الجزء الثالث
د. عادل سمارة
الديمقراطية والمواطنة:
الديمقراطية والمواطنة حقوق طبيعية للإنسان تقوم اساساً على وتُضمن، إذا ما توفرت قاعدتها الرئيسية وهي الحرية. وبغض النظر عن مدى تطبيقها في الدولة الرأسمالية الحديثة، فهي مفاهيماً وحقوقاً اقترنت بهذه الدولة، دولة المجتمع المدني. وهذا يفترض السؤال التالي: هل الدولة في الوطن العربي هي دولة راسمالية بالمفهوم الغرامشي الذي تحدث عن المجتمع المدني، وبالتالي هل هذه الدولة ارضية مناسبة للزعم بوجود منظمات للمجتمع المدني لا سيما وأن هذه المنظمات لها دور مجتمعي واستقلالية نسبية عن المجتمع السياسي، فالحديث عن مجتمع مدني لم يرتق أو يتحول المجتمع السياسي فيه إلى وضعية الدولة التي تتوافر فيها بنية المجتمعين المدني والسياسي هو حديث مبتور عن واقع مبتور، بل لأن الواقع مبتوراً. ألا نلاحظ وخاصة إثر الثورات العربية الأخيرة أن أحد اسباب الثورات الأخيرة هو تقصير الدولة في الوطن العربي عن أن تكون دولة للمواطنين؟ أو فقدان الناس لمواطنيتهم. ومع ذلك كان الكثيرون يتحدثون فيها عن ” مجتمع مدني”. وسنترك الحكم الأخير لمآل الثورات والانتفاضات السائلة في الوطن العربي وخاصة على ضوء اللجوء إلى الجيش كملاذ أخير؟ الا يؤكد هذا أن هذم المجتمعية المدنية غير ناضجة؟
وفي حين غابت الديمقراطية بالمفهوم الراسمالي عن المجتمعات العربية، ربما لأن خط الإنتاج شبه غائب فعلامَ تقلق البرجوازية، ناهيك عن أوتوقراطيات الخليج، حتى تعطي المجتمع بعضا من الديمقراطية‘ فإن الثورات والانتفاضات والثورة المضادة اليوم في الوطن العربي تكاد تنحصر في مطلب الديمقراطية تيمنا بالغرب الذي قطع شوطا في التصنيع والتقنية لم نصله نحن، وغادر هذا المستوى وانعطف فاشياً بوضوح.
قد يساعدنا هنا الحديث عن الحداثة بمعنى أن الحداثة ، بمضمونها الأوروبي الذي لا نوافق على تعميمه عالمياً، أن هذه الحداثة هي مضمون الدولة الرأسمالية الغربية التي تكونت من المجتمع السياسي والمجتمع المدني، وأن هذه الحداثة اقترنت بالتحديث الراسمالي[1]، الذي كان تطبيقها الاقتصادي الإنتاجي على الأرض. فهل تتضمن الدولة في الوطن العربي كل من الحداثة والتحديث؟ وإذا غابتا هاتين، ماذا يظل لدينا مما تسميه المجتمع المدني غير استيراد المصطلح وتلبيسه قسراً لواقعنا؟
البنية الفوقية
كما ألمحنا في مواضع اعلاه تميز غرامشي بالتركيز على دور اكبر للبنية الفوقية في عملية تطور المجتمعات أو على الأقل قلل من حصرية الأمر في البنية التحتية. فهو يرى إلى القوانين الاقتصادية كقوانين متحركة متغيرة لأنها اجتماعية في التحليل الأخير، وليست كقوانين الفيزياء والكيمياء.لذا أعطى للإيديولوجيا دوراُ بارزاً وأعطى استقلالاً نسبياً للبنية الفوقية عن التحتية اي للسياسة والثقافة والقانون والأخلاق…الخ. وهذا نقاش مستدام بين الشيوعيين، وربما كانت الماوية من أول من عالج هذه المسألة معطية أهمية نسبية لعلاقات الإنتاج دون حصر الأمر في قوى الإنتاج وهذا ما أوضح تقصير أو لبرالية نسبية عند غرامشي. وفي هذا هي تخالف موقف غرامشي الذي يذهب لما هو خارج نمط الإنتاج، وإن كان يتقارب معها فيما يخص الحزب. ثم جاءت مساهمات ألثوسير وهنري ليفيفر ونيكولاس بولانتزس وبيري اندرسون. في هذا المستوى متشربا أطروحات ماو وغرامشي معاً. وذهب غرامشي إلى القول بأن البنية الفوقية تلعب دورا بارزا في تطوير الوعي الطبقي وتماسُك الحزب فكرياً وبالطبع تلعب دوراً في تعميق وتعميم هيمنة طبقة على أخرى. ومن الإنصاف القول هنا أن الماوية مثلت النقد الأعمق للنزعات المركزانية الأوروبية لدى ماركسيين أوروبيين. تجدر الإشارة إلى أن كثيرين يرون بأن ماركس قد أعطى للبنية التحتية دوراً مطلقاً، وهو ما اسموه النزعة الاقتصادوية. وهذا التفسير راجع بالطبع لطبيعة قراءاتهم لماركس أكثر مما هي لحقيقة موقفه. وبالمقابل، فإن غرامشي أعطى الأولوية للبنية الفوقية[2]. وفي هذا يلتقي إلى حد كبير مع جورج لوكاتش.
في هذا الصدد يقول غرامشي: “إن الأطروحة الماركسية التي تنص على أن البشرية تطرح على نفسها فقط المهام التي باتت الشروط المادية لحلها متوفرة، تعمق وتدمج بالبحث في الأنماط والأشكال والوسائل التي تنجز بواسطتها البشرية تلك المهام فعليا، أي أن الإنتباه يتحول إلى الشروط الإيديولوجية والسياسية للجدل التاريخي[3]“. بمعنى آخر، فإن قانون التطور والبقاء يكشف بأن التاريخ بمقدار ما يعرض حالات من التحدي التي تواجه الإنسان بمغاليق معينة، فإن القوى الاجتماعية الديناميكية وحدها التي تلتقط جانباً آخر في التاريخ هو الجانب الذي يعرض مفاتيحاً لهذه المغاليق.
لا يخرج غرامشي عن جوهر الفلسفة الماركسية ومرتكزها وهو التاريخ. فهو مثل ماركس يعتبر أن التاريخ هو مسرح التطور وأن المجتمع المدني وليس الدولة هو اللحظة الفعالة في التطور التاريخي، فهو قوة التغيير وساحة صراع الهيمنتين. لكن هذا يعني كذلك أن البلدان التي لم تترسمل وتتصنع كما يجب، فإنها لم تولِّد المجتمع المدني الذي يُفترض في نظرية غرامشي. نعم، ليست الأمور مطلقة وحدِّية إلى هذا الحد، ولكن قراءة المجتمع المدني بمضون أطروحات غرامشي يرغمنا على التذكر أن القُطريات العربية ليست النموذج المقصود، والهدف هنا مزدوج:
· الأول، عدم افتراض أن في الوطن العربي مجتمعاً مدنيا ومجتمعا سياسيا كما هو في الغرب الراسمالي الذي هو موطن الثورة الصناعية وما بعدها ومن ثم تلك الطروحات
· والثاني، وهو الأهم اعتبار النقطة أعلاه، مدخلاً للتحدي وللعمل على تحقيق هذا المجتمع، وليس افتراض وجوده والبناء على ذلك الافتراض المزعوم. هذا معنى التقاط مفاتيح المغاليق. وفي هذه الحالة ستكون مقومات المجتمع المدني مرتكزة على تاريخ المجتمع وليس فقط على رسملته.
يركز غرامشي مجتمعيا على وعي الضرورة، مؤكدا مقولة الماركسية بانتقال الإنسان الدائم من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية ناسباً هذا الانتقال إلى الوعي بالضرورة . وهنا يدخل الحزب والطبقة في العملية بمعنى ان الوعي السياسي الطبقي هو الذي يجعل من الطبقة طبقة تفرز حزبها، بما يؤكد أن هذا الفرز ليس ميكانيكيا طبقا لما يعتقد البعض أن قوى الإنتاج هي التي تسير العلاقات اي الناس.
إن سعي الإنسان للحرية هو مشروع واعٍ، لا شك في هذا. وهذا ربما قائم على قول هيجل: “إن الفلسفة هي الوعي محاط بالفكر…وأن الحرية هي فهم الضرورة”، هنا يُنفى التطور الميكانيكي ليحل محله الفهم الواعي للواقع فهم الواقع الاقتصادي الاجتماعي وتسخير هذا الواقع لصالح الثورة والتغيير. لذا يرى لوكاتش أنه : ” عندما اشتعلت الأزمة الإقتصادية النهائية للرأسمالية أصبح مصير الثورة ومعها مصير البشرية رهن النضج الإيديولوجي للبروليتاريا رهن الوعي الطبقي”[4] هذا الوعي الذي نقله غرامشي إلى الحزب وليس إلى الطبقة بمعناها الفضفاض. والسؤال المعلق هنا، هل كان وراء حديث لوكاتش تقليل مقصود لدور الحزب وتعظيم لدور الطبقة إلى درجة عدم الحاجة إلى الحزب. لنترك هذا لقراءة الناس للتاريخ وماذا علمتنا تطوراته.
نعيد السؤال هنا حول الأنجزة، فالبنية الفوقية لا بد أن تكون انعكاساً خلاقا للبنية التحتية التي هي مسخَّرة للناس في التحليل الأخير، ترفعها من المادي إلى الواعي الإنساني. فما هو موقع الأنجزة هنا؟ وحينما تكون مؤسسات البنية الفوقية في خدمة الدولة الوكيلة، والكمبرادور ما هو موقف الأنجزة منها؟
الدولة جزء من البنية الفوقية فهي البنية الفوقية السياسية
رفض غرامشي مزاعم اللبراليين عن عدم تدخل الدولة في الاقتصاد بمعنى توجيهه بشكل محدد. ومسألة الدولة والاقتصاد مسألة تناقض ليس بين الشيوعيين واللبراليين وحسب، بل مسألة تناقض ذاتي داخلي بين اللبراليين أنفسهم. فبينما تقوم إيديولوجيا اللبرالية وتجسيدها رأسمالياً على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد، فإن الدولة بما هي سلطة لطبقة أو تحالف طبقات احيانا مع هيمنة طبقة محددة، هذه الدولة متدخلة في الاقتصاد سواء بتقديس الملكية الخاصة، أو تبرير المنافسة والاستغلال بقوانين، أو ممارسة الحماية الاقتصادية وزعم حرية التجارة، أو حتى التشريع للدولة بأن تضع يدها على الأراضي التي لا يستغلها اصحابها بشكل مناسب او لا يستغلونها لمنحها لمزارعين أكثر نشاطاً!. ليس هذا فحسب بل إن أزمات السوق او الراسمالية المتكررة، وفقا لدورات الكوندراتيف، لم يجد من ينقذها سوى الدولة بتشريعاتها الضابطة وإبطالها في مرحلة لاحقة لإنقاذ الطبقة الرأسمالية من أزماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمثلة على ذلك كثيرة ومن ابرزها أزمة 1929 ومشروع روزفليت في الثلاثينيات The New Deal مرورا بمشروع العولمة النيوليبيرالي للخروج من الأزمة العضوية التي اجتاحت دول المركز الراسمالي ما بين 1968-1973/4 وآخرها مشروع إسعاف البنوك وشركات السيارات في الولايات المتحدة منذ العام 2008.
قد يفيد في هذا الصدد التأشير قليلاً إلى ميشيل فوكو الذي كان الأكثر حِدَّة في نقد الدولة البرجوازية وبنيتها الفوقية مستخفاً بدور البنية التحتية لينتهي أخيراً إلى الاستسلام لهده الدولة بل الطبقة!. في تردده ما بين الماركسية والفكر اللبرالي رغم الصخب النقدي اعتبر فوكو البنية التحتية اي الاجتماعية الاقتصادية مثابة “…عناصر مبعثرة تطير في فضاء مفترض ليس لعنصر امتياز على آخر”. وبهذا لا يتعمق فوكو في نقد الدولة البرجوازية في معقلها الرئيسي الملكية الخاصة والتحكم بجهد الطبقة العاملة وممارسة الاستغلال.
إن إنكار امتياز عنصر على آخر، هو إلغاء للبنية الطبقية في المجتمع الواحد وعلى صعيد عالمي كذلك. وبهذا، فهو ينفي الصراع الطبقي الذي هو محرك التاريخ. إن هذه التغطية على هذا التفاوت المريع في ملكية الثروة الاقتصادية سواء داخل المجتمع الطبقي الواحد أو على صعيد عالمي يؤدي إلى تبهيت الحقائق الطبقية في المجتمع الواحد وعلى صعيد عالمي. وفي النهاية يخرج عن المحيط الفعلي للوجود ومن ثم الصراع الطبقي. وربما هذا ما أخذه في النهاية إلى الاعتقاد بموت السياسة ومن ثم إلى التسامح.
يقول غرامشي: ” الدولة بمعناها الموسع هي الاتحاد الجدلي للمجتمع المدني والمجتمع السياسي، للهيمنة والإكراه أي أن الدولة سلطة من جهة وأجهزة من الجهة الأخرى. وهذه الأخيرة تقسم إلى أجهزة إكراه وأجهزة هيمنة. وأجهزة الهيمنة هذه هي المؤسسات المدنية للدولة أو المجتمع المدني حسب غرامشي[5]“. الحديث واضح هنا بأن مؤسسات المجتمع المدني في دولة الراسمالية هي مؤسسات امتداد ما للدولة، للمجتمع السياسي ولكن باستقلال نسبي وليست نقيضاً لها. هل هذا ما اقنع فوكو أن اية معارضة أو حتى ثورة إنما تدور في فلك وتحت رقابة وتحكم السلطة؟ وهل هذا تاثراً بمسرح النظام الثابت عند شكسبير؟ ربما. ومرة أخرى هذا يؤكد نقدنا للثورات والانتفضات العربية التي انحصرت بعدُ في الديمقراطية، اي في نطاق هيمنة السلطة.
الدولة والمجتمع المدني
ترتبط نظرية غرامشي للمجتمع المدني بفهمه للدولة الراسمالية، والتي برأيه تحكم بكلٍّ من القوة والإجماع. لا يمكن فهم الدولة عبر المفهوم الضيق للحكومة، لذا يفصل غرامشي بين “المجتمع السياسي” وهو مجال المؤسسات السياسية والتحكم الدستوري، وبين المجتمع المدني والذي يُرى عموما على أنه مجال “خاص” او “غير دولاني” مختلف متفارق differentiated عن كل من المجتمع السياسي والاقتصاد.
فهو يرى أنه في ظل الراسمالية العصرية بوسع البرجوازية الحفاظ على تحكمها الاقتصادي بالسماح ببعض المطالب التي ترفعها الاتحادات العمالية والأحزاب السياسية الجماهيرية في المجتمع المدني بحيث يقبل بها أو يلبيها المجال السياسي. وبهذا، فإن البرجوازية تنشغل في ثورية سلبية من خلال ذهابها لأبعد من مصالحها الاقتصادية الآنية وتسمح لأشكال هيمنتها بالتغير. يفترض غرامشي أن حركات من طراز الإصلاح، والفاشية، والإدارة العلمية، ونظام تجميع الآلات والأدوات مبادىء فريدريك تايلور وهنري فورد[6] على التوالي أمثلة على ذلك.
يرى غرامشي ان الطبيعة المعقدة للمجتمع المدني يعني التكتيك الوحيد القادر على تقويض هيمنة البرجوازية والذي يقود إلى الاشتراكية هو حرب الموقع، كموازي لحرب التخندق . وأن حرب الحركة (او القتال الجبهي) الذي قام به البلاشفة، هي استراتيجية أكثر مناسبة للمجتمع المدني المتخلف في روسيا القيصرية. نلاحظ هنا مركزانية غرامشي في ملامسة البلدان الأوروبية المتخلفة وليس بلدان المحيط. ولكن هذا يتضمن كافة أنواع الحروب والتي هي هنا الصراع الطبقي . فكسب حرب المواقع فكرياً هو مبرر وجود الحزب والثقة به وبدوره في هيمنة المجتمع المدني للطبقة العاملة، فما موقع الأنجزة هنا؟ ورغم زعمه بأن الخطوط الفاصلة بينهما ضبابية، رفض غرامشي حالة الحرب التي تنتج عن مطابقة المجتمع السياسي بالمجتمع المدني كما حصل من قبل اليعاقبة والفاشيين. فهو يرى أن مهمة البروليتاريا هي خلق “مجتمع منظم” ووصف ذوبان الدولة بأنه التطور التام لقدرة المجتمع المدني على تنظيم نفسه.
[1] حول العلاقة بين الحداثة والتحديث أنظر عادل سمارة كتاب: التطبيع يسري في دمك، الفصل الأول، منشورات دار أبعاد بيروت ومركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2011.
[2] ملاحظة من د. مفيد قسوم: اعتقد ان غرامشي اعطى وزنا متساويا لكل منهما ونجح في دمجهما بشكل دياليكتيكي من خلال اطروحته المطورة لفكرة “الكتلة التاريخية واعتقد انه نجح اكثر من لوكاتش في ذلك.
[3] فكر غرامشي السياسي ـ جاك مارك بيوتي ـ ترجمة جورج طرابيشي – ص- 189
[4] – المصدر السابق – ص- 191 .
[6] الفوردية وهو المصطلح الذي نحته غرامشي على نمط التراكم الراسمالي منذ العشرينيات والذي بدأ بالتلاشي في الستينيات ليحل محله نمط التراكم المرن أو ما بعد الصناعي او يذهب البعض لتسميته بالتيوتي نسبة لسيارة التيوتا الياباانية.