حنظلة
هنيئا لكم الحرية البلهاء. هنيئا لكم الديموقراطية المحجبة. هنيئا لكم العدالة الملتحية. هنيئا لكم التنمية الفقهية. هنيئا لكم الإنتصار على الذات، وهنيئا لكم الإنتصار على التاريخ.
حينما جاءت الرسالة بالوحي الإلهي على النبي، لم يؤمن بها إلا بضعة أنفار من قرابة الرسول وعامة المسحوقين. ومر عقد من الدعوة والصبر على الأذى قبل أن يصبح لها جمهور صغير. وجاءكم تشخيص الرسالة بالفقه، على أيدي أحبار أمريكا، فازدحمت بكم ساحة الإيمان حتى لقد آمن 64% منكم في غمضة عين. دهده… دهده… دهده !
هذه التهنئة موجهة إليكم سواء كانت نتائج الإنتخابات حقيقية أو مزيفة. وهي مزيفة حتما، ولكنكم قبلتم بالتزييف الذي أتى بها. وبالطبع لكم أسبابكم في الحالتين. وهي أسباب لا تخرج عن الإيمان المشخص لاحقا بإداة فقهية، أي الدينوية مزيفة، التي تعتمد على الجهل الشعبي المزمن بالدين، والميل إلى كل دجل فقهي يظنه المستلب دينا، لأن له لحية، حتى ولو لم تكن له عقيدة. فهنيئا لكم ما اردتم أو قبلتم.
هنيئا لكم لأن هذا خياركم، سواء بالسعي أو الموافقة، ولا حق لأحد أن يحاسبكم عليه. ولكن ما يحدث في هذا العالم المشترك يعطينا الحق أن نهتم بدون أن نتدخل في خيارات الشعوب، حتى لو كانت خيارات داخل دائرة تخلف الوعي، وضغط البلبلة التي يثيرها أسياد الدجل المحلي والعالمي، والتي تعصف بأحلام الجوعي بالشبع، والمقهورين بالحرية، والمتحفزين للثورة بالوعي. هذا العالم له الآن أصنامه التي لا تقاوم، وشياطينه الدولية التي تفرض حركته بتفاصيلها. تتحكم بالوعي، والغريزة، والوهم والحقيقة، وتصوغ منها إنسان العصر المهيأ لملاحقة السراب. وأنتم تلاحقون سرابكم الذي هيأوه لكم، بواسطة الساقطين والساقطات بالجسد والروح، الذين صنعوهم كما تصنع المواد البلاستيكية، ونشروهم في الخبز والماء والهواء والغرائز كما تنشر الجراثيم. هذا يخدع الناس بالفقه، وهذه تديثهم بالتعهر والغنج، وذلك أو تلك يديثون بالدولار أو المنصب أو جائزة نوبل، حتى لقد أصبح كل مثقف ثان خائنا لوطنه وكل ليبرالي ديوثا على الإطلاق. وانتشرت المباغي الإعلامية في مخادع الحياة اليومية للناس، حتى أصبح الكلام مادة للسان وحده، وحتى أصبح القوالون بذاءات صوتية يتمجد قياسا عليها الضراط، ونماذج بشرية تتعالى عن خستها الجرذان المرضة. والقوالات عورات مرفوعة كالأعلام، كاملة بخيرها وبشرها، كما اعتادت الحكاية في ألف ليلة وليلة أن تقول في من لم يلحق بآلاتهن الختان.
ما الذي حدث لهؤلاء الناس الذين اصبحوا في أسفل تقويم، ومن أين جاءت بهم أمريكا ليغيروا خلق الله في مشاعات الجهل والتخلف ؟ لن تجد اليوم أحدا يحمل شرفا، يتصدى لمنصب أو موقع اجتماعي. أصبح ذلك مقصورا على الخونة والدياييث الذين يجرّون على شعوبهم ويناشدون المجتمع الدولي أن يتدخل لإقامة الحق والعدل والدين والأخلاق في بلادهم بالقصف والقتل والتدمير والإحتلال وتمليك العملاء. فلماذا لا نهنيء كلا على ما يختار أو يظن أنه يختار، ما دامت الفوضى هي صاحبة المشهد، وما دامت الشياطين والأصنام هي صاحبة الغلبة ؟ هنيئا للشعب المصري ما اختار، أو يتوهم أنه اختار.
ترى هل للانتحار الجماعي دخل فيما جرى في مصر ؟ حينما تغلق أبواب الخلاص أمام الناس، ويفقد الباب الأخير – باب الثورة – جدواه، ويؤدي بسالكيه إلى الخواء، يصبح انتحار الوعي مخرجا من المعاناة.
تكالب العسكر والدينويون واللبارلة والمجتمع الدولي والعهد القديم والجديد وحولوا ثورة الشعب المصري إلى مهزلة تشبه مهزلة جحا مع حماره، حينما قفز إلى ظهره فتجاوز الظهر إلى الناحية الأخرى فقال : شبحان الله ! ( وكان من أصل تركي يلثغ بالسين والصاد شينا ) دخلنا من بلب وخرجنا من باب، فأشبحنا وأشبح الملك لله ! وأصبحت مصر، جوهرة التاريخ البشري وأم الدنيا، محمية خليجية تابعة للحضارة القطرية، أم حضارة السيلية وقناة الجزيرة. فلماذا لا يقرر الشعب المصري الإنتحار، ويستحق التهنئة على شجاعته ؟ ولعل الوجدان الجمعي للشعب المصري قد أدرك أن رهانه على الثورة، وهي باب الخلاص الأخير الذي لا باب بعده للخلاص، قد فشل. فقرر أن يسلم أمره لله، وهذا هروب حميد من العجز، ولكنه كان يعرف أن ممثلي الله على الأرض هم قساوسة الفقه الصهيوني الإسلاموي، فسلم أمره إليهم بالوكالة، معتقدا أنه سيحصل على الخبز من باب الصدقة والشحاته، فهما من أركان الإقتصاد الكنسي. ليلة يجوع وليلة يشبع ويمضي العمر. فهل يعتبر هذا انتحارا حميدا، أم موتا مجانيا ؟
إنسانيا هذا انتحار خالص. ولكن العيش مهما كان سبيله ووسيلته، أغلى من الإنسانية التي لا تعرف قوانين البيولوجيا عنها شيئا. وكما تقول الحداثة الليبرالية : كلب حي خير من إنسان ميت ! فإذا اعتمدنا هذه المقولة النيوليبرالية. يمكن اعتبار الإنتحار الجماعي لفقراء مصر انتحارا حميدا، ٍسيعقبه حد أدني من العيش كما يعتقدون. ولكن بالمشمش !
لقد وقعوا في فخ المرحلة. نعم ! سيستبدل دستور العدالة الإجتماعية بدستور الصدقة والكدية، وقد يصبح للشحاتين نقابات، وللصدقات وزارة، ولكن من قال لكم أن لصوص الكنيسة يختلفون عن غيرهم من اللصوص والمستبدين ؟ سوف ترون أيها الحالمون الشجعان. سيظهر من يؤجر أماكن الشحاتة أمام المساجد حسب التسعيرة، وستدفع العائلات المستورة رشوات مالية أو عينية مقابل مخصصات الصدقة، وتحرم منها العائلات غير المستورة، أي الشريفة. كل مرحلة ونظام وكنيسة لها لصوصها وطغاتها وقوانينها المدرة للدخل. وأشرس الحركات اقتصاديا في هذا العالم هي الحركات الكنسية الإسلاموية. فطفيليو التاريخ الإجتماعي الأكثر شهرة في التجربة، هم شياطين الدينوية الإسلاموية، لأنهم كانوا وزراء الداخلية – مثل حبيب العدلى – لدى الخلفاء، مهنتهم أن يبيحوا لهم بالفقه، ما حرم الله من دماء الناس وأرزاقهم وأعراضهم محاصصة بينهم. ورثوا الجشع والعدمية الأخلاقية عن أسلافهم لا يجدون دربا إلى المال إلا سلكوه. وتميزوا بأنهم شعوبيون، يكرهون الوطن لانه ليس وطنهم، ويكرهون العرب لأنهم يحكمونهم، ويكرهون الدين لأنه عربي، فسيطرت عليهم العدمية الإجتماعية، فاغتربوا في الدينوية دجلا خالصا، وارتزاقا، وتوسلا إلى المناصب، فأوغلوا فيه بالتحريف والإفساد،مستخدمين فقه الكهانة الذي اعتادوه في أديانهم السابقة، ليتلفوا جوهره بالإجتهادات الخبيثة والأساطيير والأحاديث المنحولة، حتى بلغوا فيه وفي أهله أكثر مما أملوا، واقتحموا بإقحام فقههم ثقافة المجتمعات العربية المسلمة، وحولوها إلى ثقافة غيبية وتسليمية عمياء تحيد العقل والفكر والإبداع ووعي الحركة والتجربة الدنيوية وكأن الذي خلق الدنيا والقوانين الطبيعية والعلمية ليس الله. وطاردوا العلم والفلسفة وفكر الحرية حتى أصبح الوطن العربي قطعة من الليل. واستدعوا ابناء عمومتهم من الفرس والترك والديلم والتتار فحكموا واستبدوا على كل ماهو عربي فأزالوه، وعاثوا في العالم العربي تخريبا، وأرسوا دعائم الفقه والفقهاء حتى أصبح تأسيسا كنسيا عابرا للتاريخ يدعو إليه الدجالين، ومرتزقة المراحل. وها هم اليوم يجدون في السيادات الإمبريالية من يستخدمهم في السياسة والعمالة والتآمر، ويدعمهم بالمال والسلاح والمرتزقة، ليكملوا الهدف الرئيسي المشترك بينهم وبين مستشرقي الغرب وقواه الإمبريالية لتصفية العنصر العربي وإزاحته من المشهد التاريخي عرقا وثقافة وحضارة، واستبداله بوجود دينوي خامل ذي ثقافة استشراقية وصهيونية تضمن لهم ولحلفائهم في العمالة من الخليجيين مكانا متدنيا في العولمة الإقتصادية. هؤلاء هم الدينويين، بالقطع واليقين التاريخي. هؤلاء هم الذي راهن عليهم فقراء مصر، وهم أشد خلق الله ابتذالا لخلق الله. يرون في شعوبهم وأوطانهم مصادر للنهب والابتزاز، لآنهم فئة غير منتمية إلا لفئويتها، ولا هدف لها إلا التحكم الذي ييسر لها النهب.
ستنتشر حوانيت الدعوة في الشوارع والحواري لشراء الأدعية، وكتب الفقهاء الحنابلة، وماء زمزم، وتراب الأمكنة المباركة، وتذاكر الحج والعمرة، وشراء ملابس الإحرام والإضحيات بالتحويل المالي، وإعلان التوبة، ودفع الكفارة، وتقديم الزكاة والصدقات، واستصدار الفتاوى الشخصية، والتطليق والمراجعة، والتجحيشة.
سيوضع مشروع للتنمية، حسب الأصول البنكية الإسلامية، التي تشارك الناس في أموالهم، بدل أن تأخذ منهم الربا. وستزدحم الإستثمارات المحلية والخارجية، على بناء المدن السياحية المعزولة، بعيدا عن المناطق المأهولة. وسيستوردون عمالتها الخدماتية والترفيهية من بلاد الكفر، ويصدرون فتوى فقهية بتحليل ريعها للمستثمرين المسلمين بالكفارة، حيث يلتزمون ببناء مسجد للمسلمين مقابل كل مدينة سياحية، ودارا لتحفيظ الحديث، وحنبلية وتيمية لدراسة آثار الرجلين.
سيصدر قانون للحريات العامة، ومنها حرية التعبير بشرط منع الإنتقاد والهجو والرمي والإتهام والإساءة إلى أولى الأمر أو مخالفة الشرع في رأي أو اجتهاد. كل شيء فيما عدا ذلك مباح في السياسة. والمخالف يغرم أو يجلد أو يسجن، أو يكفر عن ذنبه بالعمل العام مدة تتراوح بين شهور إلى سنة ؟ وكل ذلك حسب دستور البلاد.
أما الأعمال الثقافية والأبداعية فهي مكروهة أصلا في كلها، ومحرمة في جزئها، فلا فحش ولا ذكر للنساء فيما يخالف الشرع. والحديث في الجنس ممنوع بتاتا حتى في كتب الثقافة والطب والعلم والتاريخ. ولا يجوز ذكر الأعضاء الجنسية إلا بأسمائها المنصوص عليها في القانون. كما يمنع بتاتا في السرد الأدبي تصوير فقهاء الكنيسة الإسلامية في وضع غير لائق. وتقام من أجل ذلك لجنة عليا للرقابة مكونة من ستة من رجال الكنيسة وامرأتين محجبتين.
وسيكون دين الشعب المصري هو الإسلام، لأن الدولة تعد من الجمادات المعنوية ولا دين للجماد. أما غير المسلمين فهم أهل ذمة وموال، يجري فيهم ما أجراه عمر بن عبد العزيز.
ولكن هذا لا يهمكم في شيء. لا تهمكم السياسة ولا العلم أو الأدب أو الحرية، المهم هو اللقمة فقط، بعد أن تبين أن الثورة أتتكم بالإستبداد المضاعف والقتل والحبس على ذمة التحقيق. ولكن الأمر بعيد عما تظنون. فللأمور منطقها. وليس من المنطق أن تفشل الثورة، وتصوتوا للإستبداد، وتحصلوا حتى على ما كنتم تحصلون عليه من الخبز في زمن المغفور له مبارك. مبارك لم يكن حاقدا على شعبه، ولا يهمه شبع أو جاع. كان مجرد عميل ولص يسرق من المال العام. لم يكن صاحب مشروع اقتصادي فئوي يحلم بدستور مقدس للنهب مثل حركة الإخوان الدولية. كان لصا فردا سرق ثم اكتفى وترك لغيره أن يسرق، ولم يكن صاحب حركة نهب فئوي منظم مرتبطة بالعمالة للعولمة والسوق الدولية والشرق الأوسط الجديد، لا تؤمن بالوطن ولا بالشعب همها أن يوكل لها حكم مصر لتحولها متجرا وإقطاعا حركيا وفئويا.
ستجوعون أكثر من ذي قبل، لأن الأغنياء سيصبحون أكثر بدون أن يزداد الدخل القومي. وسيظل رزق الفقراء دولة بينهم وبين الإغنياء، ومال الأغنياء دولة بينهم فقط. فلا جديد تحت شمس الإستبداد. ولن يكون هناك جديد، ما دام النظام طبقيا ورأسماليا، فاللصوصية هي شرعته، سواء كان أصحابه قساوسة أو علمانيين أو ملحدين، فهذه لا شأن لها بواقع الحال وإنما هي تستر على واقع الحال.
وملخص القول، لقد اختار الشعب المصري أبشع أنواع الإستبداد، وهو الإستبداد الكنسي المرتبط بالسوق العالمية، أي أنه نفس الإستبداد الذي كان، ولكن بعصا أغلظ مجازة بالفقه، وبجشع أشد،لأنه مالي، ربحي قصير الأمد، فردي، يوظف ولا يستثمر، وينفق أرباحه على الإستهلاك البوهيمي المترف كما هو حال أموال النفط الخليجية، ينفق نصفها على الملابس والعطور وماركات النكاح المختلفة من زواج الأربع وزواج المتعة والتسرى بالراقصات والمغنيات والمذيعات، والزنا الصراح، والحبوب المنشطة، وبناء الأبراج التي يفترض أن تدل على عظمة بانيها من آل مديتشي في قطر، أو آل روكفلر في الإمارات، أو آل روتشيلد في الكويت، أو آل بوربون في السعودية. فهنيئا لكم خليجيتكم المدقعة يا أهل مصر. وهنيئا لكم النعم التي تحلمون بها في العهد الجديد الميمون. أنتم أشجع الناس على وجه الأرض ! دهده… دهده… دهده.