إستدلال تاريخي
كلمة إلى الحراك الشبابي في الأردن الشقيق
عادل سمارة
كثيرا ما يأخذنا الحدث السياسي اليومي فنتعاطى معه بعيداً عن سياقه التاريخي فنكون كمن قام بواجبه في اللحظة وأرضى ضميره دون أن يقول للآخرين، وخاصة الجيل الشاب ما هي المناخات التي أدت إلى الحدث نفسه.
نعم، نقف اليوم تماماً مع سوريا، فحين يكون التحدي بل الخطر على الوطن، لا معنى للتردد ولا معنى لتبديد القوة لصالح اي امر آخر. وللتحدي ضد سوريا بل العدوان عليها فرادة خاصة. سوريا الجزء الوحيد من الوطن العربي الذي تضمنت اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916 تجزئته من الداخل، ليصبح أربع قطع مفككة ومنها اجتزاء فلسطين لإقامة الكيان الصهيوني الإشكنازي فيها وأنظمة قُطرية في الأردن ولبنان. هذه الأجزاء الثلاثة مقتطعة من سوريا وسوريا مجتزأة من الوطن العربي الكبير.
هذا التذكير التاريخي هام جداً لأنه يفسر لنا لماذا بدأت الحركة القومية العربية باكراً في سوريا اي كردٍ طبيعي على تحدي التجزئة والتفتيت الذي قامت به الإمبرياليتان الفرنسية والبريطانية. كما يفسر لنا كذلك موقف سوريا تجاه الكيان الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين عام 1948 حيث تعرضت سوريا لعدوان متواصل من هذا الكيان وحتى اليوم.
في هذا الصدد علينا التنبه إلى خطورة الرواية الخبيثة عن الحروب مع هذا الكيان. فالكيان الصهيوني والأنظمة العربية التابعة له وللإمبريالية وكذلك الإمبريالية نفسها تزعم أن خسارتنا لهذه الحروب كانت جرَّاء صراع معه وحده. وهذا محض افتراء وكذب روَّجته أنظمة التبعية كي تبرر الاعتراف بهذا الكيان مؤكدة عجزها عن النضال. فهذه الحروب لم تكن مع الكيان وحده. كان هو في المقدمة، ولكن علينا التذكر أن اي مستوطن صهيوني ما كان ليصل فلسطين دون أن تحمله قوى الاستعمار الغربي الراسمالي، وأن هذا الكيان يحظى بتسليح وتمويل من جميع بلدان الغرب الراسمالي (أوروبا الغربية والولايات المتحدة)، وأن مختلف الحروب التي حصلت كانت مع هذا المعسكر الغربي كعدو وليست مع الكيان الصهيوني وحده. ولا نسوق هذا لتبرير الفشل ولكن لقراءة الحالة في سياقها التاريخي الفعلي. ولكي نؤكد أن الذين اعترفوا وسيعترفون بهذا الكيان تحت تبرير قوته المزعومة إنما هم ينفذون إملاءات الدول الغربية الرأسمالية التي يرتبطون بها.
من الهزيمة إلى الانتصار
المقاومة والممانعة
لم يكن النضال ضد الاستعمار الاستيطاني وضد المركز الراسمالي الغربي مسألة سهلة ولن تكون. ولكن مرة أخرى، دعونا نقرأ السياق التاريخي كي نرى التغيرات على لوحة الزمن وندرك قوتنا التي طالما حاولوا إخفائها وتجريدنا منها.
1- لقد تمكن العدو بأطرافه الثلاثة (المعسكر الإمبريالي والعصابات الصهيونية وأنظمة عربية هي بين بدائية وقبائلية وراسمالية تجارية وكمبرادورية) من اغتصاب ثلاثة أرباع فلسطين عام 1948.
2- وفي عام 1967 تمكن من اغتصاب بقية فلسطين (التي كانت في عهدة الأردن، وأجزاء من سوريا ومصر ). وفي تلك الحرب درجت مقولة في الكيان الصهيوني تفوح منها العنصرية والتبجح مفادها: “دخلت الدولة حرباً وخرجت منها دون أن ندري” بمعنى أنها كانت حربا سهلة. ولم تكن تلك الحرب سوى حرباً مشتركة كان الكيان مقدمتها.
3- ولكن عام 1973 تمكنت سوريا من استعادة الجولان ووصول شواطىء بحيرة طبريا وتمكن الجيش المصري من تحرير سيناء. ولكن خيانة حاكم مصر آنذاك أنور السادات قد غيرت مجرى الحرب لتصبح نصف انتصار. فقد سمح بدخول الجيش الصهيوني من ثغرة الدفرسوار إلى مصر وأوقف القتال ليبقى الجيش السوري وحده في مواجهة أطراف العدو الثلاثة. كان هدف السادات والأعداء الآخرين تحويل هذه الحرب إلى مدخل للتسوية السياسية مع العدو تُفضي للاعتراف بالكيان الصهيوني وقد تجلى ذلك في معاهدة كامب ديفيد حيث اعترف حاكم مصر بالكيان وتم وضع الأسس الخبيثة لحكم ذاتي فلسطيني جوهره اعتراف قيادة منظمة التحرير بالكيان. علينا التأكيد هنا أن الهدف الرئيس كان ولا يزال هو شطب حق العودة والاعتراف بالكيان كي يندمج في الوطن العربي اندماجا مهيمناً.
4- وفي عام 1982 صمدت المقاومة الفلسطينية والحلاكة الوطنية اللبنانية في بيروت 82 يوماً أمام حصار العدو وهي فترة طويلة بكل المقاييس مما يؤكد قدرة أمتنا على القتال في ظروف غير متكافئة، ولكن تلى ذلك خروج قيادة المنظمة إلى تونس تمهيداً للخضوع لشروط الاعتراف بالكيان.
5- وفي عام 2000 هُوم العدو وطرد من جنوب لبنان.
6- وفي عام 2006 هُزم في لبنان مرة أخرى على يد المقاومة وبدعم من سوريا وإيران.
7- وفي عام 2008-9 لم يتجرأ على دخول غزة.
واليوم يحسب العدو الف حساب إذا ما قام بأية عربدة. إذن بين 1948 وبين اليوم نرى تغيرات جذرية وحادة في صورة الصراع ومجرياته، ونرى انتزاع أمتنا زمام المبادرة من العدو وتحديداً معسكر المقاومة والممانعة.
كانت سوريا حاضرة وفاعلة في مختلف هذه التطورات. ومن هنا استهداف سوريا.
تشويه سوريا
يتمترس أعداء سوريا وأعداء القومية العربية وراء الزعم أن سوريا لم تحرر الجولان وأنها وافقت على المبادرة العربية التي تتضمن الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي. وهنا ايضا يحضرنا التاريخ مرة جديدة. فإذا كان العدوان على اي قطر عربي هو ثلاثي بامتياز، فهل بوسع قطر عربي بمفرده رد هذا العدوان؟ لماذا نقع قي سقطة إعفاء معظم الأنظمة العربية من واجب التحرير، لا بل إن بعضها يقف في معسكر العدو. ألم تقف ثلاثة أنظمة عام 2006 علانية ضد المقاومة اللبنانية وخاصة حزب الله ؟ هل تجرأت الدول العربية التي تعترف بالكيان على بناء حجر واحد دمره عدوان 2008-9 على غزة؟ أكثر ما قامت به دويلة مثل قطر هو إرسال أموال بهدف الفساد وكرشوة كي يسكت عن خيانتها من ارتشى، فهي مساعدات غير إنسانية إنها مساعدات هدفها إغلاق الأفواه بالنقود للتغطية على جريمة الاعتراف بالكيان.
لقد استعاد نظام السادات صحراء سيناء شكلياً بينما جوهريا ما تزال تحت سيادة الكيان الصهيوني إضافة إلى اعتراف مصر بالكيان وهو الاعتراف الذي مهد لاعتراف سلطة الحكم الذاتي بالكيان وكذلك النظام الأردني. فهل يستحق الدور الشكلي لمصر في سيناء كل هذه التنازلات؟ أم أن كل شيء مخصص لتبيثت هذا الكيان؟
ان استرداد الجولان واجب سوريا، وهذا صحيح ولكنه واجب كل العرب، كما ان استرداد فلسطين هو واجب كل العرب. من قال أن الفلسطينيين في الضفة الغربية يرفضون عودة الأردن عبر عملية تحرير هذه الأرض المحتلة؟ ألم يحن الوقت لموقف محدد وواضح بأن الأرض المحتلة هي عربية لأي عربي يحررها، فقط يحررها سواء جاء من جزر القمر أن من الكرك. لكنها لن تقبل باسطورة الوطن البديل ولا بصفقات التسوية أو “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
لقد رفضت سوريا استعادة الجولان عن طريق التنازل عن فلسطين التي هي جنوب سوريا. ألا يوضح هذا لماذا استهداف سوريا؟ اليس تحرير جنوب لبنان هو خطوة باتجاه الجولان. ومع ذلك سوريا لا تكذب بل تؤكد أنها مع استعادة الجولان استعادة حقيقية لا تفريطية.
وافقت سوريا على المبادرة العربية، وكان ذلك مناورة دبلوماسية كي لا تدخل في صراع مع عرب أميركا لا أكثر. ولو كانت سوريا مع الاعتراف بالكيان حقيقة، فما الذي يمنعها من القيام بذلك. لقد مارست سوريا مناورة متواصلة جوهرها القبول شكلا بالتفاوض والرفض فعلا للاعتراف.
يأخذون على سوريا خطيئة الدخول إلى لبنان 1976 والمشاركة في العدوان على العراق. ولسنا اليوم ولا في اي يوم في مجال حساب الخطا والصواب، بل في سياق قراءة هادئة ومخلصة للتاريخ. وهي القراءة التي تؤكد أن سوريا ليست جنة الله على الأرض ولكنها البلد الذي ما زالت التسوية تتكسر عند قدميه. فهل نُعدمه على أخطاء سابقة أم نبني على ما كرَّس ؟
وجه المرحلة وثلاثة ضوابط
من الخيانة بمكان أن يقوم البعض في لحظة استهداف سوريا الوطن بطعنها من الخلف بدل أن يدفعها إلى الأمام. ما نريده من سوريا هو ما نريده لسوريا. نريد من سوريا:
· مواصلة موقفها بعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني
· الوقوف بوضوح على الطريقة الكوبية في مواجهة الغرب الراسمالي المعولم
· مغادرة اقتصاد السوق.
· تطبيق خطى إصلاحية جذرية من بينها حكومة وحدة وطنية ودستور وانتخابات برلمانية جديدة.
· مواصلة الوقوف في صف المقاومة والممانعة.
ولكن السؤال الهام ايضاً الآن هو: كيف وما هي البوصلة التي تدلنا على الطريق الصحيح؟ هذه البوصلة ثلاثية الأبعاد، والثلاثة لا تنفك عن بعضها:
أولاً: ما تزال فلسطين هي جامع الأمة العربية. وعليه، فإن معيار الإلتزام هو عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني. ولهذا الاعتراف قصة طويلة وخطيرة. لقد اعترف بالكيان أكثر من نظام عربي حتى قبل إقامته في فلسطين وهو اعتراف خبيث لم يلحقه الاعتراف الشكلي، هذا ما فعله النظام السعودي بعقيدته في الدين السياسي اي الوهابية، وكذلك قطر والإمارت. وقد لحق بهذه الأنظمة العربانية الما قبل تاريخية فريق من الشيوعيين الفلسطينيين والعرب بعد عام 1948. ولاحقا اعترفت بالكيان أنظمة حكم عربية تقودها طبقة الراسمالية الكمبرادورية.
واليوم، فإن الغرب الراسمالي يحاول استباق الزمن قبل أن يتمكن قوس الممانعة والمقاومة من حسم الساحة، يحاول تسليم أكثر من قطر عربي للدين السياسي شريطة الولاء له والاعتراف بالكيان. هو يحاول حسم المعركة ولكن هذا ليس شرطاً أن ينجح.
لذا، تتعرض سوريا لهجمة من طراز لا سابق له وبهدف تركيعها للاعتراف بالكيان الصهيوني اي شطب حق العودة. لا تقتصر هذه الهجمة على الغرب باجمعه ولا حتى على أنظمة التبعية وخاصة دويلة قطر، بل هناك قوى الدين السياسي التي امتطت الحراك العربي، فهي تبحث عن مبررات دينية للاعتراف بالكيان الصهيوني. إنها ترسل إشارات خبيثة ومسمومة ثم تتراجع عنها لاختبار رد الشعب العربي ولتطبيعه على الاعتراف. فمنها من يزعم أنه سيقوم بهدنة مع العدو على طريقة صلح الحديبية ومنها من يتخفى وراء ما تسمى المقاومة الشعبية بهدف هجر الكفاح المسلح، ومنها من يختفي وراء المصالحة مع سلطة الحكم الذاتي (أوسلو-ستان)…الخ.
ونحن نقول بدورنا، نتمنى لهذه القوى أن تعود إلى صوابها وأن لا تتورط في هذا المأزق الخطر. وفي حالة غطت نفسها باي تبرير فالتاريخ القريب سوف يكشفه. فلا داع أن يثرثر مؤيدوا هذه المحاولات الخبيثة لا داع لأن يثرثروا كثيرا من أجل تغطية ما لا غطاء له.
ثانياً: الموقف من الوحدة العربية. فكل قوة أو طرف لا يؤمن بالوحدة العربية وبالقومية العربية علانية هذه الأيام هو في المعسكر الآخر. واي حديث بديل بزعم الوحدة الإسلامية هو هراء خطر. اية وحدة مع تركيا التي تقود العدوان على سوريا؟ ثم أين هي الدول المسلمة التي تقلق على وحدة المسلمين والتي لا تدور في فلك العدو الغربي الراسمالي. إن وحدة الإسلام مرتكزة على الوحدة العربية بما ان الأمة العربية هي أمة الإسلام. وغير هذا هو تفكيك للإسلام باسم الإسلام. لن تبقى الأمة العربية مهيضة الجناح، ولا ابالغ إذا قلت لكم انها تقارب البدء بالهجوم.
ثالثاً. الموقف من العرب المسيحيين والشيعة. فأي عربي لا يعتبر أن المسيحيين والشيعة هم عرب بكامل الحقوق والواجبات هو متآمر على الوطن والأمة. هذا ما يجب ان ندركه إثر العداء من الدين السياسي ضد حزب الله والصمت على ذبح البحرينيين.
إن هذه المعايير الثلاثة هي التي تميز الخبيث من الطيب. وهي نفسها التي تتقيد بها سوريا وهي نفسها التي تدفعهم لمحاولة تدميرها.
بقي أن نقول كلمة في ثلاثة أمور:
الأول، إن الولايات المتحدة في حالة التراجع لتعود قوة عظمى وليست القوة العظمى. وسوف تصطف إلى جانب الدول الأوروبية من حيث القدرة العدوانية والاقتصادية، وأن قطبيات جديدة تطلع وخاصة روسيا والتي بيمينها ويسارها تتجه ضد الغرب الراسمالي.
والثاني، إن الوحش الإمبريالي لن يتوقف عن العدوان وقد يقوم بأعمال انتحارية كما فعل في ليبيا. فبعد انهاكه في العراق لجأ العدو إلى شكل جديد من العدوان هو الهيمنة الثالثة، أي عدوان على بلد معين على أن يكون العدو الغربي (الناتو) في الجو، واستخدام عملائه ومأجوريه على الأرض ضمن عملية تحالف غير مقدس من ثلاثة اتجاهات مخروقة : الدين السياسي والقاعدة واللبراليين.
هذا ما حاوله الغرب وسيحاوله ضد سوريا، ولكن يبدو أن حظوظه تعيسة.
والثالث، إن الحراك العربي الحالي رغم سيولته سوف يسفر عن تغيرات لصالح المقاومة في أكثر من قطر عربي. وإن الإفلات من تحت عباءة الولايات المتحدة صار أمراً ممكناً. لن نتنبأ هنا، ولكن ما يقرر في النهاية هو الشعب.