د. منذر سليمان
مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
واشنطن، 10 ديسمبر 2011
المقدمة:
التطورات الاخيرة في كل من سورية وايران كانت في صدارة تغطية مراكز الفكر والابحاث الاميركية، لا سيما قيام سورية اجراء مناورات جريئة وغير مسبوقة بالذخيرة الحية شملت اسلحة صاروخية بعيدة المدى، والتي اعتبرت اميركيا بأنها رسالة موجهة الى كل من تركيا والعدو الصهيوني؛ كما ان نجاح ايران في اسقاط طائرة تجسس اميركية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية فوق اراضيها دون المساس بصلاحيتها وصيانة عمل اسرار تقنيتها العالية أتت لتعمق الصخب الاعلامي المحتدم بين الدولتين.
وسيخصص التحليل الدوري المتضمن مناقشته لسلسة الحرب الالكترونية الدائرة بين ايران والولايات المتحدة، في ضوء تزايد وتيرة اغتيالات الكفاءات العلمية الايرانية، وانتشار فيروسات الكترونية في معامل ايران النووية، والتفجيرات الغامضة التي وقعت في عدد من المواقع العسكرية الايرانية، ليلقي الضوء على ماهية ونوعية الحرب الالكترونية المقبلة في القرن الواحد والعشرين. ونستدل من التاريخ الماضي القريب لنحو 70 سنة خلت الذي يصادف هذا الاسبوع هجوما يابانيا شاملا على اهداف عسكرية اميركية استراتيجية في مياه المحيط الباسيفيكي، للخوض بما اثبته التاريخ من اخطاء ارتكبتها اليابان آنذاك والتعرض الى التطورات التقنية الحديثة في الترسانة العسكرية لشن الحروب والتي تشبه الى حد كبير التفكير العسكري الاميركي السائد منذ نحو 200 عام.
ملخص مراكز الابحاث
تناول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS سلسلة التفجيرات والاغتيالات في ايران قائلا “في اثناء اصرار المسؤولين الايرانيين على ان سبب التفجيرات يعود الى حوادث مهنية، فان تلك الادعاءات لا تجد لها صدى خاصة مع الاخذ بعين الاعتبار عنصر التزامن المشترك بينها جميعا. وعلى الرغم من ان التفاصيل المتعلقة بتلك الحوادث غير واضحة، الا انها تشير الى جهود اطراف خارجية فاعلة ونشطة بغية عرقلة البرنامج النووي والصاروخي للبلاد.”
ومن زاوية متقاربة، تناول مركز الدراسات الدفاعية Center for Defense Studies الموضوع لناحية احتواء وردع ايران النووية. وقال “نرى ان انتهاج سياسة الاحتواء والردع خيارا محتملا للولايات المتحدة لمواجهة ايران بعد دخولها النادي النووي، الا انه لا يسعنا مشاطرة حماس البعض وعلى نطاق واسع (لتبني الخيار) في عدد من دوائر صنع القرار. وفي الواقع، ان المضي في تبني الاحتواء والردع يبدو مرده انه يستند على فرضية رئيسة لعدم توفر ارادات تحليل المخاطر والتكلفة المذكورة. فالاحتواء والردع ربما هما الافضل من بين اسوأ الخيارات. ومع ذلك، لا ينبغي ان يعني انهما ينطويان على مغامرة ضئيلة او تكلفة متدنية. وفي الحقيقة فان الامر لم يعد خيارا لتبنيه بل اضحى نمطا حياتيا.”
اما مجلس العلاقات الخارجية الرصين Council on Foreign Relations فقد اعرب عن شكوكه بأن تؤدي اجراءات العقوبات المفروضة على البنك المركزي الايراني الى سياسة ضاغطة على ايران لمعاقبتها على برنامج اسلحتها النووية. وقال “تلك الخطوة من شأنها تقليص الامدادات النفطية العالمية وارتفاع الاسعار. الحيلولة دون التعامل التجاري الدولي مع البنك المركزي الايراني، القناة الرئيسة للواردات النفطية، من شأنه خفض مستوى الصادرات النفطية الايرانية. وقد حذرت طهران بان اي جهد يمس صادراتها النفطية سيؤدي الى مضاعفة سعر النفط الخام ليصل الى نحو 250 $ للبرميل. علاوة على تصريحات المسؤولين الاميركيين الذين اعربوا عن شكوكهم في فعالية تلك العقوبات على الصادرات الايرانية للصين، الشريك الاكبر لنفطها.
اما مركز السياسة الدفاعية Center for Security Policy فقد تناول موضوع الانتخابات الاخيرة في مصر وما وصفه باخفاقات الادارة الاميركية هناك. وقال “العمى الارادي لادارة (الرئيس) اوباما لحقيقة توجهات الاسلاميين ونيتهم لفرض احكام الشريعة على حساب الحرية قد اسهم – كما كان متوقعا – في نجاح ذاك التوجه. اما وان استمر الوضع، فالمخالفات المشابهة ستؤدي ببساطة الى استبدال سوء الحكم الاستبدادي لرجال الدين بسوء حكم واستبداد العلمانيين، مما يأتي بالضرر على الشعب الذي سيتأثر على الفور، وفي سياق الامور، على اميركا كذلك.”
بينما رأى معهد هدسون Hudson Institute ان الانتخابات تشكل ارضية للمضي قدما في الانتخابات المستقبلية، مع الاشارة الى ضعف مشاركة المرأة والاقباط بين المنتخبين، ومتسائلا عن نسب المشاركين للكتل الانتخابية المختلفة.
وجاءت سورية من نصيب اهتمامات معهد كارنيغي Carnegie Endowment، اذ استضاف مدير مكتبه في بيروت، بول سالم، عبر اتصال متلفز في جلسة نقاش. وقال سالم انه على الرغم من انتشار الممظاهرات السورية واتخاذ العقوبات من قبل الجامعة العربية وتركيا واوروبا، فان نظام الاسد لا يبدي اية اشارة للتراجع. واوضح ان ما ستؤول اليه الاوضاع في سورية سينعكس بشكل كبير على باقي دول المنطقة، اما وان قدر للحكومة السقوط، حينها ستكون ضربة استراتيجية كبرى لايران منذ الحرب الايرانية – العراقية.
ومن الطبيعي ان يحشر معهد واشنطن الصهيوني Washington Institute أنفه في سورية، متناولا “جيش سورية الحر.” وزعم انه بخلاف مليشيا المتمردين الليبيين فان تلك القوة مشكلة من الجنود السوريين الحرفيين الفارين من الجندية. وقال “لن يستطيع نظام الاسد الاستمرار دون المضي بالقتل، بينما غيّر جيش سورية الحر قواعد اللعبة من تلك التي كان بوسع النظام المضي بقتل المواطنين اينما شاء دون تكلفة، الى مرحلة يواجه فيها معارضة مسلحة ويتحمل فيها بعض الخسائر. الضغط المستمر على القوات الحكومية بالترافق مع مزيد من الضحايا المدنيين من شأنه تحفيز فرار عدد اكبر من صفوف الجيش، والتي ستؤدي بمجملها الى تصعيد القتال. وبما ان دور جيش سورية الحر في تزايد فمن شأنه ان يؤثر على ما ستؤول اليه الاوضاع في سورية، ويتعين على الولايات المتحدة وشركائها الاتصال بعناصره والتعرف قدر الامكان على ماهية المجموعة. اما التساؤلات بشأن طبيعته وقدرته على التحول الى قوة مسلحة ودور الاسلاميين فيه سيكون بالامكان التوصل الى حل بشأنها عبر مثل تلك الاتصالات والعمل الاستخباراتي. ان أتت النتائج بالايجاب، سيكون من الطبيعي دعم جيش سورية الحر اينما توفر الدعم الخارجي عُدّة وفعالية. تقديم السلاح والارشاد والتدريب والمال سيكون ممكنا من خلال القنوات السرية، ان لم تتوفر قنوات اخرى.”
وتناول معهد كارنيغي Carnegie Endowment ايضا مسألة دور تركيا معربا عن تساؤله فيما اذا كان بالامكان تعميم نموذجها الديموقراطي في المنطقة التي تمور بالحكم الاستبدادي. وقال “الدور التركي كنموذج يقتدى به للديموقراطيات المتشكلة توفر لها فرصة لتنسيط شراكتها مع الغرب. وما هو افضل من الوضع المتبلور لتهدئة مخاوف (البعض) من تنامي احادية السياسة الخارجية التركية لحمل تركيا على استثمار القوائم متعددة الاطراف الراهنة في برنامج شامل للتغيير في عموم العالم العربي؟ اتساق الدور التركي مع الغرب لتعزيز الديموقراطية وسيادة القانون في العالم العربي من شانه ان يؤدي حتما الى تقديم الدليل بأن النموذج التركي ليس هاما لسياسة المنطقة فحسب، بل يشكل نموذجا ناجحا على المدى الابعد.”
وعرج معهد بروكينغز على استشعار الرأي العام العربي وما يرغب في رؤيته من وظيفة الحكومات. وقال “في الحقيقة هناك دلائل جمة أتت عبر الاستطلاعات التي اجريت من قبلنا ومن قبل آخرين ايضا تشير بان الفجوة تتعمق بين العامة والحكومة. علاوة على تدني اواصر الألفة مع اركان الدولة، التي كانت احدى مقومات هوية الدولة مع الحكام الذين لا يزالون في اماكنهم طيلة فترة حياة عدد كبير من المواطنين، من ناحية، وكعنصر من عناصر الآلة الاعلامية العابرة للاوطان التي عززت الشعور بالهوية الاسلامية عبر الحدود من ناحية اخرى. عند بدء الثورات العربية في تونس ومصر، كان عنصر المفاجأة في مدى الحنق الشعبي واهدافه اقل وطأة من قدرة الجمهور لتحويل ذلك الغضب الكامن الى تعبئة جماهيرية فعالة بوسعها تشكيل تحدي للانظمة، خاصة في ظل غياب منظمات فاعلة او قيادات متمرسة. وفي ذات السياق، تدل التوقعات ان النظرة الى امكانية حدوث ثورات في العالم العربي وتصدر الاسلاميين لقيادتها الذين يعدون الافضل تنظيما، وليس من قبل الليبراليين الذين تصدروا مركز القيادة.”
والى سورية مرة اخرى، تناول مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations الخيارات المتاحة امام الولايات المتحدة لاسقاط الرئيس السوري. وقال “حتى وان لم يكن بالامكان الاعتماد على صدور قرار من مجلس الامن الدولي، (فحلف) الناتو والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي باستطاعتهم جميعا توفير غطاء لتدخل متعدد الاطراف. ففي كوسوفو، على سبيل تنشيط الذاكرة، لم يتوفر تفويض من مجلس الامن الدولي – ومضى (الرئيس) بيل كلينتون بالتدخل. وعلى الرغم من ان العمل احادي الجانب من قبل اميركا غير مرحب به ضد سورية، هناك حاجة لزعامة اميركية لتحفيز وبلورة تحالف للعمل الفعال. وهذا يعني ان على الرئيس اوباما ان ينحى جانبا اية اوهام حول الرغبة في بقاء الاسد بالسلطة وبذل ما هو مطلوب من جهد للاطاحة به فورا، مما سيخفف حينها من الاثار الجسدية والنفسية على الشعب السوري وتهيئة الاجواء لاعادة بناء سورية حرة.”
التحليل:
تصاعد اشكال الحرب السرية الاميركية – الاسرائيلية على ايران
بالنظر الى تزامن عمليات الاغتيال لكفاءات مهنية وعلمية ايرانية مع انتشار الهجوم الالكتروني (الفيروس) في اجهزة التحكم الايرانية بعملية تخصيب اليورانيوم، والانفجارات الغامضة حديثا في منشآت عسكرية حساسة، تقود المرء الا الاستنتاج بأن ايران تواجه اعمالا عدائية عالية الوتيرة.
في ظل انشغال التكهنات الدولية حول امكانية قيام الولايات المتحدة او اسرائيل شن هجوم جوي على المرافق النووية الايرانية، يمكننا القول ان طرفا ما قد اتخذ قرارا بشن حرب وفق مواصفات القرن الحادي والعشرين على الجمهورية الاسلامية؛ وعوضا عن استخدام الاسلحة التقليدية من قنابل وطائرات قتالية وصواريخ فان الاسلحة المعتمدة والمفضلة هي القيام بحملات اغتيال منتقاة وشن حرب في حيز الفضاء الالكتروني والقيام باعمال تخريب في الداخل.
ويندرج الانفجار الذي وقع في منشأة عسكرية للوقود الصلب للصواريخ، يوم 12 تشرين2 / نوفمبر، ضمن سلسة التفجيرات الغامضة التي شهدتها عدد من المنشآت العسكرية الايرانية في العامين الماضيين. الا ان الانفجار الاخير يعد من اخطرها لا سيما وانه اسفر عن تدمير شبه شامل للأبنية ومقتل 17 فردا، من ضمنهم مؤسس البرنامج الصاروخي الايراني، الجنرال حسن طهراني مقدم.
الا ان الامور لا تنتهي عند هذه النقطة، ويسود اعتقاد بين عديد المهتمين بالشأن الايراني ان خبراء كمبيوتر اميركيين وربما بالتعاون مع نظراء لهم من الاسرائيليين استطاعوا التسلل الى شبكة الكمبيوتر الناظمة للمنشآت النووية الايرانية عبر فيروس ستكسنت الذي صمم من اجل توجيه اجهزة الطرد المركزية لتخصيب اليورانيوم للدوران بسرعة قصوى وتدميرها. كما اسفرت عمليات الاغتيال عن مقتل اثنين من اهم الاخصائيين في مجال الفيزياء النووية، وجرح آخر باستخدام عبوات ناسفة تلتصق بالسيارات المستخدمة.
وفيما يخص فيروس ستكسنت، فان التصميم فائق القدرة يشير الى مهارات عالية لاخصائيين ومهنيين يعملون لحساب وكالة الاستخبارات المركزية رسموا نطاق عمله بعناية لاستثمار اربعة ثغرات تعد مواطن ضعف منفصلة متأصلة في برنامج ويندوز المستخدم على نطاق واسع للاختراق والسيطرة على اجهزة التحكم الصناعية المصممة من قبل شركة سيمنز الالمانية. الامر الذي يؤشر على قابلية الاختراق واحداث عطب لبرامج الكمبيوتر التجارية التي تتحكم بادارة المصانع المختلفة المنتشرة عبر العالم. وحذرت عدد من الدول ان وجهة الحروب القادمة ستتضمن شن هجمات على المنشآت الصناعية والاقتصادية للخصوم، ومن ضمن الاهداف المرشحة مفاعلات ومحطات توليد الطاقة وانابيب نقل النفط واجهزة التحكم بالطيران.
وفي هذا الصدد، تلقت الولايات المتحدة ضربة كبيرة مؤخرا بنجاح ايران في السيطرة والتحكم بطائرة تجسس عالية التقنية دون طيار تعمل لحساب وكالة المخابرات المركزية، واستطاعت النيل منها والهبوط بها على اراضيها وهي بحالة سليمة الى حد كبير، وعرضتها امام العالم الذي يرى هذا الجيل من طائرات التجسس لأول مرة. الامر الذي يدل على عزم الولايات المتحدة وربما دولا اخرى للنيل من ايران وشل قدراتها التقنية والعسكرية؛ ومن بينها الكيان الصهيوني بالطبع اضافة لدول غربية اخرى. ومن الطبيعي ان يسعى الكيان الصهيوني لشل البرنامج النووي الايراني، استنادا الى التصريحات الاعلامية المتعددة بنيته شن هجوم عسكري يحقق ذات الهدف؛ في حين تنظر الدول الاخرى التي تخشى تطور البرنامج النووي الايراني ان شن هجوم يستهدفه أمر مرحب به. وعند تحقق هذا الامر، تنظر دول مجلس التعاون الخليجي والدول الاوروبية المختلفة ان ايران الكسيحة بعد تعرضها للهجوم لن تستطيع ممارسة النفوذ المرغوب في المنطقة والمضي لتسديد ضربة قوية لمحور المقاومة واضلاعه الاخرى في سورية ولبنان وفلسطين. ومما لا شك فيه ان تركيا ستجني فائدة كبرى عبر تحجيم النفوذ والدور الايراني ايضا.
وبالعودة لفيروس ستَكْسْنت، تشير دلائل متعددة الى ان الامر تطلب تضافر جهود عدة جهات دولية وتسخير قدراتها التقنية مجتمعة للتوصل اليه. فالولايات المتحدة، وعلى لسان منسق شؤون الحد من الاسلحة واسلحة الدمار الشامل التابع للبيت الابيض، غاري سامور الذي قال “نشعر بالسعادة انهم (الايرانيون) يواجهون بعض العقبات في اجهزة الطرد المركزية واننا – الولايات المتحدة وحلفائها – نعمل كل ما بوسعنا من اجل مفاقمة المسألة لديهم.” وتجري تكهنات حول مشاركة دول اخرى في جهود تطوير الفيروس المشار اليه، من بينها الاردن وفرنسا.
وفي تطور بارز، نشرت صحيفة واشنطن بوست الاميركية مؤخرا تقريرا حول الاختراق الالكتروني للمنظومة الاميركية، واعتراف الاجهزة الامنية الاميركية بنجاح عدة محاولات لاختراق اجهزة الكمبيوتر التابعة لوزارة الدفاع الاميركية، والمصنفة سرية جدا، متهمة روسيا القيام بذلك. واضافت ان المحاولة المذكورة جرت عام 2008 ووصفتها بانها “من اشد الاختراقات خطورة لنظم اجهزة الكمبيوتر السرية.” ولم توضح الصحيفة، نقلا عن مصادر أمنية رفيعة المستوى، مدى حجم ومدة الاختراق، سوى الاشارة الى ان الفيروس اخترق كافة الاجهزة والمعدات الفردية المتصلة بالشبكة السرية واستنساخ كل ما اتى من برامج وتصاميم هندسية لنظم عسكرية سرية وارسال المعلومات الى جهة غير محددة. واردف التقرير ان الفيروس كان فعالا “لعدة اشهر” داخل الشبكة العسكرية المغلقة، ومن ثم استطاع اختراق اجهزة “احدى دول الناتو” العسكرية دون تحديد الدولة او الهيئة المعنية – ويعتقد انها فنلندا. وتبين لاحقا لوكالة الامن القومي ان الفيروس لم يحصر نشاطه في الشبكات السرية المستخدمة من قبل وزارتي الدفاع والخارجية الاميركيتين، بل اخترق ايضا نظم الاتصالات الاستخبارية عبر العالم.
خطورة الأمر اضطر السلطات الامنية العسكرية الاميركية الى اعادة هيكلة اجراءاتها الأمنية والوقائية و”استحداث هيئة عسكرية مختصة بتعزيز حماية شبكات الكمبيوتر” والحد من اعمال القرصنة في الفضاء الالكتروني.
حرب من اصدار القرن 21
من المفيد العودة قليلا الى الاستراتيجيات الحربية السائدة ابان الحرب العالمية الاخيرة لتدلنا على الحلقات المركزية في الخطط الهجومية. اذ طرأ تطور ملحوظ على مبدأ الاستهداف الاستراتيجي، الذي انشأه الادميرال الياباني ياماموتو، والذي يصادف هذا الاسبوع الذكرى 70 لدخوله حيز التطبيق، ويعرف بالغارة اليابانية المتزامنة على القوات البريطانية والهولندية والاسترالية والاميركية ومراكزها الاستراتيجية في المحيط الهادىء، واشهرها الاغارة الجوية الشاملة على مرفأ بيرل هاربر في جزيرة هاوايي. كان ياماموتو ينوي القضاء التام والمبكر على خطوط الاتصالات والنقل الحيوية للاسطول الاميركي في المحيط الهادىء. وعلل ان نجاح المهمة سيؤدي الى السيطرة التلقائية على المنشآت الحيوية الاخرى في المحيط، وهو ما جرى بالفعل لبضعة أشهر عقب الغارة المذكورة.
وحذر ياماموتو من الابقاء على فاعلية خطوط الامداد البحرية من والى استراليا وبانها ستثبت فشلها على المدى الطويل وعدم قدرتها النيل من المنشآت الصناعية الاميركية. واشتهر ياماموتو بتردده للدخول في حرب مع الولايات المتحدة، وهو الذي تخرج من جامعة هارفارد المرموقة، نظرا لتفوق الآلة الانتاجية الاميركية على نظيرتها اليابانية.
وتقودنا هذه الاضاءة التاريخية الى القول ان مبدأ شن الحرب المحدودة، كما يجري حاليا مع ايران، قد استفاد من تحذيرات ياماموتو للقيادة الامبراطورية العليا؛ اذ ان الحرب الدائرة راهنا تستهدف منشآت حيوية في برنامج ايران النووي، وخاصة طاقم العلماء والاخصائيين المشرفين على تنمية وتطوير البرنامج النووي.
ومنذ عام 2007، قضى اربعة من كبار العلماء العاملين في البرنامج النووي الايراني عبر استهدافهم بالقنابل او رصاص الاغتيال او التسمم، وبقيت الضحية الخامسة تحت العلاج جراء التفجير بالسيارة. فالضحية الشابة الاخيرة، داريوش رضائي نجاد، 35 عاما، اطلق النار عليه في رقبته وهو ينتظر طفلته الصغيرة لتخرج من مدرسة الروضة. وادعى مصدر مقرب من المخابرات الاسرائيلية ان رضائي نجاد كان مختصا بتطوير صاعق نووي وانه شوهد يوميا في مختبر نووي شمالي البلاد.
وكما كان استهداف خطوط الاتصالات والنقل حيويا في الحروب السابقة، استبدلت حديثا بشبكات الكمبيوتر. واستهدف فيروس ستكسنت حلقة الانتاج الحيوية في سلسلة من الصناعات لتدوير اليوارنيوم الطبيعي الى يورانيوم مخصب لاستخدامه في عبوة نووية. وادى الفيروس ليس وقف الانتاج فحسب، بل احدث تدميرا خطيرا في اجهزة الطرد المركزية التي تم شراؤها من الدول الغربية.
كما شهدت مرافق نووية اخرى عمليات تفجير ادت احداها الى تدمير منشأة للوقود الصلب للصواريخ، وتضرر منشأة اخرى تعمل في مجال تخصيب اليورانيوم، واستهداف منشآت لانتاج النفط واخرى لانابيب النفط.
من الثابت ان القيادة الايرانية تنظر لمسلسل التفجيرات والاغتيالات باهتمام بالغ وتعتبرها عمل معاد يوازي اعلان الحرب، رغم تقليل الدول الغربية المعلن لأهمية الاجراءات. وعليه، اتخذت تدابير فورية لتعزيز جبهتها الداخلية ووضعت قوات الحرس الثوري الايراني على درجة تأهب قصوى، واتخذت قرارا باجراء الطائرات مناورات اعتراض قتالية مستمرة، ونشرت مخزونها الاستراتيجي من صواريخ ومعدات على عدة مواقع بديلة آمنة.
وبالمحصلة، فان ثمرة تلك الهجمات واغتيال الكفاءات قد اثرت على سرعة التوصل الى انتاج معدات واسلحة نووية، الا انها لم تؤذي البرنامج النووي لايقافه عن العمل تماما. ولعل سوابق في التاريخ خير دليل على نجاح العمل السري، اذ استهدفت اسرائيل علماء صواريخ المان عاملين في البرنامج الصاروخي في مصر، آب/اغسطس 1962، في عملية اطلق عليها ديموقليس، باستخدام الطرود الملغومة والاختطاف. الا ان البرنامج استمر قدما وان بوتيرة اقل من قبل. وبعد انكشاف الأمر، طلب رئيس الوزراء آنذاك ديفيد بن غوريون استقالة رئيس الموساد ايسر هاريل، آذار/مارس 1963، مما انهى عملية ديموقليس بالكامل.
كما ان التاريخ يشير الى تجربة اختصاصي المدفعية جيرالد بول، كندي الجنسية، الذي عمل على تطوير المدفع العملاق لصالح العراق، مشروع بابل، وتم اغتياله في بروكسل عام 1990. ومع هذا استمر العمل في مشروع بابل وان بوتيرة اخف عما ذي قبل.
اغتيال الشخصيات الحساسة والكفؤة جرى عبر تاريخ الحروب، لا سيما في اوروبا العصور الوسطى وما بعد ذلك. وعلى الرغم من غرابة ما تشهده ايران من اعمال تخريبية واغتيالات متسارعة، الا ان الامر ليس مستغربا في ظل عصر يتسم بالازمات والصراعات المتجددة، وما تلك الوسائل الا تحقيقا لاهداف حربية مرسومة باقل تكلفة ممكنة، خاصة اذ اخذنا بعين الاعتبار صعوبة لجوء الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين شن حرب تقليدية مضمونة النتائج في ظل ميزان القوى الدولي الراهن وخاصة بعد فشل تجاربها في الحرب على افغانستان والعراق تحديدا.
:::::
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي
مدير المركز: د. منذر سليمان
موقع المركز: www.thinktanksmonitor.com
العنوان الالكترون: thinktankmonitor@gmail.com