في حضرة المثقف المشتبك وحرب غُوَار الثقافة
الثقافة والسلاح قيم استعمالية لا تنتهي
الجزء الأول
عادل سمارة
(ورقة مشاركة في الندوة الدولية حول المناضل فرانز فانون التي أقامتها الهيئة العلمية التابعة لوزارة الثقافة “المركز الجزائري للبحوث في ما قبل التاريخ والأنثروبولوجيا والتاريخ” يومي 6-7 ديسمبر 2011 في الجزائر)
مبتدأ القول لأمةٍ تحت الاستهداف الشامل الممتد إلى اللحظة وابعد، إن الحد الفاصل بين النصر والهزيمة أمضى من حد السيف ولا يعتمد على السلاح فقط بل على سلاح السلاح: ضبط الأعصاب لحظة الاشتباك ودقة التهديف حتى لو كان السلاح كلمة. حين تفيض الهجمة على الأمة إحفر خندقك واقبض على عنق عدوك الذي بجانبك. هذا مبتدأ المقاومة.
نحن في حضرةِ كلمة وسلاحاً هو المثقف المشتبك الذي يولد مع كل عصر ومرحلة. “هذا الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي”(اسطورة جلجامش). دعونا نرى ماذا رأى دون أن ننسب له النبوة، لكنه نبي أرضيٌ مسلح، نبي ثائر.
إن كان لنا القول أن سلاحنا هو العمل والحب والثورة، فإن فانون قد الهمنا أن المثقف المشتبك والمنشبك بهذه الثلاثية لا يُعجزه العمر فلا يتقاعد، وحين يرحل يتجدد. “في العالم الذي فيه اسافر وأرتحل، فإنني أقوم بخلق لنفسي لا ينتهي “. خلق نفسه طبقيا وأممياً ورحل وفي رحيله واصل خلق نفسه وغيره. فانون أتى…ولم يمضِ. فتنبهي يا جزائر، يأتيك الفرنسي على ظهر خليج النفط يردد حقد الجنرال اللنبي : “ها قد عدنا يا جزاير”. عاد اللنبي إلى أمة دمرها السلاجقة العثمانيون محمولاً على تواطئ بدوٍ – ما قبل الرأسمالية- حلموا بأي نوع من العروش،. يعود اللنبي اليوم مع البُنى نفسها، ثقافتها ما قبل الوطن والدولة،ثقافة المكان، اي مكان، بُنى قبلية تعالج الإنترنيت كما تقود البعير تعيش من اقتصاد تساقط الريع متراكبة على راس المال المالي والشركاتي المعولمَين. غدت جزءاً تابعاً من طبقة عالمية مجسدة في الشركات الكبرى وراس المال المصرفي تنير لراسمالها الطريق نخب مثقفة معولمة في خلفيتها التثقيفية لبراليون متخارجون متغربنين، وصهاينة عرباً وهجريون يوالون المحافظية الجديدة.
من هو فانون؟
اقلقنا عشاق تعدد وتناسل الهويات في قراءة هوية فرانز فانون. لكن سؤال الهوية لا ينطبق على من تجاوز الهويات لا سيما في لحظة تصاغرها إلى الفردانية المطلقة، من بدأ كإنسان وانتهى كأممي. كم يُشاغلنا حِرَفييو تناسل الهويات في هذا العصر كي يصلوا بنا إلى أن كل فرد هو هوية تهيم منفلتة في فضاء الإنترنيت بينما يعرف راس المال هويته تماماً حتى وهو ينتقل إلى الاقتصاد الجديد والمكون المعلوماتي للاقتصاد محاولاً تعميتنا عن خطابه المخفي عن الربح اللامحدود المتحول عن القيمة الزائدة والمشرعَن له بالملكية الخاصة، هذا هو محركه في التحليل الأخير قبل اللون وقبل الدين وقبل الجغرافيا ولكن بالطبع ليس قبل أو بدون نمط الإنتاج.
في أمميته الأولية افترض فرنسا وطناً فقاتل من أجلها كمثقف مشتبك، وبرؤيته الصافية رأى باكراً احشائها العنصرية، بل رحمها العنصري، ومحْلَها الأخلاقي حتى وهو يقاتل من اجلها[1]. لذا كتب في الفترة التي قضاها في منزل الروائي بول بورجيت (1852-1935) حيث قضى منها حيناً طويلاً في مكتبته القديمة. وكان فانون قد جُرح في ظهره منطقة دووبس قرب مونتبيلادر.كما شارك في معركة الألزاس.وكتب حينها إلى والديه: ” إذا لم أعد قط، وإذا ما سمعتم ذات يوم أنني قضيت وأنا اقاتل الأعداء، حاولوا الشعور بالراحة بأية طريقة تستطيعونها… ولكن لا تستقروا على الاعتقاد بأنني مت دفاعاً عن سبب شريف (…) لا شيىء هنا، لا شيء مطلقاً يبرر قراري المتسرع بتكريس نفسي مدافعاً عن حقوق المزارعين، حينما لا يعير المزارع بالاً للدفاع عن هذه الحقوق”. ومنذ تلك التجربة قرر مقارعة فرنسا التي قاده وعيه إلى الفجيعة بها، قرر قتالها في موقع حضورها الثقيل، اقتصاديا وعسكريا واستيطانيا وثقافيا، في الجزائر، متجاوزاً اللون والدين والجغرافيا. لم ينطبع ولم يتطبَّع فانون وقرر تنظيف اسطبلات أوجياس من روث اللبرالية البيضاء.
إذن، فرانز فانون: لن نقل لك : ” التطبيع يسري في دمك[2]” ومن بين عديد المثقفين لم تستدخلك الهزيمة بل هزمتها في شتى ميدان حتى بعد رحيلك. في صفوف جبهة التحرير اكتشفت السلاح أكثر وتسلحت بالثقافة أكثر، واكتشف الثقافة والقومية في حقبة المقاومة وفي تمثيل الجزائر في افريقيا اكتشفت الطبقة حتى بين معذبي الأرض، فنظر ت لما هو ابعد منها لتكمل دائرتك الأممية متعجلاً ذلك قبل رحيل عمرٍ بدأ مرتحلاً . زمنك االشخصي القصير مثقل بالوعي وعبىء التجربة ووجعها والاشتباك، فالزمن ليس بامتداده بل باشتداه.
وفي الوقت الذي كانت فيه قيادات عديدة في الشيوعية العربية تناصب القومية العربية العداء مأخوذة بأخذ مجتمعات فلاحية إلى الاشتراكية عبر كيانات قُطرية، ومتورطة في الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي كتخليق وتصنيع استعماري وقبلت بمقولة ستالين بأن الأمة العربية ما زالت “أمة في طور التكوين” في الوقت نفسه كان فانون يرسم التقاطع الثوري والمنطقي بين القومية والأممية :
“إن وعي الذات/النفس لا يعني إغلاق منافذ التواصل. يعلمنا التفكير الفلسفي ، عكس ذلك، فذلك ضمانتها. فالوعي القومي، الذي ليس هو القومية، هو الشيىء الوحيد الذي يعطينا بُعدا اممياً”.
هذه المسألة في علاقة القومية بالأممية /الاشتركية ما تزال عصية على الحل لدى من تستعصي عليهم الرؤية. (لننظر لاحقاً).
كتابك معذبوا الأرض، قرآن ثوارها، وصفته بلادة و صلادة أكاديميا الغرب ب “المولود بعد رحيل أبيه”… يا معلمينا سابقاً وليس اليوم، أبا معذبو الأرض لم يرحل، شبح مشروعه يطوف الأرض اليوم كلها، يجادل حراك الأمة العربية ويقاوم هجمة الثورة المضادة لذبح هذه الأمة مجدداً.
راهنية أدوات فانون:
وبعيداً عن اعتبار مانوية فانون مجرد ثتائية تناظرية يرفض البعض الإقرار بها او التركيز عليها، النور والظلام الأسود والأبيض فهو أفنى نفسه من أجل عالم واحد جديد وحقيقي وهو ما لا يتحقق سوى بالعنف المطلق (ص 37 من معذبو الأرض طبعة سارتر)
هو يرى أن السواد والبياض متلازمان، طالما هناك قهر استعماري. ألا نرى الاستعمار اليوم يُستدعى إلى فراش الأمة يُضاجع عباءات النفط وكوفيات الأمراء. يمول طائراته خليج النفط والكمبرادور والريع في غزوة “الهيمنة الثالثة”[3].
أدرك فانون اثر اللغة، بل الخطاب في صياغة الوعي وتجليه عبر الثقافة على شكل شيطنة الأسود. هي اميركا اليوم، تحت جلد كل أبيض عنصري حقيقي. فما غدت لغة فانون قديمة؟ هل نقارن هذا مع سعيد الذي ينتحب على عدم احترام أميركا للعرب؟ حاول الأسود بتصرفه ووولائه ولغته وتأدبه أن يُقبل في المجتمع الأبيض معتقدا ان خطاب الحقوق الذي يزعم مساواة الناس بمعزل عن مظهرهم هو خطاب حقيقي. لكن براعته وطهارته كشفت الخطاب المخفي. التقط كيف يجري إدخال القيم الثقافية في الوعي فيتم استدخالها لتخلق فصاما بين وعي الأسود وجسده. في الخليج يجري استدخال مختلف، ما من خطاب مخفي، هي مقايضة تبادلية، كل الأمة ببقاء العجول الهجرية على الكراسي والحريم.
مثقف فانون ومثقفون آخرون
كتب فانون:”…إذا كان يُعرف الإنسان بأعماله، فعلينا القول أن الشيء الأكثر إلحاحاً اليوم على المثقف أن يبني أمته. وإذا كان هذا البناء حقيقة، اي لنقل إذا فسَّر تجلي إرادة الشعب وكشف عن توق الشعوب الإفريقية فإن بناء الأمة لا بد أن يصاحبه بالضرورة اكتشاف وتشجيع قيمٍ كونية. وبمعزل عن الابتعاد عن أمم أخرى، فإن التحرر الوطني هو الذي يقود الأمة كي تلعب دورها في مسرح التاريخ. إن الوعي الأممي ليعيش وينمو في قلب الوعي القومي. وإن هذا البزوغ الثنائي هو في النهاية مصدر الثقافة.(ص 52)
تحوي هذه الفقرة من كتابة فانون ترسيمة كاملة لرؤيته كمثقف للأمة وللأممية معاً. ولعل أهم ما فيها حسم العلاقة الجدلية بين الوعي القومي التحرري وبين الأممية. وهذه مسألة تفتح على ذلك النقاش الموسع وغير المحسوم بعد فيما يخص رؤية الماركسية للقومية. وهي الرؤية التي تعاني من قراءة قاصرة معاقة تعمم تحليل ماركس للقومية في أوروبا في عصر الاستعمار على مطلق المسألة القومية عالمياً.
لو فقد فانون راهنيته في كل ما كتب، فإن راهنية الثقافة والسلاح تكفيانه لأنهما كما التناقض، بل لأنهما أدوات حل التناقض، لا تنتهيان. ربما لم يقرأ فانون تراث غرامشي الذي أُحيي بعد رحيل فانون، لكنه تقاطع مع المثقف العضوي ليكون فانون المثقف العضوي والمشتبك لمعذبي الأرض الذين ما زالوا يتجددون على يد راس المال لمختلف الطبقات الشعبية على صعيد عالمي. ارتكز فانون على الثقافة لكنه ليس ثقافويا بحتاً.
التقط القوة الرمزية للثقافة، قدرتها على الخلق والهيمنة لكنه رآها في حقيقتها واصلها المجتمعي، في الأمة منبعها ومجسِّدها في وجود الأمة وحضورها في التاريخ. وابعد، فقد حفر عِبر الفعل الثوري في جوهرها ليكتشف أن الثقافة كالأمة، اي في طبقات، فركَّز طبقاً لموقعه في الثورة الجزائرية على الفلاحين الذين يختزنون ثقافة الأمة بعكس التشوه المديني في بلدان المحيط، وهكذا كانت الصين وكوبا وفيتنام ولاحقا جنوب اليمن.
تمرد على الهيمنة الأولى، هيمنة الثقافة البرجوازية الفرنسية البيضاء والعنصرية لصالح الهيمنة الضد برجوازية، هيمنة الطبقات الشعبية وخاصة في المحيط فنقل غرامشي إلى المحيط ليخرج من جسده الثوري جرثومة المركزانية الأوروبية، كيف لا وغرامشي لم يتحدث عن بلدان المحيط، فلم يكن لينين هكذا.
لا يستطيع مثقف فانون أن يكون شوفينيا بل ولا يبقى قومياً، هل هذا لأنه تطهر بالسلاح فطهر السلاح، أم لأنه تسلح بوعي الطبقات الشعبية؟ إنه انشباك الوعي والبندقية والفقراء، انشباك لم يتفكك. كيف لا، حين لم يعد الوعي إلى جانب السلاح ماتت الإشتركية المحققة.
انطبع فانون بكثير من سارتر، وانطبع به سارتر فقدَّم لكتابه وأصدره. كان عمل سارتر مثابة اعتذار أبيض للنبي الأسود. اعتذار فيلسوف أدرك وحشية الأبيض الراسمالي، لكنه سارتر عجز عن اقتلاع ذلك الجذر الصهيوني من داخله، اليس الذي كتب: “…إنه لن يكون هناك فرنسي يعيش في أمان طالما كان هناك يهودي يعيش في إسرائيل أو في أي مكان في العالم لا يشعر بالأمان”. فأي نفاق للمؤمنين المستوطنين، الذين يُعدُّون لمذبحة مجدو، من فيلسوف ملحد! لو طلب الأمان لليهود خارج المستوطنة البيضاء في فلسطين لكان في الأمر قولاً مختلفاً. وهكذا أبقانا الفيلسوف الأبيض الذي تجمَّل زُلفى باللون الأسود ابقانا نحن العرب والفلسطينيين آخر معذبي الأرض. هل اتكىء برنارد هنري ليفي على هذا الجزء من تراث سارتر في حقبة العولمة؟
تجاوز فانون وهو المثقف المسلح بالوعي تجاوز مثقف إدوارد سعيد “المثقف الإنساني”. مثقف إدوارد سعيد كان علانية ضد الكفاح المسلح في وطنه فلسطين حيث الاستيطان الأبيض ذبح وطرد أهلها وما زال يدير حملة اقتلاع نهائية اوسع بكثير من زعم إيلان بابيه انه تطهير عرقي، فهو طرد متواصل وممتد في الزمان والمكان. شتان بين المثقف المسلح (فانون الجزائري فالأممي) والمثقف المراوغ (سعيد الفلسطيني-الأميركي) هذا مركز تناقض سعيد رغم الحالة الاستيطانية البيضاء نفسها في الجزائر وفلسطين، بل في فلسطين أبشع! وفي حين استبطن فانون شعب الجزائر المعذب والمناضل استبطن سعيداً ثقافة اليهودي المراوغ أدورنو الداعي إلى اللاوطن، إلى رؤية الوطن كمكان، كقيمة تبادلية لا استعمالية، بنموذجه اليهودي فقال سعيد : “انا اليهودي الأخير”. لكن اليهودي احتل وطناً، وطن سعيد دون ان يدري سعيداً كما يبدو. وهكذا نجح أدورنو في خداع سعيد.
وحسب توصيف سعيد للمثقف بانياً على أدورنو: “… المثقف حالة منفى دائم، يراوغ القديم والجديد ببراعة/ لا يستريح في أي مكان، يَحوْل، كما يميل ادورنو للقول، دون أن يُفهم بسهولة ومباشرة”[4] إلى أن ينتهي سعيد بالقول: “أنا آخر مثقف يهودي…أنا الحواري الحقيقي لأدورنو، انا يهودي-فلسطيني”!
وإذا كان مثقف إدوارد سعيد متاثر بمثقف الحسن البصري، (فما أكثر ما يتقلب هذا الحسن البصري_ مظفر النواب) ومن ثم بمثقف لوكاتش الذي اعتذر للحزب عن ما اتخذ من موقف، فإن مثقف فانون تمرد كلياً.
لعل الأثر الأكثر تأثيرا على فانون قد جاء من إيمي سيزار الذي استطاع أن يشكل أولى حلقات فكر فانون، فسيزار يحتفي بعرقه ولونه، وهو مؤسس حركة الزنوجة التي جاءت ردة فعل على ذالك التمايز العرقي والهيمنة الإمبريالية، وهكذا فقد استمد فانون هذا المنطلق، ولكن هذا لم يلبث أن تطور لاحقا بعد أن تجاوز فانون فكرة ردة الفعل، فالاحتفاء بالزنوجة يعني تأكيد الاختلاف والتمايز التي جاء بها الغربي، مما خلق تحولا فيما بعد عبر تتبع مراحل الكتابة المقاومة لديه. لا شك أن كتابة الفيلسوف سيزار الترانيمية قد سحرت فانون الذي بدا مُريداً لكنه لم يَُنصِّب سيزار شيخاً. فتجاوز المريد “زنوجة” شيخه ومضى ابعد من مختلف الألوان ، وركز على أن وضعية المرء تحددها حالته الاقتصادية وموقعه الاجتماعي وحين يجد الجد، يحدده سلاحه.. كيف لا، الا يختبىء الثائر خلف سلاحه ليحقق اذته؟
“…ليست لدي الرغبة أن أكون ضحية خداع عالم اسود. يجب أن لا تكون حياتي مكرسة لوضع ميزانية للقيم الزنجية. ليس هناك عالم ابيض، ولا أخلاقيات بيضاء ولا حتى مثقفاً أبيض. هناك في كل جزء من العالم رجال يبحثون. لست اسيرا للتاريخ. لن ابحث هناك عن معنى لكرامتي. سوف أُذكرِّ نفسي دوماً بأن القفزة العظمى تتأتى من تقديم اختراع الوجود. ففي العالم الذي فيه سافرت، فإنني دوما أخلق نفسي”
تمرد فانون المثقف والطبيب النفسي المارتينيكي المولد، وفرنسي التعليم، تمرد على فرنسا وقاتلها في الجزائر. وفي نفس لحظته كان في الجزائر بيير بورديو[5] المثقف الفرنسي تماماً الذي أصر على أن ينحصر المثقف في الأكاديميا مركزاً على تأثير المخزون الثقافي من الأسرة والمدرسة والبيئة على المثقف وراوغ بورديو بعناد هائل للابتعاد عن الطبقة رغم حضورها فما بالك بالحزب ليكن أعلى ما ركب هو حصان الوقوف مع المحتجين والمضربين والخروج في المظاهرات” بينما كان غرامشي حزبياً حتى العظم، وفانون حزبي يمارس حرب غوار الكلمة وحرب غوار البندقية. في تركيزه كعالم نفس على المخزون الثقافي النفسي المذبوح بالعنصرية لم يُؤخذ فانون بالهيمنة (أسميها الهيمنة الأولى) عند غرامشي بما هي حالة استدخال الطبقات الشعبية لإيديولوجيا السلطة والتي التقطها بورديو ليسميها راس المال الرمزي في محاولة مرتبكة لتجريد راس المال هذا من بعده المادي. أما فانون فجسَّد النفسي كهيمنة وسيطرة إلى حالة كان حمل السلاح علاجها.
يَحضرني هنا الإعجاب الكاريكاتوري القزم للأكاديميا الفلسطينية التي تضع بورديو قرطاً في أذنيها فتزجَّه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وحتى التنمية، ولا تعبأ بفانون؟ قلق مثقف بورديو الأساسي هو في “كشف ديناميات علاقات القوة في الحياة الاجتماعية” لفهمها وتفسيرها[6]، فهو معني بوعي الفرد والنخبة (تاثيرات فيبر) وليس الطبقة، بينما لدى ماركس لتغييرها، وفانون لقتالها بالسلاح. يجادل بيورووي أن العمل المبكر للسوسيولوجيين لتغيير وتفسير العالم تغير إلى الحفاظ عليه، كما هو واضح من حياة بورديو.
يقترب مثقف هارولد وولبي من مثقف فانون ولا يرتفع إلى مصافِّه. يخلص بيورووي إلى أن وولبي دمج بين الدورين للمثقف بمعنى:
· أنه كان مركزاً على حرب الحركة اولا لتفكيك دولة الأبرثايد interpretative
· ومن ثم في مشروع إعادة إعمار الدولة في جنوب إفريقيا حرب الموقع Legislative
هنا يصبح مثقفا عضويا للدولة أو حتى تقليديا وبما ان الدولة ليست أداة تنمية ، يكون المثقف قد خدم طبقة وبيروقراط، هذا ما نقرأه اليوم في جنوب إفريقيا وتواطؤ مثقف المؤتمر الوطني الإفريقي حين وصل حزبه السلطة. أما تواطؤ المثقف الفلسطيني فحاصره في التطبيع مع الكيان ومع سلطة تقود التطبيع مع الكيان، وأدت به الغربة والاغتراب إلى تبرير تحويل فلسطين من قيمة استعمالية/وطن، إلى قيمة تبادلية مكان، فبرر مقايضة جزء من فلسطين بجزء آخر من فلسطين متقاسماً وطنه مع العدو.
يخلص بيوراووي إلى أن وولبي دمج بين الدورين بمعنى أنه كان مركزاً على حرب الحركة اولا لتفكيك دولة الأبرثايد ومن ثم في مشروع إعادة إعمار الدولة في جنوب إفريقيا. وهو بيوراووي نفسه يرى تداخل المرحلتين بمعنى أن لا واحدة تستثني الأخرى.
ترى هل قرأ وولبي بعض فانون: “وإذا كنا نريد لأنفسنا أن نكون جزائريين فقد بدا لنا جميعاً أن واجبنا هو إما الالتحاق بالمقاومة وإما إعداد أنفسنا لنكون الكوادر المقبلة للدولة ويرى بيورووي: ان وولبي يصر على استقلالية المثقف طالما كان يريد خدمة أهداف سياسية. بدوره ذهب فانون لما هو أبعد من الدولة بعد “الاستقلال” فكان قلقه من دولة البرجوازية المحلية/الوطنية التي هي تعبير كرتوني عن مرحلة الاستعمار.
فانون وفرويد طبيبان وعالمَيْ نفس. تركزت رسالة استقالته 1956 على التناقض بين الدور الاستعماري وبين أخلاقيات العمل النفسي، فماذا أوحى علم النفس لضحايا كل منهما؟ مرضى فرويد افراداً يُعالجون بأن يُقرأوا جنسياً ليعودوا إلى المجتمع اللبرالي أفراداً يتحقق وجودهم بالجنس. إذا ما عولجو.
إشكالية مرضى فانون بيئوية مقحمة ، رغم أن كثرة منهم مرضى من الاغتصاب. الا يُحرجنا في اللحظة فانون؟ فالاغتصاب تجدد في أبو غريب وسِرت وبني وليد. حالة مرضى فانون تُعالج بالسياسة بالانخراط في حرب الغوار لإعادة خلق الذات بيد الذات نفسها عبر الجماعة الطبقة الأمة المقاتلة، فيشفى المستعمِر والمستعمَر. فانون الذي اشفى سارتر تجاه الجزائر ولكن سارتر لم يشفى من التضمُّخ ب “إيدز” الصهيونية.
وهكذا، طوَّع فانون علم النفس ليرتكز عليه في تحليل ما هو سياسي واجتماعي ليعالج مرضاه من العلاجات التقليدية.. وانطلاقاً من اقتناعه بأنّ الهيمنة هي العامل الأساس في الاضطرابات النفسيّة، وضع هؤلاء في محيطهم الاجتماعي بدل حجزهم في غرفٍ ضيّقة او على فراش حتى لو كان وثيراً كالفراش القَطَري الذي يستقبل الصهانية. لم تكن طريقة العلاج تلك مجرّد تقدّم علمي، بل موقفاً ينسجم مع إدراك الفيلسوف العميق لمسألة الحريّة وتأثيرها على شعور الإنسان بكرامته. في المقابل، أكّد فانون أنّ المستعمَر لم يخض معارك التحرير إلا عندما أدرك أنّه ندّ للرجل الأبيض وليس حيوانه الأليف. ورأى”… الأدب للقتال، أنه يصوغ الوعي القومي …ةلأنه الإرادة في التحرر معبرا عنها في الزمان والمكان” ( حديث لمؤتمر الكتاب الأفارقة السود 1959). تعبير لافت/ السود. لكنه يذكرني أن هناك أفارقة حنطيين وبيضاً يغتالون في ليبيا اليوم المقاتلين السود وباسم الإسلام الذي حسم اللون منذ أزيد من اربعة عشر قرناً.
ربما أوحى فانون أو اسس لمساهمة هومي بابا في استنطاق التابع، تقديم الدور الذي قامت به الجماعة التابعة في تاريخ الهند ، وليس استنادا إلى الهيمنة الاستعمارية ، أو التصور الذي تم تجذيره عبر وجهة نظر البورجوازية الهندية. كتب فانون: ” ” بينما في البداية يدرج المثقف الأصلاني على إنتاج عمله بهدف ان يُقرأ بشكل استثتائي من قبل القامع، سواء بهدف إسعاده أو التعريض به ، إنكاره،عبر وسائل إثنية او ذاتية، فهو الآن يتقدم سريعاً باتجاه التوجه إلى شعبه نفسه. إنه منذ هذه اللحظة تحديداً بوسعنا الحديث عن أدب قومي…وهذا يمكننا وصفه بأنه أدب الصراع بمعنى انه يدعو الشعب كله كي يقاتل من أجل وجوده كأمة” (ص 47 ) هنا قام فانون بتثوير التابع وتسليحه فاشتبك ليكتب الفارق بين المثقف الأكاديمي والمثقف الثوري. أما المثقف الفلسطيني التابع فكرس التبعية بالحماية تطبيع ومفاوضات وتحويل الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات[7]. لعلها النقطة الأكثر سواداً في تراث محمود درويش الذي كتب: “من يخرج على الشرعية- يقصد قبادم م.ت.ف- يخرج على الإنسانية” ها هي الشرعية تصف العمليات الاستشهادية بالحقيرة!
[1] كانت الجيوش الأوروبية تضع الجنود البيض في المقدمة والسود في الخلف في الاستعراضات وحتى الجلسات العادية.
[2] التطبيع يسري في دمكَ، كتاب عادل سمارة الصادر 2010 في بيروت عن دار أبعاد.
[3] لم يتحدث غرامشي عن هيمنة واحدة كما يروج تجار الثقافة اليوم بل تحدث عن رد هيمنة الطبقة العاملة وصراعها مع هيمنة البرجوازية في الدولة القومية. أفادتنا تجربة ليبيا اي العدوان الغربي /الناتو من الجو وجزئيا من الأرض ومشاركة دول الريع النفطي العربية لهذا الغزو من الأرض مدعومة بثوار الناتو اي المجموعات الهجرية واللبرالية التابعة للغرب الرأسمالي بان صغنا هذه المصطلح الهيمنة الثالثة التي تتبلور كما يبدو على صعيد خارج البلد الواحد بمعنى تغيير الغرب من دوره في الاحتلال المباشر بما هو مكلف حال العراق وأفغانستان وبالتالي اعتماده في الأرض على عملائه المحليين. هذه الهيمنة الثالثة شراكة إذن بين الشركات المعولمة وخاصة شركات النفط والسلاح وكبريات المصارف وبالطبع الطبقات الحاكمة في المركز وعملائها الكمبرادور في المحيط. كيف ستتطور هذه الظاهرة…سنرى.
[4] Said Edward Representations of the Intellectual p. 57
[5]After getting his agrégation Bourdieu worked as a lycée teacher at Moulins from 1955 to 1958 when he then took a post as lecturer in Algiers During the Algerian War in 1958-1962, Bourdieu undertook ethnographic research into the clash through a study of the Kabyle peoples, of the Berbers laying the groundwork for his anthropological reputation. The result was his first book, Sociologie de L’Algerie (The Algerians), which was an immediate success in France and published in America in 1962.( a b c d The Guardian obituary, Douglas Johnson 28 January 2002)
[6] لم يتطرق بورديو بشكل ملفت إلى المحيط، رغم أنه فرنسي عاش حقبة فرنسا الإمبريالية والمعولمة بامتلاء، وعاش في الجزائر في فترة الثورة. ومن بين الحقول الرئيسية في المجتمعات المعاصرة، يضع بورديو الفنون، والتعليم، والسياسة والقانون والاقتصاد. بينما يرى أن مجتمعات أخرى مثل شعب القبايل (كما يسميه الأوروبيون) ، لم تُطور حقولاً مستقلة كهذه، بل ركزت على العلاقات الاجتماعية ، النظم، تراكم راس المال وإنتاج هابيتوس للحقل الاجتماعي الأوسع.
[7] أنظر دراسة عادل سمارة استحقاق ايلول: من الحياة مقاومة إلى الحياة مفاوضات في نشرة كنعان الإلكترونية https://kanaanonline.org ، الأعداد 2716، 2718، 2720/ 2723، 2724، ومجلة كنعان الورقية العدد 147 خريف 2011.