اطار عام في محاولة فهم الوضع المتفجر في الوطن العربي الكبير:

الثورة والثورة المضادة وجها لوجه[1]

د. نورالدين عواد، هافانا

ان الصيرورات الاجتماعية السياسية المتدحرجة في الفضاء الجغرافي الطبيعي للوطن العربي الكبير، قد فاجات السياسيين ومنظري العلوم السياسية والعلاقات الدولية. الاهمية الجغرافية الاستراتيجية لهذا الفضاء في تعريف وتحديد الصراعات والتنافس بين القوى العظمى واللاعبين الاقليميين والمحليين، تضفي تميزا خاصا لمداخل وتحليلات علماء السياسة للوضع الصراعي الجديد، وقواه المحركة، الداخلية والخارجية سواء بسواء، وتوجهات حركته والعواقب المحتملة.

لا زالت الامبريالية الامريكية منذ الحرب العالمية الثانية، ولاحقا مع انتهاء عالم القطبية الثنائية، تمثل اللاعب الخارجي الاهم والمحدد والحاسم في السيرورة السياسية لما يسمى الشرق الاوسط. تاريخيا، ما فتئت امريكا تطمح الى فرض سيطرتها على العالم اجمع. في العقدين الاخيرين، خططت امريكا سياستها الخارجية بالتناغم مع مشروعها للسيطرة العالمية، الذي يجد تعبيره البرنامجي والنظري في “مشروع القرن الامريكي الجديد”.

يتالف هذا المخطط اساسا من شقين: امريكا اللاتينية والشرق الاوسط. في ميزان القوى بين امريكا وبقية القوى العظمى، تتمتع الامبريالية الامريكية بتفوق على كافة الاصعدة الا واحدا: الطاقة، التي تشكل لها “كعب اخيل” اي ثغرة قاتلة. ولذلك، يرى استراتيجيو الامبريالية انه، في سبيل تحقيق هيمنتها وسيطرتها، لا بد لامريكا من السيطرة الفعلية ميدانيا علىمنايع الطاقة، لا سيما النفطية في كلا المنطقتين الجيوسياسيتين.

في حين استطاعت القوى الشعبية المناهضة للامبريالية في امريكا اللاتينية، انتزاع فضاءات هامة من براثن الامبراطورية، وحرمتها من قسط لا باس به من الموارد الطاقوية، فان امريكا لا زالت، حتى اللحظة، تضمن في الشرق الاوسط مصلحتين قوميتين وحيوتين لمنظومتها السياسية وجبروتها العالمي: النفط ودولة “اسرائيل” الصهيونية.

في يوليو 2010، دافع مقدم هذه الورقة عن رسالة دكتوراة في جامعة هافانا، حول السياسة الخارجية الامريكية تجاه القضية الفلسطينية. احدى خلاصات ذلك البحث العلمي تنص حرفيا على ما يلي:

” 18. غياب الحل العقلاني للصراع “الاسرائيلي” ـ الفلسطيني، قد يلحق الضرر بالمخططات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الامريكية في المنطقة. استمرار الصراع قد يبقي على الاطراف المعنية منغمسة في هذا الصراع الذي لا يمكن التنبؤ بعواقبه، في ظل اضطرابات سياسية وقلاقل، وقد تنشا اوضاع تخرج عن الحوكمة في مختلف البلدان، او في نهاية المطاف، ينشا صراع اقليمي ذو ابعاد كبيرة. ان مشهدا كهذا ليس مؤاتيا للمخططات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الامريكية، اذا اخذنا بالحسبان، المصالح القومية والجيوسياسية المتنامية للاعبين آخرين اقليميين ودوليين سواء بسواء. فالامبريالية الصهيونية تعتزم اقامة شرق اوسط كبير يدور حول اسرائيل او اسرائيل الكبرى، بصفتها قوة اقليمية مسيطرة؛ وضمان تدفق النفط الرخيص والامن، من خلال الاحتلال او السيطرة العسكرية على حقوله ومنابعه؛ وابقاء الفضاء الشرق اوسطي خاليا من نفوذ او وجود قوى دولية اخرى.”

من المغرب، مرورا بالجزائر وليبيا وتونس ومصر والاردن واليمن والعراق والبحرين وصولا الى عمان، ثارت الجماهير الشعبية العربية، وأحدثت قطيعة مع الوضع القائم المفروض، بالحديد والنار، على امة عريقة بتقاليدها في الكرامة والايثار والحرية والاخوة والعدالة الاجتماعية، وفاء لموروثها الثقافي والحضاري.

لقد غيرت الجماهير الشعبية، وآمل ان يكون ذلك الى الابد، المعادلة الخطية لسلطان الثلاثي المعادي للوطن العربي الكبير: نخب متخارجة عميلة للامبريالية الصهيونية ودول بوليسية قمعية، والرعب والخوف الناجم عنها مشاعا في المجتمع، مما يحتبس الفعل الواعي للذوات، مما يبقي الوضع القائم على حاله الى اجل غير مسمى، لصالح الاعداء الحقيقيين للشعب: الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية.

خدمة لسلوكها السياسي ـ العسكري في التصدي للازمة، ارتات الولايات المتحدة الامبريالية مخططا طارئا يتمثل، في رايي، في النقاط التالية (حسب الاولوية):

تقديم كل الدعم العسكري والامني الممكن للانظمة الرجعية العربية لكي تبقى في سلطان الدولة وان اضطرت الى اغراق بلدانها في بحور من الدماء.

2. تغيير صورة النظام من خلال الاستعاضة عن شخص الحاكم برموز من نظامه. 3. تغيير اللون الايديولوجي للانظمة من خلال حركة الاخوان المسلمين ولا سيما تياراتها المنسجمة مع فكر ومصالح الراسمالية الامبريالية.

4. تدخل الامبريالية الصهيونية عسكريا ومباشرة في حال انتصار الثورة الشعبية المناوئة لها، او من اجل الحيلولة دون ذلك.

ان البديهية العليا في السياسة الخارجية الامريكية ازاء العالمين العربي والاسلامي، وتناغما مع مشروعها للاصلاح والديموقراطية، في عهد بوش الابن واوباما على حد سواء، تبدو استلهاما لمفهوم “علينا ان نغير كل شيء كي لا يتغير اي شيء ونبقى نحن الاسياد”.

في التحليل الاخير، اننا نرى مشهدا معقدا من الصراعات الداخلية مع تدخل لاعبين خارجيين، في ظل “فوضى خلاقة” والخلط بين الانتفاضات الثورية وانتفاضات وقائية استباقة مصطنعة. ففي حين تكافح الشعوب العربية في سبيل كرامتها وانعتاقها، فان الامبريالية الصهيونية تصارع في سبيل هيمنتها وسيطرتها ونهبها للثروات الطبيعية والبشرية لعموم الامة العربية.

تكمن المفارقة في ان كلا المتحاربين النقيضين، يرفعان نفس شعارات الحرية والاصلاح والديموقراطية، لكن بمعاني ومقاصد متضادة. فالامر يتعلق بصيرورة تاريخية مفتوحة للصراع بين الثورة والثورة المضادة.

المتخارجة التي تطرح نفسها امام فعاليات (لاعبي) التغيير في مختلف البلدان العربية (الجماهير الشعبية وقواها) لا زالت متأزمة: ضرورة تاريخية لتغيير الوضع القائم الخاص بانظمة مستبدة وفاسدة وتابعة، دون الوقوع تحت وصاية او هيمنة او سيطرة الامبريالية الصهيونية؛ ضرورة الحفاظ على الوحدة الترابية والاستقلال والسيادة في بلدانها، بافق اعادة توحيد الامة، امام مخطات وعمليات اعادة قطعنتها واستعمارها.

اعتقد اننا على اعتاب تغيير العهد العربي والانتقال من نظام استبدادي دكتاتوري (ملكي او جمهوري) نحو افق حقيقي للدولة العربية المدنية الحرة المستقلة وذات السيادة فعليا (لغاية الان في اطار الديموقراطية البرجوازية ونواميس النظام الراسمالي التخومي). قد يكون ذلك خطوة متقدمة لحركة التاريخ السياسي العربي، الا انها غير كافية لتغيير المنظومات السياسية العربية السائدة، تغييرا جذريا، لان ذلك، في رأيي، يتطلب حتما ثورة اجتماعية، تغير المنظومة السياسية باسرها، وتولج الوطن العربي الكبير في عهد الاشتراكية العلمية، طريقا وحيدا للتحرير والانعتاق الانساني.


[1] ملخص مكثف للورقة التي قدمتها (بالاسبانية) امام الندوة الدولية “علوم سياسية جديدة” التي عقدت في الفترة 16 ـ 18 نوفمبر الجاري، في جامعة هافانا، بالتعاون مع الاكاديمية الدبلوماسية الكوبية (المعهد العالي للعلاقات الدولية) وغيره من المؤسسات الكوبية.