مصر على الحافة

أحمد حسين

المرحلة الثانية من الثورة المصرية، التي بدأت بالبرادعي، ستنتهي إلى أسوأ ما انتهت إليه سابقتها. فلا يمكن تصور هذا الأمريكي المتمصر السخيف العقل، الذي حلق رأسه على الصفر ليبدو شبابيا، ثم زار ميدان التحرير، وهو لا يكاد يتماسك على قدميه من أرذلية العمر، يصبح ثوريا ووطنيا مثل بقرة تحاول التغريد. هذا الآلية الدنيئة الملوثة يداه بدماء الشعب العراقي، هو وصمة في جبين الثورة المصرية، تؤكد أن القوة الفعلية التي ما تزال تحرك الساحة المصرية، هي أمريكا. وأن السيناريو الجديد لآمريكا هو جر المصريين إلى حرب أهلية مدمرة، تصبح بعدها مستعمرة خليجية، تكمل مع ليبيا حركة الفصل بين دول المغرب العربي ومشرقه. هذا الفصل، بعد اكتمال سيكس بيكو في المشرق العربي، سيضع نهاية لشبح الوجود العربي، ويمهد لتدويل المشاعة العربية تحت الهيمنة الأمريكية المباشرة. وستصبح المنطقة قاعدة للعولمة الباردة ( الحرب الباردة ) بدون حضور أصحابها التاريخيين المسكونين بالهواجس المحظورة للتمثل القومي أو الديني. ومع اقتراب التمثل القومي من نهايته في التحول، فإن التمثل الآخر الدينوي تكون قد أنتهت مهمته، ومن الخطر الإحتفاظ به لمدة أطول كما تحتج إسرائيل طوال الوقت. ولن يمر وقت طويل، قبل أن يخير الأخوان الإسلامويين، بالتخلي عن أي استقلال سياسي، والإعتراف بالسيادة الإسرائيلية الكاملة لإسرائيل على فلسطين لتصبح مركز الإشعاع الكوني لحضارة العولمة الدينية والثقافية، وبالسيطرة الإنتدابية على شئون المنطقة فى الإدارة، والحركة الإقتصادية، والأمن بوصفها الدولة الأكثر تقدما وكفاءة وأهلية لذلك، وبين تجفيف كل مصادر الدعم والتمويل للحركة، والتي ستعني موتها. وسوف تكتفي الحركة برموزيتها الكنسية، وإرسال أساقفتها إلى بابوية أورشليم كممثلين عن الطائفة الأسلامية، فقط من أجل السماح لأرصدتها المتراكمة بالإندماج في اقتصاد العولمة.

ومن المفروض أن تكون مصر بعد اغتيال شخصيتها القومية، واحتلال شخصيتها الوطنية، وتدمير آخر ما تبقى من بناها الإقتصادية مركزأ أطرافيا مثاليا مع ليبيا، لتنفيذ المهام الخاصة بالملف الأفرو آسيوي الشامل الذي ستقوم إسرائيل بإدارته مباشرة، أي أن مصر ستصبح، بدون أية رتوش سياسية , قاعدة أطلسية مثل قطر بانتداب إسرائيلي، وتعاون تركي. ما يعيق الآن تنفيذ هذا السيناريو هو إيران وحلفاؤها في المنطقة. وبزوالهم سيزول أخر العوائق أمام العولمة الشرق أوسطية، التي سشكل نموذج فكفكة البنى واستبنائها عولميا على الطيقة الصهيوأمريكية في أماكن أخرى في العالم.

إن شعبا مثل الشعب المصري عراقة وعددا وثراء افتراضيا، قادر على تدارك هذا المصير البائس قبل فوات الأوان. كيف يمكن تعريض بلد يمثل أحد وجوه الحضارة العالمية الأكثر بروزا، لدمار شامل تصبح بعده بلدا قيد الإعمار بأموال خليجية وإدارة صهيونية مباشرة، ليتحول بعدها إلى بلد فاقد الإستقلال، وورشة للإستثمار المالي والسياسي المعولم؟ كيف يمكن للمواطن المصري أن يتصور نفسه أحسن حالا حينما يستبدل الإستبداد بالعبودية. والتبعية الإقتصادية بالإحتلال الإقتصادي المباشر؟ إن السوق الرأسمالية شعارها : أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من الكلفة. فهل يعني هذا أقل من العبودية؟ وهل قوة العمل في مصر مدربة لاستيعاب المهام في سوق العولمة؟ فماذا سيكون مصير ملايين الفعلة والعمال غير المدربين في سوق لا علاقة لها بالتنمية المحلية المتدرجة، سوى أن يتحولوا إلى أقنان خدماتيين أو مستهلكين في سوق الإدمان، أو معروضات في سوق بيع الأعضاء البشرية. سيصبحون معرضين للإبادة بشتى الطرق الخفية، على الطريقة الأمريكية في كثير من بلدان العالم المتخلفة. فلم يعد بالإمكان إطلاقا الإعتماد على العقل العنصري والنخبوي المريض في أمريكا.

لا يحق لشعب كالشعب المصري، أن يخذل نفسه وغيره، كأحد شعوب العالم المتميزة حضاريا، وبدل أن يقود المنطقة وشعوب العالم الثالث نحو الخلاص الثوري يقودها نحو أشد صور المصير فظاعة. يكفي الشعوب العربية ما حصل لها. ألم يثبت لهم الغرب، أن استراتيجيته العالمية تقوم تجاههم على تصفية العنصر العربي بكل الطرق المتاحة، وخلق الفرص لإزاحته من المشهد العالمي؟ ألم تستعمل في العراق كل طاقات الحقد والمعرفة لإبادته سياسيا، وعرقيا وحضاريا؟ فهل تتوقف عند العراق لتدمير البني الحضارية القديمة في المنطقة العربية؟ ألا يكفي سياق الربيع العربي دليلا قاطعا على أن الدور الآن على مصر وسوريا وإيران؟ إن حلقات مسلسل الغزو الصهيوني الأمريكي للعرب تتضمن جانبا واضحا من الرؤيوية المجنونة، التي تقصد تهويد المنطقة ثقافيا. وإذا لم ينتبه الشعب المصري فإن ما حصل في العراق سيتكرر في مصر حتما. ستدمر بنيته الحضارية تدميرا جذريا كجزء من تدميره الشامل، وستنهب متاحف مصر كما نهبت متاحف العراق. ولكن السيناريو يقتضي أولا أن تلعب مصر دورا مشتركا مع بهائم الخليج وقرود تركيا، لتصفية الجيب السوري والإيراني. وسيكون هذا كارثة على الجميع لا نهوض منها أبدا في هذا القرن أو ربما إلى الأبد. فظاهرة الأمم والحضارات البائدة ديدن تاريخي معروف. وتمير حضارات الشرق السابقة على ظهور اليهودية يشكل جزءا عضويا من استراتيجية بناء العالم النخبوي الصهيوني الجديد. سيصبح مصير مصر مقترنا بمصير الخليجيين. وهو مصير لا نريده لمصر. فمصر ليست صدفة نفطية أو سيادية تحولت إلى مفارقة نظامية مفتعلة.

وماذا ترى يظن الخليجيون والسعوديون؟

ترى هل يعتقد أولئك المعينون، أنه بقي لهم دور يتجاوز تمويل الربيع العربي، وتأدية الرذائل السياسية المتعلقة به؟ ألا يعرفون أن الشرق الأوسط الجديد البالغ التعقيد والحداثة إلى درجة النموذجية، لن يكون فيه مكان لسيادات سياسية من أي نوع، وأن السيادات البيروقراطية القادمة لا يمكن أن تستسيغ نموذجهم المتدني على أي مستوى، سواء من حيث نمط الحياة السيادي أو الفحش الإستهلاكي أو المستوى الفكري. وأنهم قريبا، وبموضوعية التغيير، سيفقدون وظائفهم السيادية ومدخراتهم المنهوبة من خزانة النفط الأمريكية التي كانوا حراسا عليها؟ إن الشرق الأوسط الجديد سيكون مكتفيا أمنيا بميزاته البنيوية المتقنة داخليا، ولن يكون بحاجة إلى غفراء أو عملاء تقليديين. لذلك فإن مصيرهم سيكون مغثيا مثل مطاردة الجرذان من المكاتب. فهل سيسمح الشعب المصري لطنطاوي أو البرادعي أو عمرو موسي بربط مصر بمصير هؤلاء الدمى العابرة؟

وهل يظن أردوغان وغل والأتراك الآخرين من أوغاد السياسة، أنهم سيتجاوزون دورهم المرسوم صهيونيا وأمريكيا في المنطقة. لقد لعبوا دور التسوية مع الأكراد في أطار الدولة، ليلجموا القوميين واستفزوا إسرائيل ليخدعوا العرب، فلقنتهم أسرائيل درسا جثموا بعده على جباههم. أما الأكراد فقد أثبتوا لهم أن ولاءهم لإسرائيل أكثر من ولائهم لتركيا. وهم يحاولون الآن ترميم مصداقيتهم الوطنية التي خسروها بولائهم غير المشروط لأمريكا على حساب سوريا، لكي يكف أوباما العسكر عن قذفهم إلى مزبلة التاريخ. ولكن أوباما والعسكر ينتظرون أيضا أن يكملوا دورهم في الربيع العربي، ليركلوهم بأقدامهم. فاللعبة أكبر وإعمق بكثير من اجتهادات وأمال العملاء في أي مكان. اللعبة هي عالم امبريالي تحكمه النخبة الأمريكية والصهيونية. وهؤلاء العملاء يسخرون في أدوار مرحلية عابرة لتأتي مرحلة جديدة يكونون من ضحاياها.

وفي مصر فإن السيناريو الذي أعدته الثورة المضادة برعاية عسكر أمريكا، هو أن تسفرالإنتخابات المصرية عن برلمان باكثرية أخوانية ليبرالية. هذا البرلمان هو برلمان الثورة المضادة بالطبع. فالصراع بين الدينويين والليبراليين هو صراع بين أركان نظام ما يزال قائما بيروقراطيا، رغم سقوط واستبعاد بعض نخبه السياسية القيادية والذي لا يعني شيئا جوهريا. الذي تغير هو تحول الصراع بين الإخوان والليبراليين في عهد مبارك إلى تحالف ديموقراطى بعد سقوطه. فالديموقراطية تحظى بإجماع الطرفين كمطلب لوجستي للمشروع السيادي الأمريكي على مصر. هذا الإجماع على الديموقرطية والتعدد، أي ساحة التنافس الفئوي الحر، شكل آلية للمزاد العلني الذي طرحه العسكر على الأحزاب السياسية الأخرى التي كانت قائمة، بما فيها اليسارية، للإنضواء تحت لواء استبدال الثورة بالديموقراطية. والآن أصبحت كل تلك القوى القميئة تقف عمليا في صف الثورة المضادة، ضد الشعب المصري الذي سيجد نفسه مجبرا على السباحة في المستنقع القديم بما في ذلك شباب الثورة أنفسهم. سيحيد ميدان التحرير بقوة الأمر الواقع. ويتحول الشباب إلى معارضة سياسية بعد أن كانوا ثوارا. هذا السيناريو المعد والذي على الشباب أن يفشلوا كل أهدافه بأي ثمن، وأن لا يعطوا لهذا البرلمان أية شرعية لتأليف حكومة ” وحدة وطنية ” قامت على التزييف والتآمر على الشعب وثورته. وبالمنطق العملي والميداني فإن، الثورة المكتملة الوعي والأهداف يجب أن تبدأ اآن وبغض النظر عن أية نتائج تسفر عنها الأنتخابات يجب أن تبدأ الآن، ولا تتوقف إلا بحكومة ثورية مؤقته تعيد احتلال الساحة السياسية، ثم تقرر تكوين الآليات الثورية العاجلة، بأدوات نخبوية ثورية من الكفاءات الأكاديمية الثورية والمختصين الإداريين والخبراء. إن عثرات التجربة هي جزء من مسار الثورات، تصحح ميدانيا، لتسهم في تكوين الخبرات الثورية. المهم هو التفاف الشعب حول أهداف واضحة للثورة، ليستطيع الإسهام فيها مباشرة، والقيام بدور المراقب من خلال نخبه الوعيوية، والإلتزام بحماية السياق وأهدافه إلى حين استقرار التجربة.

لا يستطيع أي شعب أن يرفض أقداره الموضوعية. وإذا كان هناك قدر كهذا على الشعب المصري، فهو تحرير مصر أولا من التبعية، وحمايتها من السقوط في الهاوية التي تعد لها. إن مصلحة مصر وشعبها معروفة وواضحة وقطعية موضوعيا وهي استعادة الدور القيادي والثوري الذي كان لها في المنطقة. أنظمة البهائم العربية كلها على وشك السقوط، وعلى القومية العربية أن يملأوا الفراغ لا أمريكا كما حدث في ليبيا. ولن يكون هذا ممكنا بدون مصر العربية والثورية. ولكنه أيضا ليس منة من مصر على أحد، كما يعتقد بعض البلهاء، فمصر هي التي التي ستعاني أكثر من غيرها إذا سقطت في هوة الربيع العربي، لأن أزاحتها من الطريق على النمط العراقي ستكون أمرا محتما. وليس هناك مصير أسوأ من هذا المصير.

أما الجيش المصري فمهما قيل عن عدم تدخل الجيش في السياسة، فهو اليوم الذي ينفذ سياسة أمريكا في مصر. والقول ببعد الجيش، أي جيش عن السياسة، هو أسطورة نظامية، أول من يقوم بتكذيبها النظام السياسي نفسه حينما يحتاج إلى ذلك. وما يجري في مصر والمشاعة العربية اليوم ليس سياسة. أنه مصير شعوب وأوطان. إنه احتلال أجنبي مقنع يقوم به عملاء مثل طنطاوي والفئات السياسية العميلة التي يحاول طنطاوي حمايتها من الثورة المصرية. كيف يمكن إذن لبقية الجيش المصري إقناع أنفسهم بالحياد وهم المؤسسة التي تمثل كل الشعب المصري فعليا بالإنتساب. الحرب بين الشعب المصري من ناحية وطنطاوي والفئات العميلة لآمريكا من ناحية أخري، هي حرب بين أمريكا والشعب المصري، فلماذا يحق لطنطاوي وأعواانه أن يكونة خونة سياسيين، ولا يحق لبقية الجيش المصري أن يمنعوا هؤلاء الخونة من تسليم مصر وشعبها للإعداء؟