمادها الهجمات الجوية على كل من افغانستان والباكستان واليمن. وبالنظر الى انتهاء الحرب على ليبيا راهنا، فان وكالة الاستخبارات المركزية ورثت مسؤولية ادارة الصراع لواحدة من اشد المعارك الجوية فتكا في العالم قاطبة.

وعلى الرغم من بعض الانجازات التي تحققت في مجال الاصلاحات، فان نشاط الوكالة يمكن وصفه بانه ابتعد عن العمل الاستخباراتي واضحى رديفا لوزارة الدفاع – وهي المهمة التي اعتمدتها ايضا ابان الحرب الفييتنامية والتي كانت على وشك الفتك بها وتدميرها من الداخل.

وفي علم ادارة الصراعات، نادرا ما تستدعى الاجهزة السرية لتنفيذ عدة مهام بعيدا عن اختصاصها الاصلي في جمع المعلومات الاستخبارية ودفعها للقيام بعمليات من اختصاص القوات شبه العسكرية. ومع ذلك، ركزت الوكالة جهودها التقليدية على تحليل الكم الهائل من المعلومات وتطوير التقنية المتطورة الضرورية للقيام بمهام استخباراتية. اما العمليات العسكرية فكانت عادة من اختصاص القوات الخاصة الاميركية.

وللدلالة، عندما كانت الوكالة منخرطة بشدة في عمليات قوات شبه عسكرية فقد عمدت الى سحب جزء من مواردها الخاصة بجمع وتحليل المعلومات الى التركيز على تنفيذ المهام شبه العسكرية. والنتيجة كانت في هبوط قدرات الوكالة المختلفة في الاختصاصات الاخرى. ففي عقد الستينيات من القرن المنصرم، انتقل اهتمام مخبري الوكالة من نطاق مواجهة الاتحاد السوفياتي وكوريا الشمالية الى توسيع القسم الخاص بفييتنام. وبالرغم من تحقيق بعض النجاحات في تلك الساحة، فانها جاءت على حساب مواكبة النشاطات السوفياتية والكورية الشمالية.

ويتكرر ذات المشهد اليوم بدليل تفكيك شبكة التجسس الاميركية في لبنان. وحسبما افادت صحيفتا لوس انجلس تايمز والواشنطن بوست بالتزامن، فان مشغلي شبكة التجسس الاميركيين ارتكبوا اخطاء مهنية ادت الى كشف الشبكة. وجاء في التقارير ان “ضباط وكالة الاستخبارات التقوا مرات عدة مع المخبرين اللبنانيين في مطعم محلي للبيتزا هت، مما اتاح لحزب الله والسلطات اللبنانية تحديد هوية مخبري الوكالة.” وتمضيان بالقول يبدو “ان مسؤول محطة الاستخبارات في الوكالة السابق تجاهل تحذيرات وردته عبر البريد الالكتروني ان بعضا من عملاءه اللبنانيين قد يتم الكشف عن هويتهم لانهم قاموا باستخدام اجهزة اتصال هاتفية للتواصل حصرا مع مشغليهم في وكالة الاستخبارات.”

واضاف تقرير صحيفة لوس انجلس تايمز “في العام 2010، قرر مسؤولو مكافحة التجسس الاميركيون ان عملاء وكالة الاستخبارات المركزية من اللبنانيين قد يتم تعقبهم بذات الطريقة. الا انه يزعم ان مدير محطة الاستخبارات قام بتجاهل تلك التحذيرات.”

(ملاحظة: من غير المألوف في تاريخ الاجهزة الاستخبارية والتجسسية الاميركية الاقرار بأن الفشل المعلن عنه كان نتيجة قوة او ذكاء او فطنة الخصم – حزب الله في الحالة اللبنانية – وانما كان وليد الخطأ او الاهمال الذي حصل بالصدفة؛ دائما هي الصدفة “صائبت” في الرواية الاميركية. وهذا التفسير يجسد الاخفاقات الأمنية الاميركية التي منيت بها تكرارا في كافة الساحات العالمية).

ويعد لبنان من اهم الساحات حيوية لاستهدافات شبكات التجسس، نظرا لموقعه واهميته التقليدية كمصدر نشط لشبكات التجسس الدولية، ونشاطات وكالة الاستخبارات المركزية هناك تدل على عدم الحرفية في التعامل.

ويعمل بداخل مركز مكافحة التجسس التابع لوكالة الاستخبارات المركزية نحو 10% من مجموع القوة البشرية العاملة للوكالة، الذي شهد نموا من نحو 300 عنصر قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر الى نحو 2000 عنصر حاليا، حسبما افادت صحيفة واشنطن بوست. وهذا الرقم يفوق كافة العناصر القيادية المنضوية تحت لواء تنظيم القاعدة عبر العالم. الا ان الاهتمام لم يعد منصبا على المهام التجسسية التقليدية، بل على الانخراط في حرب جوية ضخمة تضع تحت سيطرتها اسطولا هائلا من الطائرات العاملة دون طيار.

اما ما تبقى من كادر عامل في وكالة الاستخبارات المركزية فان دوره سيقتصر على دعم تلك الحرب الجوية. ووفق تقرير صحيفة واشنطن بوست فان “نحو 20% من كادر المحللين المختصين في الوكالة يشغلون منصب “تحديد الاهداف” بعد القيام بمسح شامل للمعلومات حول الافراد المرشحين للتجنيد، او القاء القبض عليهم او وضعهم في زاوية استهداف الطائرات دون طيار. واضحت هذه المهارة مطلوبة بشكل كبير بعد استحداث الوكالة مهنة الاستهداف منذ نحو خمس سنوات، الأمر الذي يعني انه باستطاعة المحلل المهني تقاضي علاوات وترفيعات في حقله دون الحاجة للتواجد في ساحة الاستهداف.” وقال احد العملاء السابقين في وكالة الاستخبارات لصحيفة واشنطن بوست صراحة ان الوكالة اضحت “ماكينة قتل رهيبة.” ففي عام 2010، قتل نحو 810 اشخاص عبر الطائرات التابعة للوكالة دون طيار، ونحو 1500 قتلوا منذ تولي الرئيس اوباما منصبه. وتصاعدت ارقام القتلى بشكل مخيف مما حدا بوزارتي الخارجية والدفاع فرض حظر على المعلومات المتعلقة بالغارات الجوية التي تقوم بها وكالة الاستخبارات المركزية.

وفي الوقت عينه، تبرز الى السطح تهديدات جديدة لا تستطيع اجهزة الاستخبارات الاميركية التصدي لها بفعالية مستخدمة الموارد المتاحة حاليا. فروسيا تحت زعامة بوتين اصبحت اكثر تمردا مما يعني ان “المعركة الكبرى” بين وكالة الاستخبارات المركزية ونظيرتها الروسية ستتطلب تخصيص موارد اضافية قريبا. وعلى عكس الحرب الدائرة حاليا لمكافحة الارهاب عبر استخدام اللطائرات دون طيار، فان الصراع المقبل سيعتمد الى درجة كبيرة على عملاء داخل روسيا.

ومن المعروف ان شن عمليات استخبارية ناجحة يتطلب جهودا مضنية ويستغرق وقتا طويلا. فتجنيد العملاء يمتد لبضع سنوات يتخلله جهود لمتابعة ترقيتهم ووضعهم في مناصب حساسة. اما مسؤولي محطات التجسس فالامر يتطلب انقضاء عدة سنين لاستيعابهم اصول المهنة وخفايا جمع المعلومات الاستخبارية. كذلك فان عملية تحليل المعلومات الواردة تتطلب فترات زمنية طويلة للقيام بها في منطقة جغرافية محددة.

من الواضح بمكان ان تركيز جهود وكالة الاستخبارات المركزية على العمليت شبه العسكرية قد كلفها تقليص لمواردها في مجالات اخرى. وكما رأينا في الفشل الاسخباري الذي منيت به في لبنان فانه سيبقى ملازم لها في عمليات مستقبلية. كما لا يجوز التغاضي عن السبب الرئيسي في الفشل الاستخباري الاميركي وهو اليقظة واساليب مكافحة التجسس الناجعة التي تستخدمها الاجهزة المعادية لاميركا.

وفي هذا الصدد، فان حصيلة ما اودت اليه عملية الكشف عن العملاء في لبنان، كما هو متداول اليوم، ما يلي:

تجميد العملاء اللبنانيين من قبل مشغليهم الاميركيين

حرق كل العملاء الاميركيين المجندين في لبنان

اجبار المخابرات الاميركية على اعادة خلق جهاز وآلية جديدة وهذه عملية تتطلب وقتا وتحتاج لسنين وهذا يعني ان المقاومة ربحت هذا الوقت.

البنتاغون تشرف على التجسس الاعلامي على العرب بغرض التجنيد وجمع المعلومات:

الاستهداف الاميركي لمنطقتنا العربية لا يزال قائما على اشده ويهدد المنطقة باسرها. وفي ظل الكشف عن شبكة عملاء الاستخبارات الاميركية في لبنان وسورية وايران، ينبغي ان نولي اهمية كبرى لابعاد مخطط الهيمنة الاخرى، لناحية ترويض الاجيال الشابة والناشئة من العرب بالاعتماد على سياسة ممنهجة لاختراق النسيج الاجتماعي من اجل المحافظة على المصالح الاستعمارية وسيطرتها على الوطن العربي.

ينبغي ملاحظة تعزيز دور البنتاغون في ارساء قواعد السياسة الاميركية (وما الحرب الا السياسة بوسائل اخرى) خاصة منذ غزو واحتلال العراق، مع الابقاء على سرية الدور الذي تقوم به وكالة الاستخبارات المركزية، من جهة، والاجهزة الامنية الاخرى التابعة لوزارات الدفاع والخارجية والعدل والمالية، التي تبرز للسطح في اوقات منتقاة بعناية من ناحية ثانية؛ وعلينا تتبع آليات السياسة التي يعتمدها البنتاغون لتجنيد العملاء عبر انشطة علنية تقوم بها احدى الركائز الكبرى للمجمع الصناعي الحربي، شركة جنرال داينامكس، واطلاقها لمواقع اعلامية الكترونية بادارة واشراف الشركة المذكورة نيابة عنه، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي ايضا، لتجميع وتحليل المعلومات الأمنية والاستخبارية في الوطن العربي. كما وترمي مشاريع البنتاغون، بالدرجة الرئيسة، الى ربط الاعلاميين العرب مع المؤسسات الاميركية التي تروج للنموذج الاميركي من الديموقراطية وتدريبهم على قبول المستعمِر الجديد والتعاون معه لنسف الثوابت والموروث والثقافة الوطنية، لا سيما ان مسألة “التعايش” مع الكيان الصهيوني تندرج في سلم اولويات تلك المؤسسات والسياسات الرسمية الاميركية. ومن بينها ولتبيان خطورتها في المديين القريب والمتوسط نورد ثلاثة مواقع معنية بشؤون منطقة المغرب العربي، والعراق، وبلدان المشرق ومصر، على التوالي:

موقع “مغاربية” الذي ترعاه القيادة الاميركية لافريقيا Africom “يقدم تحليلات ومقابلات وتعليقات يعدها مراسلو “المغاربية” المدفوعي الأجر في المنطقة. تتميز تغطية “مغاربية” بإلمامها بأعماق القضايا المحلية التي قد تبعث على تطورات ذات مغزى، ممزوجة بمقاربة تلمس مختلف خصائص المنطقة. وهو موقع يتناول الاتجاهات ويطرح الحلول والنجاحات التي يمكن أن تشكل نماذج يُحتذى بها لتحقيق التقدم عبر مختلف أنحاء المنطقة. ” ويركز الموقع على اجراء استطلاعات للرأي في قضايا سياسية واجتماعية الي جانب فتح الباب للمشاركات في امور تبدو عادية لكن قيمتها التخطيطية والتحليلية لها مدلولاتها، كالسؤال مثلا عن ردة الفعل “لدعوة القذافي لحصول افريقيا علي مقعد في مجلس الامن” او “ما هو افضل ما يستهويك في رمضان؟” او سؤال عن “هل يجب ان يكون لدى الآباء سلطة الاعتراض علي اختيارات ابنائهم في الزواج؟” ولا يجهد المرء في رؤية الاهتمام بالانشطة الجهادية والجهود المحلية في دول المغرب العربي لتفكيك الخلايا “الارهابية”، ووسط زحمة الاخبار العادية يبدأ الترويج للوجود اليهودي وفتح مجالات التطبيع معه، وتخصيص مساحة كبيرة لاحتفالاتهم او اجراء مقابلة، مثلا، مع مسؤولة مسلمة عن متحف يهودي في المغرب وحديثها المليء برسائل موجهة حول اهمية توثيق المساهمة التاريخية لليهود ولوم الدول العربية علي ارتكاب خطأ وغبن شديد بحق اليهود العرب! ”

موطني.كوم (mawtini.com) الذي ترعاه البنتاغون لدعم قرار الامم المتحدة رقم 1723 القاضي بادامة الوجود العسكري الاميركي في العراق بعد الانسحاب المقرر للقوات ويركز على “منع كل نشاط ارهابي او يدعم الارهاب في المنطقة،” ويستضيف كتبة بالقطعة مقابل عائد مالي كما يوضح الموقع.

موقع “الشُرْفة Al-shorfa.com” الذي يشرف عليه البنتاغون ويستهدف دول المشرق العربي ومصر ومشيخات الخليج عبر تسليط الضوء على التحرك نحو المزيد من الاستقرار الإقليمي، (الصيغة الكودية للهيمنة الاميركية) وذلك من خلال عقد اتفاقيات تعاون ثنائية ومتعددة الاطراف على حد سواء، والتركيز على المساعي المبذولة لاعاقة النشاطات الارهابية في المنطقة (كما يرد في الموقع،) اضافة الى تسليط الضوء على ما يدور في المنطقة من احداث وتوفير التحليلات والتعليقات والمقابلات الصحفية التي يجريها مراسلون مقابل اجر معلن. والموقع معد لتأمين قاعدة معلومات للقاريء حول استقرار المنطقة.

ان ما يستوجب الوقوف عنده هو اصرار ادارة الموقع على ذكر حقها في استغلال البيانات وتتبع المشاركين وتعليقاتهم وتنصلها قانونيا من “المعلومات المغلوطة،” مما يؤكد بشكل لا يقبل الشك التوجه نحو الاستغلال الاستخباراتي لهذه المعلومات ودس السم في العسل، او بالاحرى ممارسة الدعاية السوداء التي تنشر اكاذيب ممزوجة ببعض الحقائق في اطار الحرب النفسية وتشكيل رأي عام تجاه قضايا منتقاة ولخدمة اجندة محددة تخدم المصالح الامريكية.

:::::

التاريخ: 25 نوفمبر 2011

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي