في حضرة المثقف المشتبك وحرب غُوَار الثقافة
الثقافة والسلاح قيم استعمالية لا تنتهي
الجزء الثاني
عادل سمارة
مثقف فانون، المثقف الفلسطيني، والصهيوني
كتب فانون: “إذا اردنا تتبع أعمال الكتاب الأصلانيين فقد مرت بثلاثة مراحل: الأولى: يقدم فيها الكاتب الأصلاني الإثبات على انه قد تمثل ثقافة قوة الاحتلال… والمرحلة الثانية نجد ان الكاتب مرتبكا حيث يحاول تذكر ما هوـ والثالثة يتحول لتثوير الشعب” ص 40-41. ربما بدأت الحالة الفلسطينية متقدمة على المرحلتين الأولين لدى فانون، فالأدب المقاوم في فلسطين قبيل 1948 تجلى لدى عبد الرحيم محمود وخليل السكاكيني وإبراهم طوقان. وهو ما تورثه أحمد حسين وراشد حسين كنضال قومي ويساري وبقيا عليه. بينما تمسك به محمود درويش قبيل خروجه الطوعي من فلسطين 1969، لينتهي متواطئاً عبر اتفاق أوسلو الذي تقاسم الوطن مع العدو. وهو التواطؤ الذي كان نموذج تعبيره التعاقدي إميل حبيبي وانتهى إلى استدخال الهزيمة.
إذن انطلق أدب المثقف الفلسطيني الملتزم والعروبي من الوجود الموضوعي المعطى للفلسطيني كجزء من الأمة العربية فبدأ مقاوِما. هذا مبتدا المقاومة الفلسطينية والتي شارك فيها عرب كثيرون منذ عشرينات القرن الماضي.
مع هذه الحقيقة ينسجم فكر فانون: “…إننا نعتقد أن الكفاح المنظم الواعي الذي يخوضه شعب من الشعوب لاسترداد سيادة الأمة هو أكمل مظهر ثقافي ممكن، ليس نجاح الكفاح وحده هو الذي يهب للثقافة قيمة وصدقاً وقوة، بل إن معارك الكفاح نفسها تنمي، في أثناء انطلاقتها، مختلف الاتجاهات الثقافية وتخلق اتجاهات ثقافية جديدة، فالكفاح لا ينيم الثقافة أثناء اندفاعه، وكفاح التحرير لا يرد إلى الثقافة الوطنية قيمها القديمة وأطرها القديمة، ولا يملك ما دام يهدف إلى إعادة تنظيم العلاقات بين البشر إلا أن يبدل الأشكال والمضامين الثقافية للشعب، إن التحرير لا يزيل الاستعمار فحسب، بل يزيل المستعمَر”. وهكذا يلتقط فانون حقيقة الصراع بأنه إذا كان هناك خلقاً من طرف فهو خلق للآخر بشكل متبادل. (كتاب: خمس سنوات على الثورة الجزائرية-دار الفارابي 1970)
وهذا يناقض مزاعم إيلان بابيه، وتوافق فيصل دراج معه، حيث يزعم/يؤصِّل بابيه عن وعي أن”الحركة الصهيونية حركة قومية في التاريخ، لأنها انما وجدت لتخلق شعبا واحدا فإذا بها تخلق شعبين”. الادعاء هو أن الحركة الصهيونية هي التي اخترعت الحركة الوطنية وأن الهوية الفلسطينية أنتجت بالتعرف على الحركة الصهيونية وعبر المستعمر الصهيوني”. ليست الصهيونية حركة قومية، هي إيديولوجيا لتخلق حركة قومية. فالقومية تقوم على وجود موضوعي لأمة على أرضها. إن الثقافة المقاوِمة هي توليد ذاتي للأمة المضطَهَدة، هذا ما يبينه فرانس فانون كمثقف ومقاوِم بالسلاح: “” ان القتال من أجل الثقافة الوطنية يعني في المقام الأول القتال من اجل تحرير الأمة، هذا حجر الزاوية الذي يجعل بناية الثقافة ممكنة. لا مجال لنضال آخر من اجل الثقافة يمكن ان يتطور بعيدا عن حرب الشعب. فلنأخذ مثالا، إن جميع هؤلاء الرجال والنساء الذين يقاتلون بأيديهم العارية الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليسوا باي معنى غرباء عن الثقافة القومية للجزائر”[1]
أما عزمي بشارة فيتورط أكثر ليقول: ” تعودت ان اراها كحركة استعمارية بذاتها او جوهريا، ولكن من خلال قرءاتي للأدبيات الصهيونية فأنا متأكد انها أكثر تعقيدا من ذلك، فهي تنظر لنفسها كحركة نهضة، كحركة تحرير، ولذلك فإنها في حالة توتر بين تصورها لنفسها وبين ممارساتها[2]“. هنا يراوغ بشارة حيث يترك الباب موارباً من حيث موقفه منها مما يكشف أنه على الأقل لم يعد يراها كحركة استعمارية. لكنه يقطع الشك باليقين حين يدخل الكنيست ويُقسم يمين الولاي للدولة اليهودية، ويرحل مُيمِّماً شطر قّطَر زاعما أنه منفي ليدير هناك، بإشراف غربي راسمالي، مطبخ خلية فكرية دورها اقتلاع التيار العروبي لإحلال الهجريين في الوطن بمجموعه.
المسألة القومية وقومية الطبقتين: الحاكمة والكامنة
بينما هناك تسليم عامٍّ بوجود الأمم وحتى بتصنيع أمم، فالأمة العربية وحدها التي تواجه هجمات متعددة تبدأ وتنتهي من إنكار وجودها وقطع الطريق على وعيها/مشروعها القومي. قلَّة هي التي تُقر بالقومية العربية وكثرة من هذه القلة تُدرجها في عداد الشوفينيات.وليس هذا مجال قراءة تاريخية لوجود الأمم القديمة والممتدة، لا التي طواها التاريخ او التي بلا تاريخ، اي الأمم السابقة بزمن عميق على المرحلة الرأسمالية في تجليها الغربي.
وإذا ما حُصر عصر القوميات، أو بدايته قياساً على نتائج الثورة الصناعية في أوروبا حيث اسمي القرن التاسع عشر عصر القوميات وهو كذلك، بل واساساً عصر تفجر علاقة الرأسماليات الأوروبية استعمارياً إلى المحيط، وهي تسمية سُحبت افتئاتاً على العالم، مع أنها لم تكن سوى الموجة القومية الأولى، بينما كانت الموجة القومية الثانية هي قوميات ثورات حركات التحرر الوطني في بلدان المحيط ضد الاستعمار وخاصة في إفريقيا وهي تفجرت في عصر الإمبريالية وتمتعت بحماية غير مباشرة وأحيانا بحماية ودعم مباشرين من الكتلة الاشتراكية. وبلدان المحيط الجديدة هذه افتقرت غالبا للتطور الراسمالي المناسب فكانت الراسماليات المحيطية (سمير أمين) والقُطريات العربية ومنها الجزائر من بين هذه البلدان. وهذا قرأه فانون بعين ثاقبة ترى للأمام والأبعد، عين زرقاء اليمامة.
قاد انحطاط قوميات الموجة الثانية وكمبردرتها التي توقعها فانون، وتفكك الكتلة الاشتراكية إلى فرصة جديدة لتغوُّل المركز الرأسمالي في حقبة العولمة ليقوم بتصنيع “قوميات” الموجة الثالثة، وغالباً بنقل سياسية “فرَّق تسُد” إلى سياسة تفكيك المحيط وتركيز المركز” بتوليد دويلات لم تتوفر الشروط التاريخية لتوليدها لتكون أدوات عدوانية لأصولها ولصالح المركز الرأسمالي المعولم (وطال هذا التفكيك الوطن العربي والاتحاد السوفييتي واليوغسلافي السابقين[3]). لعل الفارق الأساس بين قوميات الموجة الثانية والثالثة أن الثالثة هي تجميع تصنيعي على يد المركز الرأسمالي المعولم، بينما الثانية هي وجود موضوعي ونضال طبيعي تطور عنه.
يقدم لنا فانون هنا رؤية ثورية ثاقبة تستدعي قراءة وضع القومية العربية الحالية على اساسها من جهة وفي تعرضها لأكثر من عدوان من جهة ثانية إذ يربط النهوض القومي بحرب الشعب. لقد خص الاستعمار الوطن العربي بعداء مبكر مستدام، منذ محمد علي وصولاً إلى الناصرية وحتى التحضير لاحتلال سوريا اليوم وتهديد وزير خارجية دويلة قطر للجزائر بأن “دور اغتيالها آتٍ”. وفي سياق مقاومة هذا العدوان كان موضع الجزائر وتطوع وانتماء فانون لجبهة التحرير الوطني الجزائرية.
ولكن، اين موقع فكر فانون في هذه المعادلة وقد رحل قبل أم يُهزم الاستعمار الاستيطاني في الجزائر؟ تبلورت رؤية فانون ومن ثم إضائته في عمله الدبلوماسي في إفريقيا حيث شاهد عياناً بدايات الكمبرادور التي تؤكد أن هذه الطبقة وهي في السلطة مثابة مولود سفاح للإمبريالية. هي التعبير الشكلاني عن القومية. وهي عبر دورها الوظيفي والخدماتي وغير الإنتاجي والفاسد تخون المصالح الحقيقية للطبقات الشعبية التي تختزن القومية الكامنة. ولو سحبنا هذا النموذج على الوطن العربي اليوم لرأينا أنظمة القومية الحاكمة مثابة أدوات للإمبريالية لا تتقيد بالتبعية وحسب، بل تقوم بتصفية المواقع القومية العربية على مستوى الأنظمة والشعوب كذلك.
إن الدور الذي تلعبه اليوم جامعة الدول العربية في تصفية الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية، وإن كانت ما تزال محكومة بافق قُطري، سوريا والجزائر، كما كانت ليبيا والعراق، وحتى مصر الناصرية، تؤكدهذه الهجمة أن طبقة الكمبرادور التي التقطتها الماوية وركز عليها فانون هي أكثر الطبقات في بلدان المحيط قابلية للخيانة الوطنية، بل الخيانة جوهرها. وبقدر ما التقطت هذه الطبقة مصلحتها فوراً وبدقة، فإن البرجوازية العربية ذات التوجه القومي والإنتاجي قد عجزت عن التقاط ثلاثة تطورات شكَّلت الخطر الفعلي على وجودها إلى حد احتمال تصفيتها جميعاً وهي:
· لم تدرك أن وجودها “المستقل” وأحياناً المشاكس كان ممكناً بوجود القطب الآخر الذي حال دون عودة جيوش الاستعمار.
· هذا على الصعيد السيادي الوطني، أما على الصعيد الداخلي فقد اعتمدت القوة الأمنية لتثبيت سلطتها، هذا رغم محاولاتها التنموية التي هوجمت وعُرقلت مما قاد إلى احتجاز تطور اياً منها إلى دولة عربية مركزية لتلعب دورا وحدويا سواء بالبسماركية او غيرها.
· قاد فقدان الديمقراطية والتنمية بمفهومها الشعبي الواسع، إلى اختراقات هائلة في جسد هذه الأنظمة فتكونت إثر ذلك قوىً عديدة من اللبراليين والدين السياسي ومرتدي الماركسية والحثالات والعوام ليكونوا سلاح الراسمالية المعولمة في إعادة احتلال هذه البلدان (العراق وليبيا) عبر عدوان الهيمنة الثالثة.
وإذ لم تتدارك هذه الدول تلك التطورات، ولم تردف الإدراك بأن المركز الإمبريالي ما زال هو الذي يحكم العالم بغض النظر عن أزماته العديدة وخاصة الأزمة الاقتصادية المالية الجارية، فإنها إن لم تشتغل جدياً على مشروع الوحدة بما هو المطلب الشعبي اولا وفرصة الحماية الوحيدة ثانيا، فإن هلاكها بدوان الهيمنة الثالثة محتملاً.
لقد سقط أكثر من نظام من هذه الأنظمة القومية في التورط في مشروع الهجوم الراسمالي المعولم من المركز وبدور ناشط من الأنظمة الريعية وشارك في غزو أنظمة قومية أخرى (حالة سوريا ضد العراق وها هي سوريا تتعرض لنفس الهجمة ليس من أجل الديمقراطية بل لدورها العروبي والممانع). لقد بات واضحاً أن التسوية ودمج الكيان الصهيوني افشكنازي اندماجا مهيمناً في الوطن العربي لن يكتمل دون تدمير سوريا.
قاد عدم اتحاد النظم القومي من جهة وتورط أنظمة قومية ضد أنظمة أخرى ضمن الغزو الإمبريالي من جهة ثانية إلى عدة إشكالات:
· الأول: خرق المبدأ القومي الوحدوي بالمشاركة في ضرب قطر عربي من قبل قطر آخر في ذيل الإمبريالية مما وجه ضربة قاصمة للوعي القومي العربي وقاد إلى خلط بين المسألة القومية كما رآها فانون وبين دور نظام حكم ذي توجه قومي برجوازي.
· تعميد الجامعة العربية لتكون مؤسسة بيد المركز الرأسمالي المعولم ضد الأمة العربية مقودة هذه المرة بالأنظمة الريعية النفطية التابعة وهي أنظمة ما قبل الثقافة القومية من جهة ومرتبطة براس المال المالي المعولم من جهة ثانية، فاي تشوه!
· فتح الطريق لقيام هذا المركز باحتلال وتصفية دول عربية تحت أغطية الشرعية الدولية وخيانة الأنظمة العربية.
· الانحصار القطري في كل دولة قطرية وتجسيد الانفكاك عن العمق القومي وهو الأمر الذي نعاني منه بقوة اليوم. لذا ليس غريباً أن يُقال اليوم ” الثورات العربية –الربيع العربي” بينما لا تُرفع في اي قطر منها شعارات قومية، ولا يتم حتى التظاهر مثلا في مصر ضد غزو ليبيا او سوريا! لقدوصل الخرق القُطري عمق وعي الجماهير، فباتت محاصرة في قُطرية عمياء عن العمق القومي وحالمة بسراب الوحدة الإسلامية في حين أن معظم قوميات الدول الإسلامية تدافع عن نفسها ووحدة أرضها، وتتذيل للاستعمار وتنخرط في السوق الراسمالي العالمية كتوابع، وتهاجم القومية العربية وبعضها – تركيا تعلن الحرب على سوريا ضمن حلف أورو-أميركي-نفطي صهيوني؟ ألا يحتاج هذا لقراءة معمقة؟
وإذا كنا نسأل فانون عن هذه الصورة سيجيبنا بأنه نادى باكراً بوحدة إفريقيا وليس فقط الوحدة العربية، ووصل بقناعته إلى الأممية.
وفي حين تنتهز الأمم الحية لحظة تراخي قبضة الإمبريالية، مثلا الأزمة المالية الاقتصادية الحالية، لتخرج من إسار التبعية، فإن الأنظمة العربية هي بين غائبة عن وعي هذه اللحظة الذهبية او متطوعة متبرعة بأقراطها لإنقاذ اقتصادات الغرب العدو! إنها حالة قوة طرد الفائض لتقوية الغاصب.
في هذه الهجمة الموسعة لعب المثقف العربي المتخارج دوراً خطراً ضمن الجيوش الثلاثة لراسمالية حقبة العولمة: جيش الإعلام والجيوش العسكرية واللذين في خدمة جيش راس المال أي الرشكات الكبرى والمصارف.
فمقابل مثقف فانون… يقول فانون: ” ” ان القتال من أجل الثقافة الوطنية يعني في المقام الأول القتال من اجل تحرير الأمة، هذا حجر الزاوية الذي يجعل بناية الثقافة ممكنة. لا مجال لنضال آخر من اجل الثقافة يمكن ان يتطور بعيدا عن حرب الشعب. فلنأخذ مثالا، إن جميع هؤلاء الرجال والنساء الذين يقاتلون بأيديهم العارية الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ليسوا باي معنى غرباء عن الثقافة القومية للجزائر” (ص 44)
مقابل هذا المثقف، جرى نخر مثقفين عربا باللبرالية والقطرية وحتى الصهينة مؤكدين قناعتنا بوجود صهاينة عرباً وفلسطينيين يتركز وعظهم ضد القومية العربية لتأكيد التجزئة خدمة للأنظمة التي تعيش على تبعيتها للمركز وحمايته لها.
وقد تكون حال المثقفين الفلسطينيين الأكثر دلالة على ذلك حيث لعب مثقفون دور التنظير لاتفاقات التسوية “سلام راس المال” وهم شريحة المثقفين اللبراليين ذوي التخارج الثقافي والمتمول من المركز الراسمالي وخاصة عبر منظمات الأنجزة، ومثقفي اليمين الفلسطيني الذين ارتبطوا بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في فترة “غابة البنادق” وخلال التسوية وخلال الانتقال من الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات ومثقفي الماركسية الذين ارتدوا مع موجة الارتداد العالمية فزاحموا اللبراليين على ابواب الإدارة الأميركية. كان هؤلاء أدوات استدخال الهزيمة. وشكلوا بدورهم المبرر الفلسطيني لتخارج وارتداد مثقفين عرباً. وهؤلاء وأولئك يتركزون اليوم في قطر ليشكلوا وحدة المثقفين العضويين للأنظمة الريعية في هجومها على آخر معاقل القومية العربية. هؤلاء هم مثقفي الكمبرادور الذين ربما لم يتحدث عنهم فانون ولكنهم لا شك متواجدين في ثنايا تحليله.
فانون المرأة والنسويات
في هجمتها على الماركسية وخاصة ضد النضال الطبقي أزاحت الفورة النسوية الراديكالية فانون جانباً لتضعه في مصاف الذكورية وذلك ضمن مفاهيمها التي ترفض النضال الطبقي المشترك للرجل والمرأة والذي يتركز على تحرر المرأة وليس فقط ما تمنحها إياه قوانين المساواة البرجوازية اللبرالية. وتلخص نقد النسويات ل فانون على تبسيط فانون وتشخيصه غير المتعاطف لتعقيد وضعية المرأة السوداء في الاستعمار، علماً بان المرأة السوداء من الطبقات الشعبية هي التي ترزح تحت الثقل الأكثر ضغطاً في المجتمع.
في حديثه لمؤتمر الكتاب السود الأفارقة 1959 قال: “هذا الطمس الثقافي كان ممكنا بسبب نفي الواقع القومي، عبر علاقات شرعية جديدة جرى دحشها على يد السلطة المحتلة، عبر معاقبة السكان الأصليين وشطب عاداتهم لاحتلال المناطق لصالح المجتمع الاستيطاني، بالمصادرة والاستبداد المنظم للرجال والنساء”.
فانون لم يكن ذكورياُ، بل كان اممياً. وفي حقبة التحرر الوطني رأى أن النضال الثوري هو لطرد الاستعمار كواجب على الرجل والمرأة. إن الوعظ النسوي الغربي بجناحيه اللبرالي والراديكالي، لا سيما في حقبة التحرر الوطني، إلى النساء عامة والفلسطينيات خاصة[4] بعدم المشاركة في النضال الوطني/القومي بذريعة أن الوطن للرجل في التحليل الأخير والمطبخ للمرأة، هو في التحليل الأخير إضعاف أعمق لدور المرأة. فالمرأة المناضلة وكذلك العاملة أقدر على انتزاع حقوقها من المؤسسة الذكورية الراسمالية والبطريركية. والوعظ للمرأة بالابتعاد عن النضال الوطني هو مؤامرة عليها أكثر مما هو دعماً لها ناهيك عن أنه مثابة نقلها من تابع للرجل المحلي إلى تابع للنسويات الغربيات االلائي هن تابعات للسيطرة الراسمالية الذكورية الغربية في حال اللبراليات بشكل خاص. أما النسويات الراديكاليات فيؤسسن لتبعية نساء المحيط لهن رغم اختلاف الثقافة والبيئة والخطاب لتخريج نسوة مشوهات ثقافيا وفكريا في المحيط بدل أن يُبدعن آليات نضالهن وخطابهن محلياً. في الحالتين نحن أمام كولونيالية نسوية واحدة مرتبطة بالنظام الراسمالي والأخرى مضيَّعة ومضيِّعة لنسويات المحيط.
لقد تمكنت النسويات الغربيات بتنوعاتهن من اختراق كثير من النسويات في الأرض المحتلة لإبعادهن عن النضال الوطني على اعتبار أن الوطن للرجل حينما يتحرر. وماذا كانت النتيجة؟ كانت ابتعاد مجموات صغيرة من النساء اللبراليات عن المجتمع وعن المؤسسات النسائية التي تمثل معظم النساء وعن القوى السياسية دون أن يخلقن بدائل عملية أو ثورية مكتفيات بعلاقات مع الأجنبي قائمة على التمويل وخاصة للكوادر النسوية العليا. وعليه، في حال توقف التمويل الأجنبي، لن يُغني عنهن الحقن بالخطاب شيئاً ولن يتمكن من العودة للانتظام في البنى المجتمعية للنساء بما هي مواقع النضال الحقيقي.
لا يُرسم النضال لأية طبقة أو شريحة اجتماعية من خارجها، أما الكولونيالية فتستقطب في العادة من هم/ن مؤهلين للتبعية وهؤلاء محدودي العدد. لذلك دخلت المرأة الجزائرية النضال بطوعها وليس بتبعيتها للرجل، وفي معركة الحجاب ناقش فانون الرغبة «المسعورة» لدى المستعمرين في نزع حجاب الجزائريات.. رغبة مدفوعة بنزعات جنسية «عدائية» ودوافع سياسية. وبحسب فانون، «يريد الأوروبي، وهو يقابل الجزائرية، أن يرى، لذا فإنه يتصرف بطريقة عدائية أمام هذا التقييد لرؤيته، ويمضي الحرمان والعدائية هنا في تناسق تام”. أثبتت المرأة الجزائرية قدرتها على استخدام التقاليد والثقافة (والزي جزءٌ منها) وواصلت النضال حتى التحرير[5]. وإذا كانت المرأة قد أُعيدت للمطبخ بعد التحرير، فإنها قد تمتعت خلال الثورة برصيد كي تبني عليه نضالها المقبل، وبدون تراث النضال ستكون فرص نضالها المستمر اضعف.
يقول فانون: “إن تدمير الاستعمار يُنهض المرأة الجزائرية فإلى العديد من المواضيع التي طرحها، وبحسب تحليل فرانز فانون فإن تاريخ الغزو الفرنسي للجزائر بما شهده من هتك لأعراض النساء أسهم في بلورة هذه النشوة، فَـ«تَذكُّر هذه الحرية المعطاة لسادية المستعمر تجعل اغتصاب المرأة الجزائرية مسبوقا في حلم الرجل الأوروبي بتمزيق الحجاب”
ولا يخفى اليوم أن قرار الدولة الفرنسية منع الحجاب هو امتداد باثر رجعي لعقدة الهزيمة أمام المرأة والرجل إبان حرب التحرير. ولعل أعمق ما اشار إليه فانون هو قول المستعمِر: “لنعمل على أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سيتبع”. وما اشبه اليوم بالبارحة وفلسطين بالجزائر. لا يعرف سوى الله ودوائر المخابرات المالية كم يُنفق على ما يسمى حرية المرأة والمساواة والمؤسسات النسوية في الأرض المحتلة لكسب المرأة. لقد اكتسبوا فئة ضئيلة من النساء النسذكوريات[6] اللائي انخرطن في سلطة أوسلو-ستان لخدمة الرجل المحلي الذي يخدم دوره سيطرة وهيمنة المستعمِر الغربي. هاتيك النسذكوريات اللاتي غدون ثقلاً إضافياً ملقى على كاهل المرأة الفلسطينية.
لعل أحد كبار الأسئلة: ما الذي أدى إلى ضمور النضال النسوي في حقبة العولمة وقد ازداد العبء على النساء سواء بالحروب أو بالسياسات اللبرالية الجديدة وسيطرة اليمين المحافظ الجديد في الولايات االمتحدة.
راهنية الطبقة
ثورة افريقيا تأتي فقط من الفلاحين، هكذا جادل فانون برؤيته الثاقبة وهنا بعدين: البعد العام هو العنف الثوري كبعد أممي، والبعد الخاص المدرك خصوصية إفريقيا دور الفلاحين. وهذا ما نناقشه عن خصوصيات الحالات، الخليج، العراق، مصر اليوم، أفغانستان…الح الثابت هو المثقف الثوري والنفس الثوري والمتغير هو المكان والتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية. هو لم يقل الفلاحين في فرنسا؟ يرى في العنف إعادة خلق. مزدوج وهنا فقط يتم تجاوز الثنائية. لنقرأ اين وصل هذا اليوم؟
ماذا عن اليوم؟ ذهبت البشرية شوطاً بعيدا في الاقتصاد، انتقلت أكثر إلى الصناعة بل نقلت الصناعة القديمة إلى المحيط، وذهب المركز إلى حقبة العولمة بعد الإمبريالية، وإلى الاقتصاد الجديد والمضارب بعد الإنتاج السلعي، وإلى اللبرالية الجديدة بعد اللربالية المؤسِّسة والآن إلى الأزمة المالية الاقتصادية مترافقة مع المحافظية الجديدة.
اين افلاحين في هذا الخضم؟ مئات ملايين الفلاحين في الهند والصين يعودون إلى الريف فلا يجدون الأرض التي غادروها لأن الشركات الغربية الكبرى شاغلتها. ألا يعني هذا أن الفلاحين ما زالوا طبقة لها زخمها الثوري الكامن؟
لكن فانون لم ير الفلاحين كطبقة مؤبدة ولا كثورة في كل مكان، وكما يبدو لم يقتنع بالنفس الثوري لبروليتاريا المركز العنصري الأبيض على الأقل في المرحلة التي عاشها، وبالطبع حتى اليوم. فالطبقة العاملة هي مخزون الثورة المحتمل، ولكنها لم ترتفع بعد إلى قوة الثورة المتفجرة، فلماذا ننقلها قسراً من الموات إلى الثورة إن لم أو ما لم تنتقل هي؟
هذا المناخ البئيس للبرولتاريا هو الذي ورَّط ماركوزة في الحثالة، دون ان يدرك أن الطبقة العاملة/الطبقات الشعبية تختزن نفسا ثوريا لكنها تحتاج إلى ثقافة جديدة ربما تتولد مع الأزمة المالية وأزمة نمط الإنتاج الراسمالي وثورة المحيط.
[1] On National Culture, Frantz Fanon, cited in Colonial Discourse and Post-Colonial Theory. A reader, edited and introduced by Patrick Williams and Laura Chrisman, Columbia University Press, New York 1994 p 44. From Franz Fanon, The Wretched of the Earth , trans. Constance, Penguin: Harmondsworth, 1967, pp. 166-7, 168-71, 172-5, 178-83, 187-99.
[2] أنظر مجلة كنعان العدد 85 نيسان 1997، مقالة عادل سمارة ثنائية القومية والحكم الذاتي الثقافي ودولة لكل مواطنيها-مشاريع صهيونية ص ص 33-50.
[3] أدى تفكك الاتحاد السوفييتي إلى سلسلة انفصالات لم تكن جميعاً على اسس قومية حقيقية بقدر ما كانت محفوزة بدعم المركز الراسمالي المعولم، كما أدى التدخل الإنساني الدولي في جورجيا إلى قيام أقاليم أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، وأداجيا بإعلان الاستقلال عن جورجيا، وانفصال كوسوفو عن يوغسلافيا وإقليم أتشيه عن إندونيسيا، ولولا وصول القوات الإفريقية قبل القوات الدولية لانفصل إقليم دارفور عن السودان.
[4] أنظر كتاب عادل سمارة : تأنيث المرأة بين النفي والإلغاء: المرأة مبتدأ كل نقدٍ وتخطٍّ.، منشورات دار الرواد دمشق 2011
[5] انظر/ي مقالة بادية ربيع عن جميلة بوحيرد في نشرة كنعان الإلكترونية العدد 1785.
[6] النسذكورية قصدنا به المرأة المسيسة التي تشارك سلطة الرجل الذكورية.