” خطوة كاليننغراد”… عودة الدب بعد بياته الشتوي!

عبد اللطيف مهنا

يبدو أن اللحظة المناسبة لإطلالة مختلفة للدب الروسي على راهن المرحلة الدولية الضاجّة بالتحولات قد حانت. حكاية كالننغراد تعلن عن عودة الغائب لما يُذكّرنا بأيام له قد خلت، وتؤشّر على قدوم لافت بعيد غفوة طالت له في بيات شتوي قصري أعقب انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كان لدراما غيبوبته هذه ما كان بعدها كونياً، منها ما ألقى بظلال تداعياته المصيرية على عالمنا من أقصاه إلى أقصاه، كان اهمه نهاية ما كانت تدعي الحرب الباردة، أو ما عنى تفرداً فجَّاً لأحادية القطبية الأمريكية بقرار العالم، وما تلى من فجورها الإستباقي المتوحِّش الذي أتاحه لها ذاك الغياب.

اللحظة الروسية حانت موضوعياً لما توفره لها عديد من العوامل، تلك التي على رأسها ما نشهده من بدايات تتسارع للعد العكسي للانحدار فالأفول الإمبراطوري الأمريكي، ويشحذها بادي تراجع هيبة القوة الكونية الأعظم لانحسار سطوتها وتراخي قبضة هيمنتها على هذا القرار، أو كل هذا الذي يسرّعه جاري تخبُّطها المشهود في أزمتها الاقتصادية المستفحلة، ومكابدتها لمردود حصاد سياساتها الاستباقية والنتائج المرة لحروب جموحها الإمبراطوري، إلى كل ما من شأنه أن استنزف جبروتها… اللحظة العودة، التي قلنا إن من بين ما يحتمها موضوعياً ما تقدم، يستوجبها الآن ويسرّع منها في مقبل الأيام ولوج عالمنا القلق لحقبة لاهثة تشي بداياتها باتسامها بتعدد القطبيات وتزاحم متنافس المراكز الصاعدة الباحثة عن أدوارها الكونية المستحقة بما تراه يتناسب مع مواقعها وأحجامها.

الروس يعودون ولا من مفاجئ في عودتهم التي كان لها مقدماتها، هذه التي لاحت بداياتها مع نهاية الحقبة اليلتسينية، التي تعد الأسوء في تاريخ روسيا ما بعد الانهيار السوفيتي، أي ماتلاها من بداية لحقبة بوتن، حيث دارت بتثاقل عجلة المحاولات لاستعادة العافية للاقتصاد الروسي المنهار والتي أوصلته اليوم إلى مشهود تعافيها، وكان أن سرّع من هذا، إلى جانب الحرب على المافيا والفساد وشحذ طاقات الانتاج، ارتفاع اسعار الطاقة الذي كان من شأنه أن راكم لبلد مترامي المساحات هائل القدرات وواسع الإمكانات غنيٌّ بالخامات من ثروات سخّر جزءاً منها لترميم آلة اقتصاده المتآكلة، ولرفد جانبها العسكري الضخم تحديداً وتطّويره بما يتلائم مع مثل هذه العودة ويعززها.

هناك عامل لا يمكن إغفاله هو راهن تصاعد المشاعر القومية لدى الروس، لا سيما بعد مكابدة عقدين من إحساسهم بالمهانة جراء ما لحق بمكانة قوة عظمى تهاوت بانهيار نظامها السابق، وبالتالي حنينهم المنطقي لأمجاد قريبة أفلت، الأمر الذي اختصرته “البوتينية” ليطلق البعض على صاحبها لقب قيصر روسيا المعاصر، والذي أصبحت مسألة عودته للرئاسة مرة ثالثة في حكم المؤكدة بعد إعلان ترشيحه لتبوئها بأقتراب نهاية مدة خلفه الذي سيصبح سلفه مدفيدف.

كانت اللهجة المنذرة وغير المسبوقة الحدة، التي وسمت إعلان مدفيدف عن ما دعاه بالخطوة “الدفاعية” المتخذة بنصب أنظمة الرادارات في محافظة كالينيغراد والبالغ مداها ستة آلاف كيلومتر، بحيث تغطي كامل أوروبا، في مواجهة منظومة “الدرع الصاروخية” التي ينصبها الغرب على تخوم روسيا الأوروبية وإلى الجنوب منها في تركيا، إشهاراً مباشراً للعودة الروسية من ذاك البيات القسري، وهي خطوة قال مدفيدف أنه يأمل أن تعتبر في الغرب “إشارة أولى تفيد بأن بلادنا جاهزة للرد بالشكل المناسب على تهديد نظام الدفاع الصاروخي لقواتنا الاستراتيجية النووية”، والرسالة التي عززها بتهديده بنشر صواريخ إسكندر في كالننغراد وكراسنودار لاستهداف دروعمم، “إذا لم يتم فهم إشارتنا”.

هذه الإشارة سبقها الإعلان عن رحلة حاملة الطائرات “الأميرال كوزنتسوف” ترافقها المدمرة “الأمرال تشاباننكو” في طريقها إلى البحر المتوسط عبر البحار الشمالية مارة بالأطلسي. أي أنه، وكما كان لمنظومة كالينيغراد من مؤشر على عدم التسامح أكثر مع زحف الأطلسي شرقاً والمزيد من تطاولة الذي لم تسلم منه الحدائق الروسية الخلفية في دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، فإن لهذه الجولة البحرية الروسية ما يعني قرار بدء العودة إلى المنطقة العربية التي تمت مغادرتها بعيد الانهيار السوفييتي… الموقف الروسي مما يجري في المنطقةالعربية، والذي أفاد من الدرس الليبي، أو غلطة مدفيدف ومستشاره بوغدانوف بعدم التصدى لتدخل الناتو المبيت في مجلس الأمن، إنعكس جلياً آزاء رفض محاولات التدخل الغربي الجارية في سورية، والإصرار على عدم السماح بتكرار تلك الغلطة، وقبل هذا وبعده الموقف من التهديدات الغربية المستمرة لإيران…هل هي الحرب الباردة مرة أخرى، وهل هوسباق تسلح آخر؟!

الروس قطعاً لا يريدون لا هذه ولا تلك، لكن رياح الأولى قد بدأت فعلاً، اما الثانية، أي سباق التسلح، فان كان سابقاً قد شكل عبئاً إقتصادياً اثقل كاهل الإتحاد السوفيتي وكان من عوامل تسريع إنهياره، فأنه لاحقاً، في ظل هذا الإنحدار الإمبراطوري وهذه الأزمة الإقتصادية الأميركية، قد يرتد ليصبح معكوساً!

قد يقول قائل إنه لم يعد للمبادئ من كان في السياسة الروسية، والبراغماتية، والمُسفُّ منها أحياناً، هي سيدة مساوماتها. هذا صحيح، لكن مع عودة الروح الروسية تطورت هذه البراغماتية من الدونية اليلتسينية، وربما لسنوات بعدها، لتغدو مع عودة التعافي ونهاية بيات الدب الشتوي براغماتية المصالح… ومصالح روسيا الإستراتيجية وضروراتها هي تماما ما عبّرت عنها منظومة كاليننغراد وسياحة حاملة الطائرات “الأميرال كوزنتسوف”!